تقديم عام
الكتاب لمؤلفه إبراهيم اسعيدي، وهو مُؤلف من الحجم المتوسط، يشغل 120 صفحة، نُشر ستة 1995، مطبعة التوفيق بالرباط. ولقد ارتأيت تقديم بعض مما جاء فيه، بتصرف، وذلك لاستمرارية ورود معظم الأفكار المضمنة فيه. فبالرغم من مرور 15 سنة على النشر، فإن متضمنات الكتاب مازالت مطروحة للتساؤل، والتأمل، وتعميق الرأي، والنظر.
سنقسم المحتويات المنتقاة إلى أقسام ثلاثة: نخصص القسم الأول لعلاقة التعليم بالتنمية، والثاني لمظاهر أزمة التعليم، والثالث لمعالجة الأزمة. أما الخاتمة العامة، فسنضمنها بعضا من معطياتنا، كأمثلة تؤكد أننا مازلنا، رغم الإصلاح، وإصلاح الإصلاح، لا نصلح شيئا.
1. التعليم والتنمية
أصبح السباق اليوم سباقا تربويا تعليميا، تُعتبر التقية فيه هي العلم حين يصير ثقافة. ولم يعد بلوغ التقدم ممكنا بدون سياسة تعليمية قادرة على تكوين مؤهلين يتحكمون في العلم، والتقنية.
إلا أن دول الجنوب لا تنتج ماديات السعادة، بل تستوردها، ولا تُبيِّىء المعرفة في الوسط الاجتماعي، ولا تستنبتها استنباتا يُنبت القيم الحضارية، والذوقية المحلية، بل تأخذها من الخارج بقيم، وأذواق أصحابها.
إن هذه الدول لا تلد التكنولوجيا من أحشائها، لذلك تعجز عن تحقيق التحول الثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي الرهين بالابتكار التقني، وتشغيله، وتطويره، وجعله ملائما للواقع المحلي للمجتمع، وثقافته، محميا من خطورة الاستيراد العشوائي التابع.
وفي العصر الحالي، يتوقف خوض غمار الثورة التكنولوجية على جودة التعليم، وكفاءات خريجيه، لا على كثرة الجيوش، أو ارتفاع نسبة السكان، أو اتساع مساحة البلدان. ويكفي دليلا أن ألمانيا واليابان استجمعتا القوى بعد الحرب العالمية الثانية في ظرف عشرين سنة بفضل إنجازات البحث العلمي، بينما تعود الهزيمة التاريخية في حرب يونيو 1969 إلى كون الجندي المصري لم يكن له مستوى يُؤهله لتجاوز استعمال البندقية العادية إلى الأسلحة المتطورة.
تقتضي التنمية القضاء على البطالة، والفوارق الاجتماعية، وتحقيق التقدم العلمي، والتكنولوجي، والاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي، وغير ذلك من شروط السعادة التي يحلم بنيلها مجتمع معين في أرض معينة.
وإذا كان الإنسان، اليوم، حل محل المواد الخام، والأولية، والإمكانات المادية في الاستثمار، فإن الاستغلال في التعليم، والإنفاق عليه، وجعله أولى الأولويات هو الذي يُنتج المتعلم المطلوب القادر على العطاء التنموي المُبتغى.
وتعد الجامعة الرحم المُكون للموارد البشرية التي يمكن أن تنتج العلم والتكنولوجيا، وتمكن من الاستقلال الاقتصادي، والثقافي، وتواجه تحديات التنمية، لكن ذلك مرتبط بقدرتها على مسايرة التطورات، وتتبعها، ومواكبة المعارف المتخصصة.
فهل الجامعات العربية مواكبة، ومُبدعة، ومُبتكرة؟ لو كان الجواب بالإيجاب، لما كان. تعليمنا متأزِّما، ولما كان لمظاهر الأزمة هذا التعدد، والتنوع، والتكاثر.
2. من مظاهر أزمة التعليم
تتجلى هذه المظاهر على مستويات عدة، منها، مستوى الرؤية، والمناهج، وطبيعة تكوين الخريجين، وهجرة الكفاءات، والمستوى الداخلي للتعليم نفسه.
على مستوى الرؤية: نحن أمة بدون رؤية، فكيف يكون لدينا تصور للتعليم؟ فالصهيونية قبل أن تكون واقعا ملموسا، كانت، أولا، رؤية. أما العالم العربي، فمنعدم الرؤية، لأن أنظمته تعاني من عدم التواصل السياسي مع شعوبها بسبب الهاجس الأمني، وانشغالها بالأمن دون غيره.
إن غياب الرؤية ينعكس في تهميش التعليم، وعدم إدخاله ضمن الأولويات الأولى. ومن الشواهد على ذلك أن ما يُخصص لتعليمنا ضئيل جدا مقارنة مع ما تُخصصه دول أخرى كأمريكا، وإسرائيل. زد على ذلك عوامل هدر النفقات، وعدم ترشيدها، بحيث لا يتحصل إلا القليل، وإن صرف الكثير.
فالمسؤولون ينظرون إلى التعليم على أنه استهلاكي، غير إنتاجي، لذلك، تُقلص رواتب المُدرسين، وتُضعف مقدرتهم على امتلاك وسائل البحث العلمي المتخصص. كما أن وضعية المتمدرس، المادية، والمعنوية، مزرية، وما يُعطى من منح، بالإضافة إلى محدوديته، لا يكفي لأبسط متطلبات المعيشة.
حُورب النضال الطلابي، وقُمعت حرية الأستاذ في الرأي، جزئت الجامعات على هوامش المدن، وفي الوقت الذي تحلم فيه نُخبها بتحوُّلها إلى قطاع للعلم، والمعرفة الأصيلة، الحقيقية، يريد الساسة أن يجعلوها أداة لخدمة الإديولوجيات السياسية.
مازال المسؤولون في الجامعات يُعينون، ولا يُنتخبون، وميزانيات التسيير المادي تابعة، غير مستقلة، وأخذ القرارات، والتسيير التربوي محكوم بآليات فوقية، تخضع لشروط التدبير الإداري الضيق.
على مستوى المناهج: مناهجنا غير متكيفة مع محيطنا الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، وهي نظرية، تجريدية أكثر مما هي عملية، تطبيقية. فكونها مُستوردة يجعلها لا تتطابق مع خصوصيات مجتمعاتنا. ثم إنها مُتجاوزة لا تُواكب التطورات العلمية، والتكنولوجية. إنها برامج تُمليها مؤسسات مالية دُولية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وكل ذلك بدعوى التعاون الدولي، وتحت غطاء المساعدة الدولية.
على مستوى تكوين الخريجين: خريجونا ضعيفي المستوى، محدودين، سلبيين، وانسحابيين، همومهم مادية ضيقة، ليس لديهم معاناة فكرية، ولا سياسية، يحملون الشهادات، ولا يحملون الوعي، والثقافة، لا يُحاربون الجهل، والأمية، يتحولون، بالتدريج إلى عبء على الدولة، وينطبق عليهم ما يسميه بعض الباحثين " بمرض الشهادة" أو " ميكانيكية التأهيل المدرسي".
على مستوى الكفاءات: المتعلمون الأكفاء، منا، أكثرهم يُهاجر بحثا عن الاستقرار، والجو المناسب للتعبير عن الخبرة، يهربون من الاضطراب الناتج عن غياب المشاركة، والتعددية، والديمقراطية. وإذا كانت هجرة الكفاءات تُعيق التنمية، وتُؤخرها، فإننا لا نهتم، إذ ليس لدينا هم التنمية، فعلا، رغم ادعائنا ذلك.
على مستوى التعليم نفسه: مستوانا التعليمي يتدنى، إن لدى المُدرسين أو المتمدرسين، والمكانة الاجتماعية للمدرس تتراجع، والنظرة السلبية للتعليم الجامعي تتكرس، وأوضاع الأساتذة تتقهقر، ماديا، ومعنويا، ويوما عن يوم تزداد المعاناة من ضغوط الاكتظاظ، وسُلطوية التسيير الإداري، وغياب المرافق الثقافية، والرياضية، وضعف التجهيزات، وقلة الأقسام، والمدرجات، وتخريج جيوش العاطلين، وعدم شغْل الخريجين لمناصب تُلائم تخصصاتهم، ونُخبوية التعليم، وعدم تعميمه، وتعقُد الولوج إلى السلك الثالث، وارتفاع التكاليف، وعدم تكافؤ الفرص بين أبناء الشعب، بحيث صارت كليات الحقوق والآداب ملجأ أبناء الشعب، واستفرد الفئات الميسورة بالتعليم، إما الخاص، أو في الخارج.
3. معالجة أزمة التعليم
يُميز الكتاب بين ثلاثة اتجاهات في معالجة التعليم: اتجاه تقليدي محافظ، ضيق النظرة، يعود، في مصدره، إلى مواجهة المد الاستعماري، ويدعو إلى محاربة القيم والأخلاق الدخيلة. أما الاتجاه الثاني، فتكنوقرطي، لا يُراعي الأبعاد الحضارية، والثقافية، والاجتماعية في وظيفة التعليم، هدفه مادي، يسعى إلى تكوين نوعين من الأطر: نوع يُسير دواليب الدولة، وآخر يستجيب لحاجات الشركات، والمقاولات، والأبناك، وأما الاتجاه الثالث، فشمولي يرى أن الحل يقتضي مواجهة التركة الاستعمارية التي تتجلى في الهياكل، والنخبة، والثقافة المُتوارثة، ومحاكمة السياسة التعليمية التي اتُبعت منذ الاستقلال إلى اليوم: سياسة اتسمت بالارتجال، والعشوائية، والنخبوية، والتبعية، سياسة خرجت فئات تختص بتمجيد الإيديولوجية السائدة، تُطيعها، وتخضع لها، وتُشغل أجهزتها البيروقراطية، وتخدم علاقاتها الخارجية. ومن نماذج الأسئلة الوردة للمحاكمة: متى تضمنت السياسة التعليمية للأمة تصورا لدور التعليم في التنمية، وفي التحول الاجتماعي، وفي الاستجابة لمتطلبات المجتمع العصري، وتحديد المواطن المنشود، والوطن المُراد؟ متى كان التعليم مطلبا حضاريا، ووسيلة لاكتساب المعرفة العلمية الحديثة؟ متى حققنا، فعلا، الاستقلال الإداري، والمالي، والعلمي، والتسيير الديمقراطي لتعليمنا؟ متى كانت الرقابة على أبحاثنا علمية لا إدارية؟ متى انتهجنا خطط صناعة المعلومات لا اجترارها؟ متى صممنا خططا لتعليم البحث، والابتكار، والإبداع بدل التلقي، والاستظهار، والتكرار؟ هل أخرجنا الجامعات من الزبونية، والشخصية، وأدخلناها في العلاقات التعاقدية البناءة مع المحيط الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي؟ هل نستفيد، حقا من المناهج العصرية الحديثة؟ متى كان لدينا هم تكوين خبرات محلية تُغنينا عن الأجبية؟ هل صغنا قوانين تضمن للأكفاء الشروط المادية، والاجتماعية، والعلمية حتى لا يهاجروا، ويفيدوا بلدانهم في التقدم والتنمية؟ ثم هل فكرنا يوما، بجدية، في تطوير علاقات جنوب – جنوب؟
خاتمة عامة
إن ما تضمن الكتاب مازال حيا يعيش في قطاعاتنا التعليمية، وإن الأمثلة التي تؤكد ذلك، تستعصي على الحصر، فمثلا، هل نجد في أدوات مطبخنا البسيطة، منها، شيئا من قبيل: صُنع بالمغرب، كما نجد: made in china, made in italy, made in France؟ هل توجد العلامات العربية، وإن قلت، لمواجهة العلامات الأجنبية المتكدسة فيما نلبسه، ونأكله، ونشربه، ونركبه؟ ألا تمنع كثير من الدول المتقدمة دخول اللعب الصينية الصنع إلى أسواقها خوفا من الضرر الذي قد تتسبب فيه لأطفالها، بينما تمتلئ أسواقنا عن آخرها بهذه المصنوعات؟
يمكن أن تقيس على ذلك كل المكونات في كل القطاعات، بما فيها مجال المناهج الدراسية. ففي الكتب المدرسية المستوردة، نجد معارف لا تتلاءم مع واقع أطفالنا. فعلى سبيل المثال، خذ كتابا من كتب القراءة المخصصة للتعليم الابتدائي في مدرسة من المدارس الخاصة التي تُكلف الآباء ميزانية مادية باهظة، ستجد مبدأ عدم التفريق بين تعليم اللغة، وتعليم المعارف بارزا. فالكتب تتحدث عن معارف فرنسية، وتسمي أبطال القصص، والنصوص بأسماء فرنسية. وهكذا، لا يتعلم طفلنا اللغة الفرنسية الناقلة لمعارف مغربية تعرف بمدننا، وشواطئنا، وتاريخنا، وتسمي شخوصها ب Rachid, Zainab, Mohammed, Ali, hind… بل يتعلم اللغة الفرنسية التي تنقل معارف صُنعت، وصيغت، في الأصل، وخصيصا للطفل الفرنسي.
وفي التسيير الإداري، تصطدم بأشخاص ما أن يسند لهم منصب رئاسة مؤسسة حتى يتحولون إلى إقطاعيين، يعتبرون المؤسسة ضيعة من ضيعاتهم، موظفيها عبيدا، وموظفاتها جواري، عليهن القبوع في الأركان. يجعلون ميزانية التسيير شأنا خاصا لا حق لأحد الاطلاع على أسراره. يعقدون الندوات، ويفسحون المجال للذين يخدمون مصالحهم الشخصية الهمجية الضيقة، ويقطعون الطريق على غيرهم ممن يعتدون بالأخلاق العلمية. إن هؤلاء، وأمثلتهم، في قطاع التعليم، وغيره من القطاعات، هم الذين يدفعون بالكفاءات إلى الهجرة، والبحث عن أوطان أخرى للتفتق، والإبداع.
وفي الجامعات، يأتي الطالب، ولسان حاله يقول: أريد شهادة قد تضمن لي ملبسا، ومسكنا، ومأكلا، أما البحث العلمي، والتفكير، والإبداع، والتعبير، والتكوين الشخصي، فقد تركته لهؤلاء الذين ينعمون بالاستقرار، والدفء، والأمان الاجتماعي.
وعموما، يمكن لكل من قرأ الكتاب أن يستحضر ملايين الأمثلة الدالة على أن إصلاح تعليمنا لا يتوقف على توالي الإصلاحات، وتكرارها، وتجديدها، وتغييرها، بل على إصلاح المجتمع في كليته، وليست كلية المجتمع شيئا آخر غير الإنسان، وقضاياه الداخلية النابعة من همومه، وأحلامه الخاصة.