المتتبع للعملية التربوية بالمغرب يقف متعجبا أمام تركيبتها السريالية التي تجمع بين أرقى الطرق البيداغوجية في التدريس وأحدثها وبين التدني في الحصيلة التعليمية على مستوى المردودية والنتائج المخيبة والمحبطة، فأين الخلل إذن ؟
هل نحن في حاجة إلى المزيد من البرامج والمناهج ؟ فقد وصلنا حد التخمة بها، ومع ذلك لا نزال نشكو الضعف والهزال إلى حد الوهن والاحتضار.
يكفي أن نلقي نظرة على عناوين المذكرات الوزارية التي تنهض بالعملية التعليمية التعلمية لنجدها في المضمون تصل إلى حد الانبهار والمثالية أحيانا ،وهذه حقيقة تؤكدها ترسانة من التوجيهات والتعليمات والمستجدات التربوية ويكذبها الواقع التعليمي التعلمي الذي وصل بنا التأسف عليه إلى حد الحنين إلى أيامه الخوالي التي عز فيها قلم الحبر الجاف وغاب فيها الدفتر والمقرر ولكن كان حاضرا المعلم والمربي القدوة الذي يتحدى النقص الحاد في التجهيزات والإكتظاظ الذي كان يصل إلى خمسين تلميذا في الفصل الواحد ويعطي ما لديه من معرفة بكل إخلاص وتفان ،وكلنا الآن يقف مستغربا أما تهافت الآباء والأجداد على اقتناء سلسلة "إقرأ" لأحمد بوكماخ كذكرى نسترجع بها أمجاد التعليم المغربي ،وهيبة المعلم الذي كان يتتبعنا حتى في الشارع والأزقة وما أن نصادفه حتى نهرع لتقبيل يده وفاء وتبجيلا ، فهو الأب وهو الأخ وكلنا كان يتمنى أن يكون معلما في المستقبل احتذاء بقيمه النبيلة وشرف رسالته السامية.فأين الخلل إذن؟ .
الأمور بدأت تتضح وتتضح أكثر عندما نتتبع مصير المذكرات الوزارية وما تتضمنه من توجيهات وتعليمات تذيل بوجوب التنفيذ والسهر على تطبيقها ولكن من ينفذها ومن يسهر على تطبيقها فكل من مركز مسؤوليته يتخلص من المذكرة ويكتب تقريرا يحصن به نفسه من المساءلة فأصبحت الاجتماعات واللقاءات التربوية تعقد بطريقة صورية مبتذلة وفقا للتوجيهات الرسمية ،وينتهي مفعول المذكرة بانتهاء الاجتماع أو اللقاء. فمن يتتبع التنفيذ ويحاسب عليه ومن ينصت للآباء وهمومهم مع التعليم العمومي الذي أصبح كابوسا يقض مضجعهم وخاصة الذين لا حول ولا قوة لهم لتوجيه فلذاتهم إلى التعليم الخصوصي حتى ينعموا بتعليم مريح . فالتعليم الابتدائي العمومي الذي يعتبر أساس العملية التعليمية يعيش آخر أنفاسه وينقرض بالتدريج أمام اكتساح التعليم الخصوصي وخاصة في الوسط الحضري ، فلننطلق من بيت الداء ونطرح السؤال لماذا التعليم الابتدائي الخصوصي يعطي نتائج طيبة وجيدة رغم انعدام التكوين التربوي عند أطره التعليمية وهزالة الأجور التي يتقاضونها مقارنة مع المجهود المضني المبذول ؟ في حين نجد أطرا تربوية لها ما لها من الكفاءة التربوية والخبرة والتجربة بينما عطاءها لا يشرف أحدا ، وكم من المجهود الذي يبذله المعلم مع تلامذته في التعليم العمومي فتجده يشكو الإرهاق والإجهاد للتهرب من حصص الدعم التطوعية.
ولكن عندما ينصرف إلى الحصص الإضافية المؤدى عنها يزداد قوة وعزيمة ويكفي أن نتجول مساء بجوار الكتاتيب والمنازل التي تحولت إلى مدارس التعليم الأولي للتمويه وهي في الحقيقة تستأجر لتجار الدروس الخصوصية ، فترى التلاميذ ينتظرون دورهم كخلية نحل والمدرس كطبيب جراح ما أن يتخلص من فوج حتى يستقبل فوجا آخر، وعندما ينتهي من الكتاب يتجول عبر المنازل لإعطاء الدروس الخاصة جدا ،وعندما يسأله المتعلم في الحصص الرسمية يكو ن الجواب عليك بالدروس الخصوصية، لشراء نقطة النجاح ورضي المدرس، بل منهم من أصبح يجبر التلاميذ عليها حتى وإن كان من المتفوقين وإلا تعرض للانتقام والرسوب ويكفي نلقي نظرة على عدد الفروض المنجزة والمصححة وفق المذكرات الوزارية المنظمة للفروض، وهل التلاميذ يطلعون على نقطهم ويستطيعون محاسبة الأستاذ على نقطهم الممنوحة ؟!!! هنا الخلل إذن . فكل أسلاك التعليم تعيش فوضى المراقبة والتتبع والكل يتغاضى عما يجري أمامه من تسيب ويحاول تبرير موقفه بأن يد واحدة لا تصفق وهذا حال المدرسة المغربية، بينما تجده يسهر على تتبع مسيرة أبنائه التعليمية في المدارس الخصوصية .والدولة المغربية ترى في المدارس الخصوصية حلا للتخلص من التعليم العمومي .ولكن ماذا لو أن هذه المدارس الخصوصية أغلقت أبوابها وأعلنت عصيانها أو إفلاسها فأين سيتوجه هؤلاء التلاميذ ومن سيدرسهم، فتكلفة بناء وتجهيز سجن واحد يعادل تكلفة بناء عشرة مدارس ،وإغلاق مدرسة واحدة يتطلب بناء سجن جديد لإيواء المنقطعين عن الدراسة الذين يتوجهون إلى الانحراف أمام ضيق سبل العيش الكريم وغياب من يضمن لهم تعليما جادا وفاعلا.فهنا كان الخلل،فنحن لسنا في حاجة إلى البرامج والمناهج والمستجدات التربوية ولكن نحتاج إلى تتبع العملية التعليمية بكل حزم وصرامة وجدية والضرب على أيدي المخربين الذين يسعون إلى الاغتناء على حساب مصير وطننا وشعبنا العزيز شعارهم "أنا وما بعدي الطوفان " .وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " .