هناك مقطع من محاورة الجمهورية يتحدث عن "الأسرة الثلاثة"، حيث يميز أفلاطون بين ثلاثة أنواع من الأسرة: فكرة السرير التي خلقها الإله، والسرير المصنوع من قبل النجار، وأخيرا السرير الذي صوره الرسام. فكرة السرير هي الأكثر واقعية، إذ إليها يوجه النجار نظره لكي يصنع سريرا ملموسا وخاصا. أما السرير الذي يصوره الرسام فما هو إلا محاكاة لسرير النجار، وبهذا فهو مبتعد عن "الواقع" الحقيقي بثلاث درجات، بما هو ليس سوى صورة الصورة. هذه اللاحقيقة المزدوجة لا تمثل" الشيء كما هو في الواقع"، وإنما "ما يظهر كما يظهر". وبالتالي فما الرسام غير أفاق، وما الصورة غير "سيمولاكر" أو نسخة خداعة. إلا أن رهان أفلاطون لم يكن فقط متعلقا بتبيان طبيعة الصورة وإنما كان أيضا رهانا أخلاقيا وسياسيا، إذ خطورة الصورة تكمن في كونها تدعي الواقعية بينما هي ليست سوى"سيمولاكر"(نسخة مشوهة للواقع). لذلك دعا أفلاطون إلى المراقبة الصارمة للفنانين داخل المدينة. هذه " الإكونوفوبيا"(رهاب الصورة) التي تزامنت مع لحظة التأسيس في تاريخ الفلسفة، والتي عبرت عن حيثيات فعل التأسيس ذاته، بما هو انتقال ثوري من الميتوس إلى اللوغوس، من نمط التفكير الأسطوري الذي كان على مستوى الشكل تقليدا شفهيا متوارثا يستعمل لغة التصوير والتشخيص وعلى مستوى الرسالة مستهدفا للتأثير الوجداني الحسي، إلى نمط التفكير العقلي، الذي تجلى في شكل أدب مكتوب يشتغل بالمفاهيم المجردة ومستهدفا التفكير النقدي للقارئ. هذا الرهاب، وتحت التأثير العميق لأفلاطون، ظل ملازما، بأشكال صريحة تارة ومضمرة تارة لتاريخ الفلسفة، وعلى الخصوص ما قبل المعاصرة. بيد أن ما يهمنا هنا هو أن هذا الرهاب انتقل إلى مدرس الفلسفة بما هو صديق للفيلسوف، وبالتالي صديق لنصه المكتوب، ونصير لمفهومه المجرد، إذ قلة هم الأساتذة الذين يقاومون الشعور بذنب الخيانة وبجريمة امتهان المفهوم المجرد، وهم يوظفون دعامة بصرية أو سمعية- بصرية في الدرس الفلسفي. هذا الخوف ليس صدى لتاريخ إيكونوفوبيا الميتافيزيقا فحسب، بل يجد ما يبرره في الواقع الثقافي المعاصر. فالإعلام السمعي البصري(التلفزة والأنترنيت) يستأثر بالحصة العظمى من وقت الأطفال والمراهقين، حتى أنه أصبح يبدو "مدرسة مضادة"، خاصة أنه يقدم دفقا من الصور و المعلومات التي تخلط بشكل خطير بين الصواب و الخطأ على المستوى القيمي ، وبين الواقع و الخيال . كما يقدم الكثير من العنف المجاني . و يقترح أحيانا نماذج من السلوك المنحرف.
و هو مدان بالإضافة إلى ذلك، بسبب المكانة التي يمنحها للإشهار ، بحيث يبدو كرمز لمجتمع الاستهلاك و لسهولته و متعه ، في تعارض مع فضائل الجهد و العمل التي تمثلها
المدرسة. وكل هذا عبر نسق خاص من العلامات له أبجديته ونحوه(المشاهد واللقطات وتقنيات الربط والقطع والتوظيب)، وعبر خطاب له استراتيجياته الحجاحية التي تعتمد على الومضات المتتالية، التي لا تترك للذهن فرصة للتحليل والتفحص، كما يعتمد مبدأ "الترابط السلوكي" في الربط بين المنتوجات التجارية وبعض القيم الإيجابية أو المعتبرة إيجابية، على نحو استيهامي( بين مشروب معين وبين البطولة والتميز
مثلا)، فضلا عن سيادة ما أصبح يعرف ب"تلفزيون الواقع télé-réalité" والتغطية الحية للأحداث في القنوات الكبرى اللذان يعطيان انطباعا بأننا أمام الواقع الحي ماشرة( على الرغم من أن الأولى تنقل واقعا مكرسا للتصوير أصلا وبالتالي مصطنع والثانية تتعامل عين الكاميرا فيه مع الأحداث بانتقائية مغرضة).
كل هذا يعطي مبررا للإيكونوفوبيا الفلسفية، خاصة إذا استحضرنا خصوصية الدرس الفلسفي، إذ الفلسفة كدرس أو كتحويل ديداكتيكي للمعارف الفلسفية، تروم تحقيق مجموعة من الكفايات لدى المتعلم ، أهمها التفكير النقدي الشخصي والحر، كما أن الدرس الفلسفي يسعى إلى تمكين المتعلم من آليات التفكير الفلسفي و نقصد المفهمة و الأشكلة والمحاجة. هذه الآليات الأساسية لكل تفكير سليم منفتح على الحوار و النقد و اللادغمائية
.
يبدو إذن أن هناك نوعا من التعارض بين خطاب الصورة - السمعية البصرية على الخصوص- والدرس الفلسفي. لكن ما طبيعة هذا التعارض؟ هل هو تعارض ما هوي مطلق؟
لنرجع إلى تاريخ الفلسفة، ولنبدأ بأفلاطون نفسه الذي، وإن كان قد اتخذ موقفا نقديا من الفن بشكل عام ومن التصوير بشكل خاص، فإنه لم يعمم هذا الموقف على جميع أنواع الصور، وإنما انتقد فقط تلك التي تحاول أن تحاكي الواقع وتقدم نفسها على أنها نسخة طبق الأصل من حقيقته، وذلك باستخدام تقنيات توهيمية مثل المنظور وتصغير الأشياء البعيدة وهذا لن يكون إلا نوع من الخداع. لذلك فضل أفلاطون التصوير المصري الفرعوني القديم، حيث تظهر الصورة لا واقعيتها في ذاتها. إننا إذن أمام ثنائية النزاهة و الخداع، وهي ثنائية تعبر عن رهان أخلاقي قبل كل شيء، ناهيك عن الرهان المعرفي.
بيد أننا، وانطلاقا من نفس الرهانين، نجد تقليدا فلسفيا آخر أكثر تقديرا للصورة، ينتسب إلى تلميذ أفلاطون نفسه. إنه أرسطو الذي يرى في تأمل صورة "محاكية" مناسبة لما يسميه بالتطهير la catharsis، ويعني به تهذيبا معينا للأهواء، إذ لا تدفعنا مشاهدتنا لمشهد عنيف إلى سلوك العنف، بقدر ما تحررنا منه. غير أن أرسطو لا يتعارض مع أفلاطون بخصوص التقييم الأخلاقي للصور فحسب، بل إنه يرى في ملكة إنتاج الصور عبر المحاكاة لدى البشر، خاصية طبيعية لها دور معرفي:" فالبشر مجبولون طبيعيا منذ الطفولة على المحاكاة(والإنسان يختلف عن بقية الحيوانات بحضور هذه الملكة لديه أكثر من غيره وبأنه يكتسب أولى معارفه بواسطة المحاكاة)... ومن هنا فنحن نحب مشاهدة الصور، لأننا في نفس الآن الذي نتأملها فيه، نتعلم ونفكر استدلاليا في الأشياء". إنه قلب مدهش للإشكالية الأفلاطونية، إذ عوض التركيز على البعد الخداعي للصورة، رأى فيها أرسطو، على العكس من ذلك، طريقا ملكيا للمعرفة. فتأمل الصورة ،إذن، ليس إغواء سلبيا وإنما هو نشاط فعال يسعى إلى المعرفة والفهم[1].
خمس وعشرون قرنا بعدا ذلك، استعاد الفيلسوف الأمريكي Nelson Goodman هذه الفكرة القوية، بدفاعه عن أطروحة أن العلم والفن لا يتعارضان تناقضيا، لأن التجربة الجمالية هي نفسها تجربة معرفية. فنحن لا ننتظر من نشاطنا المعرفي أن يمدنا بحقائق وحسب، بل أيضا بإحساس بفهم أحسن للعالم. والصور ، من خلال نمط الرمزية الذي يميزها، يمكن أن توسع من فهمنا للعالم. هكذا قارنتCatherine Z.Elgin في كتابها"قراءة غوودمان" "Lire Goodman" ، بين لوحة La Pietà لميشيل أونج Michel- Ange(1499) والوجه الأيسر من لوحة Guernica لبيكاسو Picasso(1937). في كلتا اللوحتين يتعلق الأمر بامرأة تحمل بين ذراعيها طفلها الميت، لكن الأولى تترجم معنى الحزن، بينما الثانية تعطينا إحساسا بديهيا بالألم. وبوضع اللوحتين أمام أعيننا يمكننا، على نحو أدق، فهم ما يميز الحزن عن الألم الممزوج بالغضب. تسمح لنا المقارنة بهذا المعنى، إذن، ب"تهذيب وتنقية الأحاسيس".
غير أننا لم ننسى، كما يمكن أن يظن القارئ، أننا لحد الساعة قد تحدثنا عن الصورة بشكل عام، مغفلين بعد التطور التاريخي لأنماطها ووظائفها، الذي يفرض نفسه بقوة على موضوعنا هذا. لأن العالم الذي عاش فيه أفلاطون ليس حتما هو نفسه عالمنا، والصور التي كانت أمام عينيه ليست لديها كثير من نقاط الاشتراك مع الصور المتلفزة والرقمية التي تهيمن على وجودنا الثقافي والاجتماعي. يحدد ريجيس دوبراي Régis Debray في كتابه "حياة وموت الصور" (غاليمار 1992)، ثلاث أحقاب كبرى في تاريخ الصورة: عصر الأيقونة الدينية الذي استمر حتى ظهور الطباعة، ثم عصر الفن، وأخيرا مع ظهور التلفزة الملونة، عصر "البصري le visuel" إذ لا يعتبر دوبراي ظهور التصوير الفوتوغرافي و السينما منعطفا حقيقيا في تاريخ الصورة، بل إن الفيديو هو الذي فتح هذا المنعطف على نحو حاسم. ومن خلال منهج التحليل الجديد الذي أرساه دوبراي، أي la médiologie [2]، توصل الفيلسوف الفرنسي إلى أن خصائص الفيديو كحامل تقني جديد للصورة قد أحدثت تغييرا جذريا في وظائف هذه الأخيرة، إذ أصبح بالإمكان بثها لحظيا عن بعد، كما أن تكلفتها الرخيصة يسرت تكاثرها وانتشارها الجماهيري. أما التكنولوجيا الرقمية فلم تفعل إلا تأكيد هذه الثورة، وذلك بالزج بنا في الافتراضية المحضة. لم تعد الصورة تحيل على الكائن، وإنما أصبحت تحل محل الكائن، مما يستتبع تغييرا جذريا لعلاقة المشاهد بالصورة:" فيما قبل، كنا أمام الصورة، الآن نحن داخل البصري le visuel"( يمكننا أن نستأذن من دوبراي لنقول أن الأمر أصبح يتعلق ربما، بشكل جديد من "القلب"الأيديولوجي بالمعنى الذي تحدث عنه ماركس في الأيديولوجيا الألمانية) . أليست المماثلة هنا مشروعة بين المشاهد أمام الشاشة، المنغمس في سيل الصور التي تعرضها، كبديل غير اختياري عن العالم الواقعي، وبين الرجال المقيدين في الكهف، والمشدودين إلى الظلال المتراقصة أمامهم معتقدين أنها الحقيقة.
نستنتج مما سبق، أن للتحفظ الأفلاطوني كامل المشروعية في العودة إلى الواجهة، إذ بلغ البعد الخداعي التوهيمي الذي تحدث عنه أفلاطون، مع الصورة السمعية البصرية حده الأقصى: العيش في العالم الافتراضي للصورة والتماثل معه. هذا ما جعل الفيلسوفة Marie José Mondzain توضح في سياق انتقادها لعنف الصورة، أن "صورة معينة ليست عنيفة لأنها فقط تعرض أفعال عنف وجرائم واغتصابات...بل إن الصورة، وعلى الخصوص ذات الهدف الدعاوي السياسي والإشهاري التجاري، هي عنيفة لأنها تقدم نفسها جاهزة للاستهلاك دون ترك المجال لحرية المشاهدة:" أن لا نكون نحن وما نشاهد إلا شيئا واحدا، هذا أمر مميت، وما ينقد من الموت هو دائما إرساء مسافة محررة libérateur"".
إذا ما كان انتقاد الصورة وتقديرها، في الفلسفة القديمة، يمثلان تقليدين فلسفيين متعارضين، فإن الأمر –إذن- يختلف في الفكر المعاصر، إذ نجد لدى نفس الفلاسفة والمفكرين الذين يفكرون نقديا في الصورة، شأن مندزين ودوبراي وبودريار ورولان بارت... تأكيدا على ضرورة التعامل معها. ليس في الأمر تناقض وإنما يتعلق الأمر بموقف تركيبي معقد شأن الواقع المعاصر نفسه. فإذا ما كان هؤلاء المفكرون يعترفون بالهيمنة التي لا رجعة فيها للصورة السمعية البصرية كسياق ثقافي ونسق لغوي جديد غدا"مسكنا للكائن"(بلغة هايدغر)، وإذا ما كانوا ينتقدون الاستهلاك السلبي للصور والتماهي معها، فهم في نفس الآن يؤسسون لأدوات نقدية تتيح تلقيا فاعلا ويقظا للعرض البصري. يتعلق الأمر بدوائر للتفكير في الصورة البصرية تربط بينها نقلات استدلالية، إذ أن دائرتي الوصف والنقد تستوجبان دائرة المواجهة الفاعلة. وكأنهم يقولون: " شاهد الصورة البصرية، لا مناص من ذلك، لكن لا تتماها معها ولا تماهيها مع الواقع، بل حافظ على مسافة فكرية نقدية تفصلك عنها وتتيح لك تفكيك علاماتها". الغريب في الأمر أننا إذا عدنا إلى الأطروحة الأفلاطونية ومحصناها جيدا، فسوف لن نجدها مختلفة نوعا عن هذه المقاربة. إذ عندما يفضل أفلاطون نمط الصورة المصرية القديمة، فإنه يدعو بشكل أو بآخر إلى إدخال عنصر "التغريب" على عملية المشاهدة، بالمعنى الذي نجده في نظرية برتولد بريشت الجمالية.
نتيجة:
ربما تقدمنا، بالقدر الكافي نسبيا، للجواب عن السؤال الذي طرحناه في البداية: ما طبيعة العلاقة التوثرية بين خطاب الصورة وبين خطاب التفلسف كنمط فكري وكدرس تعليمي؟
يبدو جليا مما سبق أن خطاب الصورة بشكل عام، وخطاب الصورة السمعية- البصرية المعاصر بشكل خاص، بقدر ما أصبح يشكل موضوعا أساسيا للتفكير الفلسفي[3]، فإن طموح فهم أبجديته وعلاماته وتفكيك النحو الذي ينتظمها، وكشف نمط العلاقة بين عبقريته البلاغية والواقع، وبين قصديته التأثيرية والمتفرج، قد غدا رهانا لفعل التفلسف، ومن ثمة لعملية تدريس الفلسفة ذاتها، طالما كانت هذه العملية تقوم على مسلمة تعليم التفلسف أكثر من تلقين المعارف الفلسفية.
إلا أن الكفايات الحاملة لقدرات التعامل النقدي مع الصورة البصرية، لا يمكن اكتسابها إلا بالممارسة نفسها، في إطار وضعيات تعلمية ملموسة شبيهة بوضعيات الوجود الثقافي في المجتمع، يتعود فيها المتعلم على تجاوز التلقي السلبي للوثيقة البصرية، ويتمرس على التفكير النقدي فيها، بالإضافة إلى دورها البيداغوجي التحفيزي. مما يعني بداهة: ضرورة حضور الوثائق البصرية، بمختلف أشكالها، كدعامات ديداكتيكية للدرس الفلسفي في مختلف لحظاته.
* نماذج:
- الوثائق البصرية التي ينتجها مدرس الفلسفة ذاته، كخطاطات ورسومات توضيحية، بل يمكنها أكثر من ذلك أن تجسد عمليات الاستدلال وتخفف من تجريديتها لتجعلها في متناول المتعلمين المبتدئين.
- توظيف الصورة البصرية الثابتة(صورة فوتوغرافية، لوحة تشكيلية...) أو السمعية-البصرية(وثائق فيلمية، وصلة إشهارية...) إبان مختلف سيرورات التفلسف التي تعتمل الدرس الفلسفي :
+ استخراج تمثلات المتعلمين الأولية والاشتغال النقدي عليها من أجل تجاوزها، انطلاقا من التأويلات التي يمكن أن يقدموها لمكونات صورة ما.
+ التمهيد للبناء الإشكالي لمفهوم فلسفي معين، انطلاقا من مساءلة لوحة فنية- مثلا- تتجاور في حمولتها الرمزية مع دلالات المفهوم( أنظر تجربة يانيك بيزان Yannick Bézin: مساءلة مفهوم الرغبة انطلاقا من لوحة Michelangelo Merisi dit Caravage, "L'amour vainqueur".[4].
+ الاشتغال بالتوازي على تحليل نص فلسفي ووثيقة بصرية ( لوحة، فيلم)، تيسيرا للفهم وتوسيعا لأفق التفكير.( أنظر تجربة يانيك بيزان: الاشتغال بالتوازي في إطار إشكالية التاريخ على لوحة Holbein, les Ambassadeurs de 1533 ونص Bossuet dans son Sermon sur la Providence prononcé le vendredi 10 mars 1662 à la chapelle du Louvre.) [5]
+ تشخيص وتفكيك العمليات الحجاجية التي يتضمنها الخطاب الفيلمي لشريط سينمائي أو وصلة إشهارية(أستحضر هنا أطروحة الدكتوراه التي أنجزها محمد مشتغلا على تفكيك الحجاج الفيلمي لشريط"دائرة الشعراء الغابرين").
+ إتاحة المجال للمتعلمين من أجل الاستثمار والاختبار التطبيقي لمكتسباتهم المفاهيمية ومهاراتهم المنهجية التي راكموها خلال درس معين أو محور من محاوره، عبر المشاهدة التشخيصية لوثيقة فيلمية معينة، يكون المدرس قد اختارها بعناية، ومناقشتها بعد ذلك جماعيا(درس تطبيقي أنجزته مع متعلمي السنة الثانية بكلوريا – السنة الدراسية 2007- 2008 إبان لحظة التركيب لباب "الحقيقة" من مجزوءة "المعرفة").
المراجع:
- أفلاطون، جمهورية أفلاطون، دراسة وترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985.
-Aristote, La pétique, trad. B.Gernez. Belles Lettres ; « classique en poche », 1985-
-Catherine Halpern, Les philosophe sont-ils iconophobes, Sciences Humaines, Hhors-série n 43, Décembre 2003/janvier-février 2004.
- مصطفى حجازي، حصار الثقافة- بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية، المركز الثقافي العربي1998.
[1] - بيد أننا لا ينغي أن ننسى أن أفلاطون نفسه، اعتمد على الصورة المجازية(إذا ما وسعنا من دلالة مفهوم الصورة)، لكي يعرض و يبسط مفاهيمه الفلسفية المجردة(أمثولة الكهف كنموذج) وبذلك أعطى للصورة دورا منهجيا وبداغوجيا مهما، وهو الشيء الذي فعله معظم الفلاسفة، بل إن منهم من تماهت عنده الصورة الماجزية مع المفهوم شأن نيتشه.
[2] - أنظر الموقع الإلكتروني : médiologie.org www.
[3] - في الماضي كانت الفلسفة تهتم بالصورة البصرية لماما، في إطار مبحث الجمال.
[4] - أنظر Deux expériences de développement du recours
aux images dans le cours de philosophie
par Yannick Bézin, Lycée Léonard de Vinci, Soissons http://gallica.bnf.fr/scripts/ConsultationTout.exe?O=87679&T=2
[5] - أنظر نفس المصدر.(ملحوظة: أنوي ترجمة التجربتين إلى العربية)
يبدو إذن أن هناك نوعا من التعارض بين خطاب الصورة - السمعية البصرية على الخصوص- والدرس الفلسفي. لكن ما طبيعة هذا التعارض؟ هل هو تعارض ما هوي مطلق؟
لنرجع إلى تاريخ الفلسفة، ولنبدأ بأفلاطون نفسه الذي، وإن كان قد اتخذ موقفا نقديا من الفن بشكل عام ومن التصوير بشكل خاص، فإنه لم يعمم هذا الموقف على جميع أنواع الصور، وإنما انتقد فقط تلك التي تحاول أن تحاكي الواقع وتقدم نفسها على أنها نسخة طبق الأصل من حقيقته، وذلك باستخدام تقنيات توهيمية مثل المنظور وتصغير الأشياء البعيدة وهذا لن يكون إلا نوع من الخداع. لذلك فضل أفلاطون التصوير المصري الفرعوني القديم، حيث تظهر الصورة لا واقعيتها في ذاتها. إننا إذن أمام ثنائية النزاهة و الخداع، وهي ثنائية تعبر عن رهان أخلاقي قبل كل شيء، ناهيك عن الرهان المعرفي.
بيد أننا، وانطلاقا من نفس الرهانين، نجد تقليدا فلسفيا آخر أكثر تقديرا للصورة، ينتسب إلى تلميذ أفلاطون نفسه. إنه أرسطو الذي يرى في تأمل صورة "محاكية" مناسبة لما يسميه بالتطهير la catharsis، ويعني به تهذيبا معينا للأهواء، إذ لا تدفعنا مشاهدتنا لمشهد عنيف إلى سلوك العنف، بقدر ما تحررنا منه. غير أن أرسطو لا يتعارض مع أفلاطون بخصوص التقييم الأخلاقي للصور فحسب، بل إنه يرى في ملكة إنتاج الصور عبر المحاكاة لدى البشر، خاصية طبيعية لها دور معرفي:" فالبشر مجبولون طبيعيا منذ الطفولة على المحاكاة(والإنسان يختلف عن بقية الحيوانات بحضور هذه الملكة لديه أكثر من غيره وبأنه يكتسب أولى معارفه بواسطة المحاكاة)... ومن هنا فنحن نحب مشاهدة الصور، لأننا في نفس الآن الذي نتأملها فيه، نتعلم ونفكر استدلاليا في الأشياء". إنه قلب مدهش للإشكالية الأفلاطونية، إذ عوض التركيز على البعد الخداعي للصورة، رأى فيها أرسطو، على العكس من ذلك، طريقا ملكيا للمعرفة. فتأمل الصورة ،إذن، ليس إغواء سلبيا وإنما هو نشاط فعال يسعى إلى المعرفة والفهم[1].
خمس وعشرون قرنا بعدا ذلك، استعاد الفيلسوف الأمريكي Nelson Goodman هذه الفكرة القوية، بدفاعه عن أطروحة أن العلم والفن لا يتعارضان تناقضيا، لأن التجربة الجمالية هي نفسها تجربة معرفية. فنحن لا ننتظر من نشاطنا المعرفي أن يمدنا بحقائق وحسب، بل أيضا بإحساس بفهم أحسن للعالم. والصور ، من خلال نمط الرمزية الذي يميزها، يمكن أن توسع من فهمنا للعالم. هكذا قارنتCatherine Z.Elgin في كتابها"قراءة غوودمان" "Lire Goodman" ، بين لوحة La Pietà لميشيل أونج Michel- Ange(1499) والوجه الأيسر من لوحة Guernica لبيكاسو Picasso(1937). في كلتا اللوحتين يتعلق الأمر بامرأة تحمل بين ذراعيها طفلها الميت، لكن الأولى تترجم معنى الحزن، بينما الثانية تعطينا إحساسا بديهيا بالألم. وبوضع اللوحتين أمام أعيننا يمكننا، على نحو أدق، فهم ما يميز الحزن عن الألم الممزوج بالغضب. تسمح لنا المقارنة بهذا المعنى، إذن، ب"تهذيب وتنقية الأحاسيس".
غير أننا لم ننسى، كما يمكن أن يظن القارئ، أننا لحد الساعة قد تحدثنا عن الصورة بشكل عام، مغفلين بعد التطور التاريخي لأنماطها ووظائفها، الذي يفرض نفسه بقوة على موضوعنا هذا. لأن العالم الذي عاش فيه أفلاطون ليس حتما هو نفسه عالمنا، والصور التي كانت أمام عينيه ليست لديها كثير من نقاط الاشتراك مع الصور المتلفزة والرقمية التي تهيمن على وجودنا الثقافي والاجتماعي. يحدد ريجيس دوبراي Régis Debray في كتابه "حياة وموت الصور" (غاليمار 1992)، ثلاث أحقاب كبرى في تاريخ الصورة: عصر الأيقونة الدينية الذي استمر حتى ظهور الطباعة، ثم عصر الفن، وأخيرا مع ظهور التلفزة الملونة، عصر "البصري le visuel" إذ لا يعتبر دوبراي ظهور التصوير الفوتوغرافي و السينما منعطفا حقيقيا في تاريخ الصورة، بل إن الفيديو هو الذي فتح هذا المنعطف على نحو حاسم. ومن خلال منهج التحليل الجديد الذي أرساه دوبراي، أي la médiologie [2]، توصل الفيلسوف الفرنسي إلى أن خصائص الفيديو كحامل تقني جديد للصورة قد أحدثت تغييرا جذريا في وظائف هذه الأخيرة، إذ أصبح بالإمكان بثها لحظيا عن بعد، كما أن تكلفتها الرخيصة يسرت تكاثرها وانتشارها الجماهيري. أما التكنولوجيا الرقمية فلم تفعل إلا تأكيد هذه الثورة، وذلك بالزج بنا في الافتراضية المحضة. لم تعد الصورة تحيل على الكائن، وإنما أصبحت تحل محل الكائن، مما يستتبع تغييرا جذريا لعلاقة المشاهد بالصورة:" فيما قبل، كنا أمام الصورة، الآن نحن داخل البصري le visuel"( يمكننا أن نستأذن من دوبراي لنقول أن الأمر أصبح يتعلق ربما، بشكل جديد من "القلب"الأيديولوجي بالمعنى الذي تحدث عنه ماركس في الأيديولوجيا الألمانية) . أليست المماثلة هنا مشروعة بين المشاهد أمام الشاشة، المنغمس في سيل الصور التي تعرضها، كبديل غير اختياري عن العالم الواقعي، وبين الرجال المقيدين في الكهف، والمشدودين إلى الظلال المتراقصة أمامهم معتقدين أنها الحقيقة.
نستنتج مما سبق، أن للتحفظ الأفلاطوني كامل المشروعية في العودة إلى الواجهة، إذ بلغ البعد الخداعي التوهيمي الذي تحدث عنه أفلاطون، مع الصورة السمعية البصرية حده الأقصى: العيش في العالم الافتراضي للصورة والتماثل معه. هذا ما جعل الفيلسوفة Marie José Mondzain توضح في سياق انتقادها لعنف الصورة، أن "صورة معينة ليست عنيفة لأنها فقط تعرض أفعال عنف وجرائم واغتصابات...بل إن الصورة، وعلى الخصوص ذات الهدف الدعاوي السياسي والإشهاري التجاري، هي عنيفة لأنها تقدم نفسها جاهزة للاستهلاك دون ترك المجال لحرية المشاهدة:" أن لا نكون نحن وما نشاهد إلا شيئا واحدا، هذا أمر مميت، وما ينقد من الموت هو دائما إرساء مسافة محررة libérateur"".
إذا ما كان انتقاد الصورة وتقديرها، في الفلسفة القديمة، يمثلان تقليدين فلسفيين متعارضين، فإن الأمر –إذن- يختلف في الفكر المعاصر، إذ نجد لدى نفس الفلاسفة والمفكرين الذين يفكرون نقديا في الصورة، شأن مندزين ودوبراي وبودريار ورولان بارت... تأكيدا على ضرورة التعامل معها. ليس في الأمر تناقض وإنما يتعلق الأمر بموقف تركيبي معقد شأن الواقع المعاصر نفسه. فإذا ما كان هؤلاء المفكرون يعترفون بالهيمنة التي لا رجعة فيها للصورة السمعية البصرية كسياق ثقافي ونسق لغوي جديد غدا"مسكنا للكائن"(بلغة هايدغر)، وإذا ما كانوا ينتقدون الاستهلاك السلبي للصور والتماهي معها، فهم في نفس الآن يؤسسون لأدوات نقدية تتيح تلقيا فاعلا ويقظا للعرض البصري. يتعلق الأمر بدوائر للتفكير في الصورة البصرية تربط بينها نقلات استدلالية، إذ أن دائرتي الوصف والنقد تستوجبان دائرة المواجهة الفاعلة. وكأنهم يقولون: " شاهد الصورة البصرية، لا مناص من ذلك، لكن لا تتماها معها ولا تماهيها مع الواقع، بل حافظ على مسافة فكرية نقدية تفصلك عنها وتتيح لك تفكيك علاماتها". الغريب في الأمر أننا إذا عدنا إلى الأطروحة الأفلاطونية ومحصناها جيدا، فسوف لن نجدها مختلفة نوعا عن هذه المقاربة. إذ عندما يفضل أفلاطون نمط الصورة المصرية القديمة، فإنه يدعو بشكل أو بآخر إلى إدخال عنصر "التغريب" على عملية المشاهدة، بالمعنى الذي نجده في نظرية برتولد بريشت الجمالية.
نتيجة:
ربما تقدمنا، بالقدر الكافي نسبيا، للجواب عن السؤال الذي طرحناه في البداية: ما طبيعة العلاقة التوثرية بين خطاب الصورة وبين خطاب التفلسف كنمط فكري وكدرس تعليمي؟
يبدو جليا مما سبق أن خطاب الصورة بشكل عام، وخطاب الصورة السمعية- البصرية المعاصر بشكل خاص، بقدر ما أصبح يشكل موضوعا أساسيا للتفكير الفلسفي[3]، فإن طموح فهم أبجديته وعلاماته وتفكيك النحو الذي ينتظمها، وكشف نمط العلاقة بين عبقريته البلاغية والواقع، وبين قصديته التأثيرية والمتفرج، قد غدا رهانا لفعل التفلسف، ومن ثمة لعملية تدريس الفلسفة ذاتها، طالما كانت هذه العملية تقوم على مسلمة تعليم التفلسف أكثر من تلقين المعارف الفلسفية.
إلا أن الكفايات الحاملة لقدرات التعامل النقدي مع الصورة البصرية، لا يمكن اكتسابها إلا بالممارسة نفسها، في إطار وضعيات تعلمية ملموسة شبيهة بوضعيات الوجود الثقافي في المجتمع، يتعود فيها المتعلم على تجاوز التلقي السلبي للوثيقة البصرية، ويتمرس على التفكير النقدي فيها، بالإضافة إلى دورها البيداغوجي التحفيزي. مما يعني بداهة: ضرورة حضور الوثائق البصرية، بمختلف أشكالها، كدعامات ديداكتيكية للدرس الفلسفي في مختلف لحظاته.
* نماذج:
- الوثائق البصرية التي ينتجها مدرس الفلسفة ذاته، كخطاطات ورسومات توضيحية، بل يمكنها أكثر من ذلك أن تجسد عمليات الاستدلال وتخفف من تجريديتها لتجعلها في متناول المتعلمين المبتدئين.
- توظيف الصورة البصرية الثابتة(صورة فوتوغرافية، لوحة تشكيلية...) أو السمعية-البصرية(وثائق فيلمية، وصلة إشهارية...) إبان مختلف سيرورات التفلسف التي تعتمل الدرس الفلسفي :
+ استخراج تمثلات المتعلمين الأولية والاشتغال النقدي عليها من أجل تجاوزها، انطلاقا من التأويلات التي يمكن أن يقدموها لمكونات صورة ما.
+ التمهيد للبناء الإشكالي لمفهوم فلسفي معين، انطلاقا من مساءلة لوحة فنية- مثلا- تتجاور في حمولتها الرمزية مع دلالات المفهوم( أنظر تجربة يانيك بيزان Yannick Bézin: مساءلة مفهوم الرغبة انطلاقا من لوحة Michelangelo Merisi dit Caravage, "L'amour vainqueur".[4].
+ الاشتغال بالتوازي على تحليل نص فلسفي ووثيقة بصرية ( لوحة، فيلم)، تيسيرا للفهم وتوسيعا لأفق التفكير.( أنظر تجربة يانيك بيزان: الاشتغال بالتوازي في إطار إشكالية التاريخ على لوحة Holbein, les Ambassadeurs de 1533 ونص Bossuet dans son Sermon sur la Providence prononcé le vendredi 10 mars 1662 à la chapelle du Louvre.) [5]
+ تشخيص وتفكيك العمليات الحجاجية التي يتضمنها الخطاب الفيلمي لشريط سينمائي أو وصلة إشهارية(أستحضر هنا أطروحة الدكتوراه التي أنجزها محمد مشتغلا على تفكيك الحجاج الفيلمي لشريط"دائرة الشعراء الغابرين").
+ إتاحة المجال للمتعلمين من أجل الاستثمار والاختبار التطبيقي لمكتسباتهم المفاهيمية ومهاراتهم المنهجية التي راكموها خلال درس معين أو محور من محاوره، عبر المشاهدة التشخيصية لوثيقة فيلمية معينة، يكون المدرس قد اختارها بعناية، ومناقشتها بعد ذلك جماعيا(درس تطبيقي أنجزته مع متعلمي السنة الثانية بكلوريا – السنة الدراسية 2007- 2008 إبان لحظة التركيب لباب "الحقيقة" من مجزوءة "المعرفة").
المراجع:
- أفلاطون، جمهورية أفلاطون، دراسة وترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985.
-Aristote, La pétique, trad. B.Gernez. Belles Lettres ; « classique en poche », 1985-
-Catherine Halpern, Les philosophe sont-ils iconophobes, Sciences Humaines, Hhors-série n 43, Décembre 2003/janvier-février 2004.
- مصطفى حجازي، حصار الثقافة- بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية، المركز الثقافي العربي1998.
[1] - بيد أننا لا ينغي أن ننسى أن أفلاطون نفسه، اعتمد على الصورة المجازية(إذا ما وسعنا من دلالة مفهوم الصورة)، لكي يعرض و يبسط مفاهيمه الفلسفية المجردة(أمثولة الكهف كنموذج) وبذلك أعطى للصورة دورا منهجيا وبداغوجيا مهما، وهو الشيء الذي فعله معظم الفلاسفة، بل إن منهم من تماهت عنده الصورة الماجزية مع المفهوم شأن نيتشه.
[2] - أنظر الموقع الإلكتروني : médiologie.org www.
[3] - في الماضي كانت الفلسفة تهتم بالصورة البصرية لماما، في إطار مبحث الجمال.
[4] - أنظر Deux expériences de développement du recours
aux images dans le cours de philosophie
par Yannick Bézin, Lycée Léonard de Vinci, Soissons http://gallica.bnf.fr/scripts/ConsultationTout.exe?O=87679&T=2
[5] - أنظر نفس المصدر.(ملحوظة: أنوي ترجمة التجربتين إلى العربية)