يمكن تعريف تقدم المجتمعات ، باعتباره سيطرة العلم على ثقافتها بمفهومها الشمولي . اي يصبح العلم مرجعية اساسية في انتاج الافكار والاراء والسلوكات بالنسبة "للمواطنين" المكونين لها. فمن ضمن العوامل الأساسية التي ادت الى تقدم المجتمعات الغربية هو تحالف موضوعي بين انتصارات العلم على الايديولوجية المهيمنة من جهة، والطبقات الاجتماعية التي حولت هذه الانتصارات الى وقود اجتماعي وسياسي للتغيير من جهة اخرى .العلم الذي نقصده ليس مجرد نظريات وقوانين تقنية، بل نمط تفكير يعتمد على منهجية التفكير العلمي المبني على دياليكتيك بين النظري المنطقي البرهاني الرياضي ، والواقعي التجريبي . و المعتمد على مبادئ مثل الروح النقدية والنسبية والموضوعية . ان المتأمل للثقافة المهيمنة في المغرب ، سوف يلاحظ شبه غياب لآليات التفكير العلمي حيث تسود اضطرابات على مستوى منهجية التفكير و تصبح الانفعالات في غالب الاحيان الصانعة للمواقف والسلوكا ت، فتتغيب العقلانية و الحقيقة الموضوعية النسبية، ليحل محلهما التفكير الخرافي و الحقيقة الذاتية المطلقة ؛ "فاول ما يطالعنا في اضطراب منهجية التفكير في الذهنية المتخلفة هو سوء التنظيم الذهني في التصدي للواقع .تقترب الذهنية المتخلفة من الواقع و تتعامل معه دون خطة مسبقة ذات مراحل منطقية واضحة سلفا .حيث تسود الفوضى و التخبط وانعدام التماسك"( مصطفى حجازي ، سيكولوجية الانسان المقهور ) . العجز على التملك المعرفي للذهنية المتخلفة للواقع، وصعوبة التكيف مع احداثه "يجعل الانسان المتخلف يغرق في تيار جارف من الانفعالات ، حيث يفقد السيطرة على الواقع ويدفع به الى الارتماء في التفكير الخرافي و الغيبي"(نفس المرجع السابق).
الابتعاد عن نمط التفكير العلمي يصبح كلعنة تصيب مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية من اسرة و اعلام .... و حتى المدرسة التي من المفروض ان تكون الحاملة لهذا التفكير ، تصبح مشتلا لانتاج التخلف و العقم المعرفي والبؤس الفكري والفقر العلمي . حيث الملاحظ لمختلف الاصلاحات التي عرفتها المدرسة المغربية ، غياب تصور شامل ينطلق من دراسات علمية لأزمتها، ويقترح حلول موضوعية لتجاوز هذه الازمة و يضع خطة للاهتمام بالثقافة العلمية عبر منهاج يضع كهدف اساسي هو ربط ثقافة المجتمع بالعلم . فلقد خضعت جميع مشاريع الاصلاح لتوافقات وحسابات سياسوية ايديولوجية نظريا ، و مقاربات موازاناتية حساباتية ضيقة على مستوى التنفيذ .كما انها تفتقر للاهتمام اللازم لتدريس العلوم وتقريبها للمتعلمين و تتبنى طرق تقليدية و روتينية لتعليمها ، تساهم بشكل كبير في غياب الدافعية اللازمة للمتعلمين للاقبال عليها . وهذا ما تثبته مختلف الدراسات التي قاربت التوجيه الى الشعب العلمية. فالمواد العلمية في المغرب تدرس بطريقة صورية ميكانيكية ، تتحول معها الارقام و الخصائص و القوانين إلى هياكل عظمية بدون روح ، و تفتقد الى منهجية الاكتشاف والمبادرة وبناء الحقيقة العلمية من طرف المتعلمين ولا تلامس حياتهم و الاشكاليات العلمية المرتبطة بواقعهم. فبدل أن تدفع هذه المواد التلميذ الى المتعة بالعلم و التسلح بادوات تفكيره من منطق رياضي و منهج تجريبي وتبني النسبية و التفكير النقدي، تدفعه الى سجن الملل ومنطق التقبل و الحفظ و التكرار و الدوغمائية و الوفاء في ارجاع المعلومات التي ملأت جمجمته و واقتحمتها بدون ضيافة علمية و ما تتطلبه من تساؤلات ونقد وفهم و تحليل واستيعاب. العلم كما يدرس في مدارسنا هو بدائي و عقيم "العلم من دون نظرية معرفية يبقى مشوشا و بدائيا "( اينشتاين ،تاملات في الفيزياء الحديثة ،علي الشوك)، و يشجع على انتاج متعلمين مشوشين و دوغمائيين مستعملين للعلم غير مستوعبين لمنهجه ، يتعاملون معه بشكل ادواتي ميكانيكي حيث يفصلون بينه و بين روحه في تفكيرهم و مواقفهم ( هذا مايفسر الانتاج المزدهر لكليات العلوم للاصوليين).
.كما ان طرق التقويم تجعل من المشهد اكثر درامية ، حيث لا تعتمد على منهجية علمية في وضعها ،و تحدد كهدف " الارجاع " بدل " الابداع " عبر مفهوم ضيق " للعقد الديداكتيكي" بانتاج تقويمات متشابهة اصبحت مع الوقت تكرار لتمارين صورية ، للنجاح فيها يلزم فقط حل العدد الاكبر منها ( التعامل مع كتب "الباك" تمارين و حلول في مختلف المواد العلمية يجسد هذا المنطق ).اما عدم الاهتمام بتشجيع المنهج التجريبي فقد اصبح استعراضيا ، حيث يفتقر المنهاج المتبع لبرامج تشجع هذا النوع من التفكير، و الوسائل اللازمة لذلك من مختبرات حقيقية و ادوات مخبرية وتكوينات اساسية للاساتذة في هذا المجال. فتتحول التجارب الى لي للواقع او استيهام نظري مشوه له ، بدل ان تكون تتويجا لمنهج تجريبي يعتمد سلسلة من الخطوات : الملاحظة و التساؤل والافتراض و الرجوع للواقع عبر التجربة لامتحان الفرضيات .
اما اشكالية ربط الثقافة بالعلم فهي بعيدة كل البعد عن مقاربة مسؤولي التربية والتكوين في هذه البلاد ، فالمواد تدرس كجزر مستقلة وفي غالب الاحيان متناقضة و تفتقد للثقافة العلمية من فلسفة العلوم و تاريخها و تبسيط لها و لمختلف الباراديغمات و النقاشات المهمة التي عرفتها. كما انه يلاحظ غياب الكفايات المنهجية العلمية المستعرضة في المواد المختلفة ، وتتحول التناقضات في الكفايات المنتظرة منها الى ميكانيزمات لعدم التماسك و الفوضى المعرفية لدى المتعلم .اما الحياة المدرسية فانها تعاني من غياب للثقافة العلمية ، حيث تفتقر الى انشطة موازية لتشجيع هذه الثقافة وتبسيطها و فتح مجالات وفضاءات لتصالح المتعلمين مع العلم واكسابهم الدافعية لدراسته . كما ان المكتبة المغربية تفتقد الى كتب و مجلات باللغة العربية و موجهة لمختلف المراحل العمرية تعنى بتبسيط العلوم وشرحها .مما يجعل من الثقافة العلمية ثقافة نخبوية جد ضيقة و يساهم في جمهرة ثقافة الخرافة والتخلف.
في رسالة الى المدرسين وجهها العالم الكوني hubert reeves في كتابه الجميل "آخر مستجدات الكون"، تصلح ان تكون رسالة ايضا للقائمين بالشان التربوي في هذه البلاد ( رغم انه لاتنقصهم آذان، بل يعرفون ان العلم لدى الشعب سلاح سيقضي على مصالحم) :" ان التدريس المدرسي و الجامعي يهتم اكثرو باستمرار بالجانب الصوري للعلوم. فهو يهمل التاريخ و الابعاد الفلسفية للمعارف العلمية .و لا يبحث على ادماج هذه المعارف في واقع العالم و الحياة و الذات. ولا يرقي التفكير في تاثيرهم الاجتماعي .هو ببساطة يفصل العلم عن الثقافة "
إن التاريخ يعلمنا ان العلم هو الذي حرر الانسان من الخوف و جعله يصنع واقعه و ينتصر على قصوره وعجزه امام الطبيعة ، و هذا اكبر كابوس لكل نظام مستبد يعتمد التجهيل والخرافة لاستمرارية حكمه ، فالتجهيل سلاح المستبدين و المتجرين بالاوهام.
فالعلم هو الحل .