الكنيسة ومكارِه الحداثة
حين نشر الفيلسوف الأنجليزي برتراند راسّل (1872-1970) كتابه: "لماذا لست مسيحيّا" سنة 1957، وقد جمّع فيه مقالات نشرها في ما مضى بين 1925 و1954، كانت المسيحيّة تشهد تخلّفها عن مسايرة نسق حداثة المجتمعات الغربية. في الكتاب المذكور عالج راسّل المحاور التي جعلت المنظومة اللاّهوتية في الدّيني المسيحي، ولواحقها المؤسّسية السّلطوية، غير قابلة للتعايش مع العقلانية والدّيمقراطية، اللّتين تطبعان الفكر والمجتمعات الحديثة. ولئن عرض في تلك الفترة راسل المبرّرات التي تحول دون أن يكون المثقّف الحداثي مسيحيّا، فإنّ مشروعية طروحاته تبقى حاضرة التّرجمة في واقع تراجع المسيحيّة في الغرب.
ففي معطلع العام الماضي نشرت مجلّة "عالمَ الأديان" الفرنسيّة ملفّا خاصا عن الكاثوليكية في فرنسا، التي درج نعتها بمقولة الكاردينال لانجينيو سنة 1896 "فرنسا، البنت الكبرى للكنيسة"، بينت فيه أن تلك الرّيادة في الغرب، دبّ فيها تراجع مذهل، منذ الثّورة الفرنسية ومنذ إعلان قانون فصل الدّولة عن الكنيسة سنة 1905، وذلك لعدّة أسباب: منها النزوح عن الأرياف وثورة العوائد وتصاعد الفردانية، ويتواصل ذلك الانحدار بدون توقّف حتى الرّاهن.
مازالت ممارسة الشّعائر بشكل منتظم المقياس الأكثر رواجا في قياس التديّن، وفي الحالة الفرنسية تشهد انخفاضا لافتا، فهي لم تعن سوى 10% من الفرنسيين خلال 2006. والاعتقاد في الله الذي بقي تقريبا مستقرّا حتى منتهى السّتينيات، حوالي 75%، تنازل إلى 52% مع 2006. كما أن 7% فقط يرون أنّ الكاثوليكية هي الدّين الصّحيح فحسب، وارتفع عدد الذين يقولون أنهم "بدون دين"، حيث بلغوا 31%. ويزداد تباعد النّاس من المؤسّسة الدّينية، خصوصا حين يتعلّق الأمر بمسائل ذات صلة بالأخلاق والانضباط، إذ نجد 81% مع زواج رجال الدّين، و79% كذلك، مع ترقية النّساء للمناصب الدّينية. خسر إكليروس الكنيسة تقريبا كافة سلطته الأدبية على المؤمنين في فرنسا.
والواقع أن عديد المفكّرين الكبار استشعروا مبكّرا انعزال الكنيسة، فحاولوا تدارك الخطاب الكنسي للخروج به من عقمه اللاّهوتي. كانت محاولة مصالحة الكنيسة مع الحداثة من الباب الفرنسي، مع مجموعة من المفكّرين المؤثّرين مثل: جاك ماريتان، فرانسوا مورياك، بيار إمانويل، هنري دي لوباك، وإمانويل هونيي، غير أنّ هؤلاء أدينوا بالصّمت من البابوية في روما، التي تخشى تولّد قطب مؤثّر لا يدين بالخضوع للفاتيكان.
ورحلة المناداة بتحديث المسيحيّة تتواصل حتى يومنا، فاللاّهوتي الألماني أوغن درورمان (Eugen Drewermann)، الذي أزيح أخيرا عن كرسي التّدريس في الكلّية الكاثوليكية بجامعة بادربورن، لخص خلافاته مع الكنيسة الكاثوليكية بقوله: لا يمكن أن تتواجد المسيحية اليوم بدون حرّية ذاتية، فما يطبع الكنيسة اليوم من فكر خرافي واغتراب وموالاة وخضوع، انحرَفَ باللاّهوتي الأكاديمي عن رسالته النبويّة وحوّله إلى خادم للكنيسة. ذلك ما صرّح به إلى المجلّة الألمانية Publik-Forumفي العدد الثاني لشهر ديسمبر 2006.
كما هجر الكنيسة أيضا اللاّهوتي الهولاندي جون وينغارد (John Wijngaards)، أبرز المختصّين في الكهانة النّسويّة، ، لما يراه من تنكّر لتراث المسيحية البدئية التي بلغت فيها المرأة رتبة الشماسة. معتبرا أن التجمّعات الكبرى، مثل التجمّع العالمي للشّبيبة الذي رعته الكنيسة، أو تجمّع جنازة البابا الحاشد، لا تعني قوّة بل تخفي وهنا حسب رأيه. وأمام ضخامة المؤسّسة الكنسية وصعوبة حصر كافة قطاعاتها ووضعها تحت المرقاب، تنشأ من حين لآخر مظاهر تمرّد على النّهج الأرثوذكسي الذي تريد المؤسّسة المركزيّة أن تحتكره.
أين يقبع تعذّر أن يكون الحداثي مسيحيّا وما هي المسبّبات البنيويّة لتراجع المسيحية في الغرب؟ عالمة الاجتماع الدّيني الفرنسية دانيالي هرفيي ليجي، المهتمة بمصائر المسيحية في المجتمعات الغربية، في كتابها: "نحو مسيحية جديدة؟" ترى أنّ أزمة الكاثوليكة التي صارت أثرا جليّا، تتلخّص في عدم قدرتها على طرح خطاب مقنع للنّاس، وما عادت طرفا في المشهد الثّقافي الفرنسي، فهي متّهمة بقدامتها في وعي الجسد، والأخلاق، والعادات، وليس لها الأدوات الثقافيّة في مستوى الزّمن الحالي.
لقد شهدت الكنيسة في القرن الماضي، أعمق التحدّيات الاجتماعية والسّياسيّة، في مجتمعات ميّزها الحراك القومي والأدلجة والعلمانية، وقد كانت جلّ التحدّيات نابعة من الإطار الاجتماعي الحاضن. كانت فيه الكنيسة باحثة باستمرار عن موضع قدم، عبر محاولة التعالي عن الهموم السّياسية أو الانخراط المباشر في قضايا التغيير الاجتماعي. فقد شغلت الكنيسة عبر القرن الماضي همومَ الشّهادة بين الناس لا التّفتيش عن مواكبة مقولاتها الوعي الاجتماعي. وتوصّلت في بعض البلدان إلى إرساء اتّفاقات قانونية تنظّم حضورها، كما كان مع قانون العلمانية في فرنسا 1905، أو مع موسوليني خلال 1929، ومع هتلر سنة 1933، ومع سالازار خلال 1940، ومع فرانكو سنة 1953، وقد بقيت جلّ بنود تلك الاتفاقات سارية المفعول.
في ظلّ ذلك الضّبط، بقي الإطار الاجتماعي الغربي، رغم تشريعاته المقنّنة لأنشطة الكنيسة، رخْوا طيلة فترة الاستعمار، نظرا لحاجة الدّولة للكنيسة والعكس أيضا، بغرض التوغّل الثّقافي والحضاري في المستعمرات. فقبيل دخول الاستعمار الإيطالي لليبيا شهد البلد تصارعا على تسيير المدارس والهيمنة على الفضاء التعليمي، بين الفرنشسكانيين الإيطاليين والآباء البيض، التنظيم التبشيري الفرنسي في شمال إفريقيا. فقد كان التّنظيمان متمسّكين بأبعادهما الوطنيّة في ما يتعلّق بالثّقافة واللّغة في بلدي الأصل. ومع إلغاء تمازج الدّولة بالكنيسة في فرنسا، وإعلان العلمانية سنة 1905، جرت المحافظة على دور فاعل للمبشّرين لأهميتهم في إدخال اللّغة والثقافة الفرنسيتين، وهو نفس الطّموح الذي نظرت به إيطاليا لمبشّريها حتى مع إرساء الكونكورداتو، الذي فصل شكليا الفاتيكان عن الدولة.
كما احتاجت الدّولة العلمانية إلى الكنيسة لاحقا، وإلى شبكتها المتداخلة من المنظّمات والجمعيات التطوّعية والمستشفيات والمدارس وروض الأطفال، وما تؤدّيه من خدمات لا يستهان بها.
في مقابل ذلك، وجدت الكنيسة خارج المجتمعات الغربية الرّأسمالية عنتًا في الحضور في المجتمعات الاشتراكية سابقا، واختلفت الحدّة من بلد لآخر. ولكن بعد انهيار المعسكر الاشتراكي هلّلت الكنيسة الكاثوليكية لسقوط الشّيوعية ممنّية النّفس بالتهام بقايا الكتلة الاشتراكية، فعقدت في التوّ "المجمع الأسقفي الأوروبي" بمجرّد سقوط جدار برلين لتدارس الأمور، ولكن بعد ذلك التهليل استفاقت على المشاكل العالقة مع الأرثوذكسية، التي صارت تبحث عن لملمة هويتها، وإذا بالكنيسة الكاثوليكية تغرق من جديد في السّلام الشّائك بعد أن خرجت من مشاركتها في الحرب الباردة إلى جانب الكتلة الرأسمالية.
جرّاء ذلك السّور الجديد المنتصب شرقا، صارت الكنيسة تسعى لنسج تحالفات أساسها التحدّيات المشتركة، كما شأن التّنسيق مع الكنيسة الأنجليكانية، بتوحيد الموقف بينهما من الأرض المقدّسة واندفاع الإسلام نحو أوروبا والدّفاع عن الأسرة، والوقوف ضدّ انتشار الكنائس المسيحية المستقلّة، المنعوتة بـ"النّحل" وبـ"عبّاد الشّيطان"، والتي تشتدّ الحملة ضدّها، غير أنّ الكنيسة الأنجليكانية تشكو من فتنة داخليّة، تمزّق شملها، ولعل آخرها تهديد كنائس تنزانيا ونيجيريا وكينيا بالانفصال بسبب تنصيب رجال دين لوطيين.
لـهْوَتةُ السّياسة
خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثّانية، دعيَت الكنيسة للمشاركة في بناء المجتمعات الغربية وضُمَّت إلى التحالف المناهض للشّيوعية، فقدّمت فلسفتها الاجتماعية التي تجلّت أساسا عبر "الدّيمقراطية المسيحيّة" في إيطاليا. حاولت الكنيسة إضفاء مسحة قداسة على السّياسة، مستلهمة مبدأها التقليدي في أنّ السّياسة ينبغي أن تستند للقيم العليا مرجعية لها، غير أنّ ما ولّدته المجتمعات من تحدّيات، جعلت التّساؤل عن مدى تطابق الكنيسة الكاثوليكية مع الدّيمقراطية دائم الحضور. فالدّيمقراطية تتحدّى الكنيسةَ، لأنها تتأسّس على حرّية الضّمير وعلى مبدأ الأغلبية. والكنيسةُ من ناحيتها، تتحدّى الدّيمقراطيةَ لأنها تتأسّس على الحقيقة والعصمة (متى16: 19؛ يوحنا16: 13)، اللّتين لا تخضعان لا إلى الضّمير ولا لإرادة الأغلبية. وحجّة الكنيسة ضدّ المجتمع اليوم، أن تلك نسبية، مرادفة لاحتقار الأخلاق وللّذة وللأنانية وللعدمية.
وإن تكن الكنيسة تزعم حينا تماهيها مع نسق سير المجتمعات الغربية، عبر إقرارها باحترام علمانية الغرب، التي ترى أنها تأسيسية في الأناجيل "اعط ما لقيصر وما لله لله" (متى22: 21)، و"مملكتي ليست من هذا العالم" (يوحنا18: 36)، فإنها تختنق اليوم بالحبل الذي أمدّته يوما، عبر محاصرة العلمانية لها. وفي الوقت الذي تشهد فيه الكنيسة تناقضا مع الواقع العلماني، تصرّ على أن تبقى المتنفّذ الدّيني الوحيد في فضاء ديمقراطي، وهو ما يتناقض أساسا مع تحرير السّوق الدّينية. ولذلك تبدو أوضاع الدّين في أمريكا مختلفة عمّا عليه الحال في أوروبا الغربية، لترسّخ مقولة "الدّين المدني" ونقص حدّة شراسة العلمانية. فلئن تواضع الغرب على العلمانية فإن الاختلاف حاصل في مدلولها وتنزيلها في الاجتماعي. إضافة ما يتميّز به انفتاح السّوق الدّينية في أمريكا على شتّى أشكال العرض والطّلب، لما يحتكم إليه الأمر من تنافس. في حين في أوروبا الغربية، بشقّيها الكاثوليكي والبروتستاني، لا تزال ساحة النّشاط مقتصرة على الكنائس المهيمنة، مع توفير هوامش ضئيلة لـ"الدّيانات الدّخيلة"، مما يحدّ من قدرات العرض لديها. ذلك الضّيق جعل ما عرف بلاهوت الأديان في الكاثوليكية والبروتستانية الأوروبيتين، ينظّر خارج التّنافس الاجتماعي المباشر، ويطرح طروحات تتعلّق بمسائل مسكونية نائية.
أزمة المعنى
صادف أن دخلت يوما مرحاضا في منزل عائلة كاثوليكية إيطالية فوجدت الكتاب المقدّس بالدّاخل يتلهّى به أثناء التغوّط. بدا لي الحدث حينها مثقلا بالدّلالة عن امحاء المسافة بين المقدّس والمدنّس، بين الأعيان النّجسة والأعيان الطّاهرة. لقد تخفّت على الكنيسة طيلة القرن الماضي أزمة المعنى، الذي يشهده لاهوتها، وانصبّ مجمل انشغالها على الإطار الاجتماعي، والبحث عن موضع قدم داخله، لأنشطتها ونفوذها. كانت المسيحيّة، كنظام لاهوتي معيشي، تنسحب تدريجيا من المجتمعات الغربيّة برغم الإطار الدّيمقراطي الذي يحتضنها.
فالتأويل في اللاّهوت يبقى مدفوعا أساسا بحاجة ملحّة للتّلاؤم مع المطلب الاجتماعي، وبقدر اشتداد الضّغط يحاول اللاّهوتي إيجاد مخارج للنّوازل والمستجدّات، تفي لروح النصّ وتلبي المطلب الاجتماعي. لكن لا يتيّسر دائما التوفيق بين الوفاء لروح النصّ وتلبية متطلّبات الحاجة الاجتماعية. هنا كان الاعتراف أو عدم الاعتراف حاسما في العملية التأويليّة، ولذلك ليست عملية إنتاج التأويل متروكة لحسن النوايا وللأفراد، بل الاعتراف بها في حاجة لمباركة مجلس مراقبة العقيدة المرابط في روما، هنا تحضر المؤسّسة الوصيّة على الإيمان بسلطتها وأدواتها في إضفاء الكانونية أو اللاّكانونية على أيّ مسعى.
كان اللاّهوت النّسوي خلال العقود الأخيرة أبرز النّاشطين السّاعين لاختراق ذلك الضّيق، ولكن غاب الاعتراف بمطالبه وبمشروعيته. فبعد حضور دوني للمرأة في الكنيسة طال قرونا، لم تسنح لها الفرصة للتنديد بحياة القهر التي ترزح تحت وطأتها، إلاّ مع الستّينيات. "أنا مرأة وأدرُس اللاّهوت"، كتاب فاليريا غولدستاين 1960، الذي قطع مع اللاّهوت الرّجالي ودشّن اللاّهوت النّسوي، يروي ملحمة دونية المرأة في بنية الكنيسة. والحقيقة أن الحركة النّقدية للكتاب المقدّس لفتت النّظر نحو المسألة النّسوية، منذ ما يزيد عن القرن، فقد نُشِر سنة 1895 مؤلَّف نسويّ جماعي برعاية إليزابيث ستانتون بعنوان: "الكتاب المقدّس النّسوي" وهو عبارة عن شروحات لشتى النّصوص المقدّسة المتعلّقة بالمرأة.
لقد أملت أزمة المعنى بحثا عن انبعاثة جديدة عبر المجمع الفاتيكاني (1962-1965)، الذي نعت بالثورة الكوبرنيكية، ولكن بعد حصيلة ما يناهز الأربعة عقود، تجد الكنيسة نفسها أمام تحدّيات متنوّعة، لم يستوعبها لاهوتها التقليدي.
فالأصول التي تجري ملاحقتها عبر أركيولوجيا النصّ والتاريخ الكنسي، تفتقد للعلوية ولمشروعية المؤسّس الأوّل، كلّما جرى التّدقيق في النصّ إلاّ وتلاشت قداسته، فحتى النصّ والكنيسة كانا نتاجات بشريّة لاحقة ولا تمت للمسيح (ع). فما كان المسيح كاثوليكيا ولا أرثوذكسيا ولا بروتستانيا ولم يؤسّس حتى كنيسة. ولكن في غياب تلك الحلقة، استوجب على المؤسّسة، خلق كاريزما، ومركزة السّلطة وقوننتها، عبر "الحقوق الكانونية" وعبر الهياكل المؤسّسية، والتي على رأسها مجلس مراقبة عقيدة الإيمان، الهيكل الذي ورث محاكم التفتيش في مهامها.
استشعر الرّاهب لويجي جيوساني (1922-2005) مؤسّس حركة "تناول وتحرير" في إيطاليا تواري المعنى اللاّهوتي والوجودي في المسيحيّة المعاصرة، برغم نفاذ هيمنتها في المجال السّياسي، كما الشأن في إيطاليا عبر "الديمقراطية المسيحية"، التي وجدت المساندة التامة من البابا بيو الثاني عشر، فحاول منذ الستّينيات إعادة شحن المسيحيّة بمعناها المفتقَد، والتقرّب من الشريحة الطلاّبية، الأكثر اهتزازا للمعنى بينها، في أعقاب الثّورة الطلاّبية، ذلك ما يتجلّى أساسا في كتابه "المعنى الدّيني". بعد تجربة امتدّت على ثلاثة عقود مثّلت فيها "تناول وتحرير" المدخل الذي أطّلت منه الكنيسة الكاثوليكية على العالم الحديث وعلى المصالحة مع المجتمع، تدحرجت وخفت صوتها في إيطاليا وفي الخارج.
فأزمة مشروع "الأنجلة وإعادة الأنجلة" الذي لاقى معارضة في الغرب، جرّاء محاولة الاكتساح المستجدّ لفضاء بقي الحنين إليه قويا، ولا تتوفّر الأدوات لولوجه، جعل الكنيسة تستفيق عما يفصل بينها وبين هذه المجتمعات. رغم أنها سعت في خلق رموز في الأوساط الاجتماعية: الأم تيريزا، لويجي جيوساني، زعيم الأبوس داي يواكيم نافارو فالس، وإعطاء أنشطتهم بعدا كونيا، لكنها عجزت عبرهم أن تجذب النّاس نحو المركز، وأن تحوز ولاءهم.
كما ولّد تمدّد المسيحيّة خارج فضائها التّقليدي وثباتها في الدّاخل تحدّيات رؤيوية لا عهد للمركز بها. صارت أطراف المسيحية وهوامشها تصرّ على أن تقدّم تأويلها للنصّ، فظهرت طروحات "الكنيسة السّوداء" و"المسيح الأسود" و"اللاّهوت النّسوي" و"لاهوت التحرّر"، إذ مسيحية روما مغرقة في تجاويف المجتمعات الغربية المرسملة، لذلك تحوَّل مطلب إعادة تأويل الدّين إلى مطلب ملحّ في لواهيت الأطراف، الذي بقدر وفائه للمسيح (ع) وجد نفسه مكرها على التملّص من سلطة روما، وبقدر ما التزم بسلطة روما تيقّن من اغترابه عن واقعه.
وتقريبا جلّ التكتّلات المسيحيّة في الأطراف (الإفريقية والآسياوية والأمريكية الجنوبية)، الموالية للكنائس الغربية عبرت عن تململها اللاّهوتي وألحّت على مطالبها، باستثناء الشّرائح المسيحية العربية الدّائرة في فلك الغرب، بقيت تثير الانتقادات للعالم الإسلامي، وتخلّت عن تموضعها الحقيقي داخل جسد الكنيسة العام، مما حوّل دورها إلى رقيب على العالم العربي والإسلامي. لذلك عادة ما تلوك المسيحية العربية الدّائرة في فلك الكنيسة الغربية محورين: محنة المسيحيين العرب في الفضاء العربي والإسلامي؛ ومسألة الانقلاب نحو المسيحية وعراقيلها التّشريعية الإسلامية.
مركزيّة المؤسّسة
يقول المثل الشّعبي في روما "يرحل بابا، يحلّ آخر مكانه"، تعبيرا عن ثبات المؤسّسة الدّينية وإن تغيّر أحبارها. كانت أسئلة المؤسّسة بزعامة البابا الرّاحل كارول ووجتيلا للاّهوت المسيحي، مدفوعة بالطّموح لأنجلة العالم، وفي جدل متواصل مع الخارج، عبر مجلس حوار الأديان -Nostra aetate-، ومراجي صلاة أسّيزي، ويوم الشّبيبة العالمي.
كما تطوّرت طيلة فترته الأبحاث في لاهوت الأديان في الجامعات البابوية، وصارت له عدّة طروحات لاستيعاب الأديان التوحيدية، والتي يأتي في مقدّمتها الإسلام، الخصم التوحيدي العنيد، ومحاولة احتضان الأديان الشّعبية ضمن قراءات تتناقض حينا مع الرّؤى الأرثوذكسية التقليدية.
وبالمثل دأبت المؤسّسة الكنسية على البحث عن الانسجام، حتى مع عدوّها ونقيضها، فرضيت بالتعايش مع العلمانية برغم خطورته، وتبنّت مقولاتها طيلة فترة ما بعد المجمع (1965)، بصفتها الضّامنة لحضورها، ورفعت شعارها المعهود "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، الذي استنفذ طاقته وبراغماتيته. إذ تضيق المجتمعات الغربية اليوم ذرعا بالكنيسة، التي ترنو للعودة ثانية للمجتمع، عبر "إعادة الأنجلة" وعبر التعليم والكاتيكيزم.
في حين كان خيار المؤسّسة مع البابا الحالي بندكتوس السّادس عشر، داخليّا بالأساس، حيث التركيز على الترميم اللاّهوتي والبحث عن الوحدة المنفرطة. فالبابا السّابق ووجتيلا استعراضي –تعاطى حرفة التّمثيل المسرحي قبيل الانضمام للرّهبنة- يعرض طروحاته خارجا، بما يرافقها من بروتوكولات متكرّرة، تقبيل الأرض بالنزول من الطائرة والحفاوة بلقاء الحشود الكبيرة؛ أما البابا الحالي فهو لاهوتي تأمّلي يولي عناية أوفر للشأن الدّاخلي وما يستدعيه من إصلاح ليتورجي. ولذلك أوّل ما فعله لدى تنصيبه إلغاء مجلس حوار الأديان (Nostra aetate)، غير الضّروري بالنّسبة إليه، ثم تراجع عن ذلك جرّاء الضغط، وانهمك الرّجل في تنقية الفضاء الكاثوليكي من الشّوائب التي تعكّر صفو وحدته. كما بادر بلقاء زعيم تيّار الواقعية الذي يمثّله هانس كونغ، وساوم أتباع لوفابر المنشقّين للانضمام من جديد. فبين انجذاب للخلف واندفاع للأمام تجد الكنيسة الكاثوليكية نفسها، مجبرة للملمة قواها، عبر إحياء اللّغة اللاّتينية، التي ألغيت سابقا والتي كانت من عوامل انشقاق اللّوفابريين.
صار الواقع يلقي بأسئلته المدنيّة والبيولوجية أمام فكر تقليدي محافظ طالما غيّب الواقع، حيث يعمّ السوّاح الكنائسَ أكثر مما يرتادها المصلّون. ولكن بالتوازي مع غياب المؤمن، يشتدّ قلق داخل الأوساط العلمانية الغربية، تنادي جرّاءه بضوابط متطرّفة في وجه الكنيسة لإعادتها لمعقلها المنفلتة منه. وأبرز تلك التحوّلات تبدّت في المسألة الخلقية التي صارت من أوكد المسائل التي تؤرق الكنيسة اليوم، فجيش المثليين والسحاقيات لم يعد خارج الكنيسة بل صار داخلها أيضا. كما أن مسألة الجدل المتعلّق بـ"الإخصاب المعين"، صارت فيه مطالب الناس وإلحاحهم لرفع العراقيل تؤرق الكنيسة. وكردّ على ذلك حاولت أن تصوغ إطار علمي خلقي تدافع من خلاله عن فلسفتها، عرف بالـ"بيوإتيك"، في مقابل البيولوجيا المنفلتة، لكنّ خطابها بقي في حيز الجامعات البابويّة ولم يقنع النّاس في الخارج.
وفي ظلّ تمدّد المسيحيّة خارج الفضاءات التقليدية، وما ولّده من أمل للكنيسة بعدما راودتها خشية الأفول، طيلة حقبة شعارات "موت الله" و"تقشير الباطاطا أجدى نفعا من تشييد الكاتدرائيات"، التي حاصرتها. تستعيد اليوم أنفاسها، ويحاول المركز الإمساك ببؤرة المشروعية والعضّ عليها بالنواجذ حتى لا ينفلت زمام السّلطة التأويلية منه، لذا يبقى إضفاء المشروعية على قراءة الأطراف في حاجة إلى مباركة المركز.
فالكاثوليكية الحالية مثلا، تتميّز بتصلّب شبيه بما ميّز العهد الترنتي -Tredentine، من تقليدية ووحدة الشّعيرة، جرّاء الرّد على ما سمي بانحرافات لوثر. حيث في ظلّ الإصلاحات اللاّهوتية الدّاخلية، تشهد الكنيسة عودة للتقليديّة والنصّية، التي لا تولي شأنا للتنوّع، منحازة في ذلك للواحدية اللاّهوتية.
فهي تساير المجتمعات كرها لا طوعا، حتى لا تلفظها، ولكن في سيرها تبقى مخاطر التّنازل عن هويتها حاضرة، فالمجتمعات الغربية صارت تدفع باتجاه تحوير مسارات اللاّهوت التقليدية. بعد تجارب شتى خاضتها الكنيسة، أيقنت من تراجع نفوذها على مستوى المجتمع، لذلك تحاول أن تعود للسّلطة عبر اللّوبيات والجماعات الضّاغطة: (Opus Dei) في إسبانيا، (Légionnaires du Christ) في المكسيك، (Saint Egidio) في إيطاليا؛ وعبر تحالفات استراتيجية مع اليمين السّياسي، تنشط فيه الكنيسة عبر كتلها الكاثوليكية في برلمانات الدّول وداخل البرلمان الأوروبي، وقد بدا ذلك جليّا في معارضة النائب الكاثوليكي روكو بوتليوني لدخول تركيا ولحضور الإسلام في الغرب.
الوحدة اللاّهوتية المستعصية
لم يهضم البابا الحالي فتنة 1988، التي خلّفت انشقاق المونسنيور مارسال لوفابر عن الإجماع الكاثوليكي، وتحصّن جماعته بفرنسا حيث توفّر هامش أرحب للحرّية. تلخّصت دواعي الفتنة في ما أقدم عليه الفاتيكان من إلغاء القدّاس اللاّتيني سنة 1969، بعيد الانتهاء من المجمع الفاتيكاني. وما أجّج غضبة اللّوفابريين إقامة البابا السّابق الصّلاة المسكونية في أسيزي خلال 1986، فرفضوا ذلك التّساوي العقدي مع أديان ومذاهب، يعدّونها من الانحرافات عن رسالة المسيح، وأعلنوا خروجهم العلني سنة 1988.
وعادة في ما لا يهدّد سلطتها، تتميّز الكنيسة ببراغماتية وليونة، سواء بالتخلّي عن بعض الشّعائر، أو بتجاوز بعض المحرّمات، أو حتى إلغاء بعض المعتقدات. حدث ذلك مع مطلع انتشار المسيحية في أوروبا، حين ألغي الختان وسمح بأكل لحم الخنزير، برغم فرضية الشّعيرة الأولى وتحريم أكل الخنزير في العهد القديم.
في الأيّام القليلة الماضية صدرت وثيقة عن لجنة لاهوتية في مجلس مراقبة عقيدة الإيمان في الفاتيكان، ألغي بموجبها الإيمان بالبرزخ. انشغل ببحث الموضوع ثلاثون لاهوتيا، واختتم الملفّ بتقديم مفتّش مجلس العقيدة الكاردينال ويليام ليفادا خلاصته، التي نالت رضا البابا راتسينغر. وحسب الاعتقاد الملغي كان يمكث في البرزخ الأطفال الذين يُتوفَّون قبل التعميد، فلا يفوزون برؤية وجه الله، لكن في مقابل ذلك لا يمسّهم العذاب، لعدم وعيهم بذلك المنع، ومع المعتقد الجديد صار الأطفال المتوفّون بدون تعميد ينعمون بتلك الرّؤية.
فالمعتقدات والطّقوس تبدو مسايرة للتحوّلات الاجتماعية ولا تعرف الثّبات، ففي بحث مجرى عن الحياة الدّينيّة نشرته المجلّة الكنسيّة الإيطالية الموجّهة للطّبقات الشّعبية "العائلة المسيحية" خلال العام الماضي، تبيّن أن "الرّاهب بيو" الرّاحل، هو الأكثر رجاء من طرف الإيطاليين، فاق في ذلك المسيحَ والعذراءَ مريم، فتماثيله الصّغيرة الأكثر حضورا مع سوّاق العربات تيمّنا به، وكذلك صوره أكثر تواجدا في حافظات الأوراق الشّخصية. كما يبقى التوجّه في الجنوب الإيطالي للقدّيس جيوسيبي والقدّيس جنّارو حامي نابولي، في حين في الشّمال، يفضّل النّاس التوجّه للعذراء وللقدّيس فرانشيسكو والقدّيسة ريتا. يبقى الخطاب الدّيني مثقلا بالأسطورة، برغم الطّابع اللاّديني الذي يلفّ المجتمعات، فأسطورة "فاطمة"، وتجلّي العذراء، وأساطير معجزات الأب بيو، ودم المسيح السّائل مع كلّ فصح، من الأمور التي تسعى الكنيسة لترسيخها، ربما ذلك ما يجذب العامّة، لكنه ينفّر شرائح واسعة من المثقّفين ويبعدهم عن الكنيسة.
إجابة عن سؤال إلى أين تسير الكاثوليكية اليوم؟ يقول إيفاس برولاي في كتابه "تاريخ الكاثوليكية": يتواجد تيّاران، لا ينفي أحدهما الآخر. الأوّل يؤكّد على الرّسالة المسيحية السّاعية من أجل ترسيخ السّلام والتقدّم الاجتماعي وتقبّل الاختلافات والمسكونية، مع الابتعاد عن الماضي الذي يفرّق والمؤسّسة الملزمة، فهو يعي الكنيسة كأخوّة إنسانية، أخلاقية، تعدّدية ويكتفي بخصوصية الدّيني. ولو كان له هدف يرنو إليه لتجلّى في "أسيزي"؛ وإلى جانب ما يمكن أن نسمّيه بـ"الأسيزية"، يوجد تيّار "يهودي مسيحي" يلقي بنظره باتجاه أورشليم، أولويّة المؤمن فيه تجد جذورها في الكتابية، المتأسّسة على وحدانية متسامحة ومنفتحة، منشغلة بحقوق الإنسان ومقبولة من الأكثرية: كونية غير رومانية وغير مؤسّسية.
ربما يبدو الاستشراف السّالف على ثقة في احتفاظ الكنيسة بهويتها، لكن بحسب المفكّر اللاّهوتي هانس كونغ فالمسيحية ينبغي على أن تكون أكثر مسيحية، بصفة النّظام الكاثوليكي والتقليديّة الأرثوذكسية والأصولية البروتستانية، هي تجلّيات تاريخية للمسيحيّة، لم تتواجد بشكل دائم، وفي يوم ما ستندثر، لماذا؟ لأنها لا تشكّل جانبا من جوهر الحدث المسيحي! ذلك ما يلحّ عليه في كتابه: " المسيحية الجوهر والتاريخ ".
* أستاذ تونسي يدرّس بجامعة لاسابيينسا بروما.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
كما هجر الكنيسة أيضا اللاّهوتي الهولاندي جون وينغارد (John Wijngaards)، أبرز المختصّين في الكهانة النّسويّة، ، لما يراه من تنكّر لتراث المسيحية البدئية التي بلغت فيها المرأة رتبة الشماسة. معتبرا أن التجمّعات الكبرى، مثل التجمّع العالمي للشّبيبة الذي رعته الكنيسة، أو تجمّع جنازة البابا الحاشد، لا تعني قوّة بل تخفي وهنا حسب رأيه. وأمام ضخامة المؤسّسة الكنسية وصعوبة حصر كافة قطاعاتها ووضعها تحت المرقاب، تنشأ من حين لآخر مظاهر تمرّد على النّهج الأرثوذكسي الذي تريد المؤسّسة المركزيّة أن تحتكره.
أين يقبع تعذّر أن يكون الحداثي مسيحيّا وما هي المسبّبات البنيويّة لتراجع المسيحية في الغرب؟ عالمة الاجتماع الدّيني الفرنسية دانيالي هرفيي ليجي، المهتمة بمصائر المسيحية في المجتمعات الغربية، في كتابها: "نحو مسيحية جديدة؟" ترى أنّ أزمة الكاثوليكة التي صارت أثرا جليّا، تتلخّص في عدم قدرتها على طرح خطاب مقنع للنّاس، وما عادت طرفا في المشهد الثّقافي الفرنسي، فهي متّهمة بقدامتها في وعي الجسد، والأخلاق، والعادات، وليس لها الأدوات الثقافيّة في مستوى الزّمن الحالي.
لقد شهدت الكنيسة في القرن الماضي، أعمق التحدّيات الاجتماعية والسّياسيّة، في مجتمعات ميّزها الحراك القومي والأدلجة والعلمانية، وقد كانت جلّ التحدّيات نابعة من الإطار الاجتماعي الحاضن. كانت فيه الكنيسة باحثة باستمرار عن موضع قدم، عبر محاولة التعالي عن الهموم السّياسية أو الانخراط المباشر في قضايا التغيير الاجتماعي. فقد شغلت الكنيسة عبر القرن الماضي همومَ الشّهادة بين الناس لا التّفتيش عن مواكبة مقولاتها الوعي الاجتماعي. وتوصّلت في بعض البلدان إلى إرساء اتّفاقات قانونية تنظّم حضورها، كما كان مع قانون العلمانية في فرنسا 1905، أو مع موسوليني خلال 1929، ومع هتلر سنة 1933، ومع سالازار خلال 1940، ومع فرانكو سنة 1953، وقد بقيت جلّ بنود تلك الاتفاقات سارية المفعول.
في ظلّ ذلك الضّبط، بقي الإطار الاجتماعي الغربي، رغم تشريعاته المقنّنة لأنشطة الكنيسة، رخْوا طيلة فترة الاستعمار، نظرا لحاجة الدّولة للكنيسة والعكس أيضا، بغرض التوغّل الثّقافي والحضاري في المستعمرات. فقبيل دخول الاستعمار الإيطالي لليبيا شهد البلد تصارعا على تسيير المدارس والهيمنة على الفضاء التعليمي، بين الفرنشسكانيين الإيطاليين والآباء البيض، التنظيم التبشيري الفرنسي في شمال إفريقيا. فقد كان التّنظيمان متمسّكين بأبعادهما الوطنيّة في ما يتعلّق بالثّقافة واللّغة في بلدي الأصل. ومع إلغاء تمازج الدّولة بالكنيسة في فرنسا، وإعلان العلمانية سنة 1905، جرت المحافظة على دور فاعل للمبشّرين لأهميتهم في إدخال اللّغة والثقافة الفرنسيتين، وهو نفس الطّموح الذي نظرت به إيطاليا لمبشّريها حتى مع إرساء الكونكورداتو، الذي فصل شكليا الفاتيكان عن الدولة.
كما احتاجت الدّولة العلمانية إلى الكنيسة لاحقا، وإلى شبكتها المتداخلة من المنظّمات والجمعيات التطوّعية والمستشفيات والمدارس وروض الأطفال، وما تؤدّيه من خدمات لا يستهان بها.
في مقابل ذلك، وجدت الكنيسة خارج المجتمعات الغربية الرّأسمالية عنتًا في الحضور في المجتمعات الاشتراكية سابقا، واختلفت الحدّة من بلد لآخر. ولكن بعد انهيار المعسكر الاشتراكي هلّلت الكنيسة الكاثوليكية لسقوط الشّيوعية ممنّية النّفس بالتهام بقايا الكتلة الاشتراكية، فعقدت في التوّ "المجمع الأسقفي الأوروبي" بمجرّد سقوط جدار برلين لتدارس الأمور، ولكن بعد ذلك التهليل استفاقت على المشاكل العالقة مع الأرثوذكسية، التي صارت تبحث عن لملمة هويتها، وإذا بالكنيسة الكاثوليكية تغرق من جديد في السّلام الشّائك بعد أن خرجت من مشاركتها في الحرب الباردة إلى جانب الكتلة الرأسمالية.
جرّاء ذلك السّور الجديد المنتصب شرقا، صارت الكنيسة تسعى لنسج تحالفات أساسها التحدّيات المشتركة، كما شأن التّنسيق مع الكنيسة الأنجليكانية، بتوحيد الموقف بينهما من الأرض المقدّسة واندفاع الإسلام نحو أوروبا والدّفاع عن الأسرة، والوقوف ضدّ انتشار الكنائس المسيحية المستقلّة، المنعوتة بـ"النّحل" وبـ"عبّاد الشّيطان"، والتي تشتدّ الحملة ضدّها، غير أنّ الكنيسة الأنجليكانية تشكو من فتنة داخليّة، تمزّق شملها، ولعل آخرها تهديد كنائس تنزانيا ونيجيريا وكينيا بالانفصال بسبب تنصيب رجال دين لوطيين.
لـهْوَتةُ السّياسة
خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثّانية، دعيَت الكنيسة للمشاركة في بناء المجتمعات الغربية وضُمَّت إلى التحالف المناهض للشّيوعية، فقدّمت فلسفتها الاجتماعية التي تجلّت أساسا عبر "الدّيمقراطية المسيحيّة" في إيطاليا. حاولت الكنيسة إضفاء مسحة قداسة على السّياسة، مستلهمة مبدأها التقليدي في أنّ السّياسة ينبغي أن تستند للقيم العليا مرجعية لها، غير أنّ ما ولّدته المجتمعات من تحدّيات، جعلت التّساؤل عن مدى تطابق الكنيسة الكاثوليكية مع الدّيمقراطية دائم الحضور. فالدّيمقراطية تتحدّى الكنيسةَ، لأنها تتأسّس على حرّية الضّمير وعلى مبدأ الأغلبية. والكنيسةُ من ناحيتها، تتحدّى الدّيمقراطيةَ لأنها تتأسّس على الحقيقة والعصمة (متى16: 19؛ يوحنا16: 13)، اللّتين لا تخضعان لا إلى الضّمير ولا لإرادة الأغلبية. وحجّة الكنيسة ضدّ المجتمع اليوم، أن تلك نسبية، مرادفة لاحتقار الأخلاق وللّذة وللأنانية وللعدمية.
وإن تكن الكنيسة تزعم حينا تماهيها مع نسق سير المجتمعات الغربية، عبر إقرارها باحترام علمانية الغرب، التي ترى أنها تأسيسية في الأناجيل "اعط ما لقيصر وما لله لله" (متى22: 21)، و"مملكتي ليست من هذا العالم" (يوحنا18: 36)، فإنها تختنق اليوم بالحبل الذي أمدّته يوما، عبر محاصرة العلمانية لها. وفي الوقت الذي تشهد فيه الكنيسة تناقضا مع الواقع العلماني، تصرّ على أن تبقى المتنفّذ الدّيني الوحيد في فضاء ديمقراطي، وهو ما يتناقض أساسا مع تحرير السّوق الدّينية. ولذلك تبدو أوضاع الدّين في أمريكا مختلفة عمّا عليه الحال في أوروبا الغربية، لترسّخ مقولة "الدّين المدني" ونقص حدّة شراسة العلمانية. فلئن تواضع الغرب على العلمانية فإن الاختلاف حاصل في مدلولها وتنزيلها في الاجتماعي. إضافة ما يتميّز به انفتاح السّوق الدّينية في أمريكا على شتّى أشكال العرض والطّلب، لما يحتكم إليه الأمر من تنافس. في حين في أوروبا الغربية، بشقّيها الكاثوليكي والبروتستاني، لا تزال ساحة النّشاط مقتصرة على الكنائس المهيمنة، مع توفير هوامش ضئيلة لـ"الدّيانات الدّخيلة"، مما يحدّ من قدرات العرض لديها. ذلك الضّيق جعل ما عرف بلاهوت الأديان في الكاثوليكية والبروتستانية الأوروبيتين، ينظّر خارج التّنافس الاجتماعي المباشر، ويطرح طروحات تتعلّق بمسائل مسكونية نائية.
أزمة المعنى
صادف أن دخلت يوما مرحاضا في منزل عائلة كاثوليكية إيطالية فوجدت الكتاب المقدّس بالدّاخل يتلهّى به أثناء التغوّط. بدا لي الحدث حينها مثقلا بالدّلالة عن امحاء المسافة بين المقدّس والمدنّس، بين الأعيان النّجسة والأعيان الطّاهرة. لقد تخفّت على الكنيسة طيلة القرن الماضي أزمة المعنى، الذي يشهده لاهوتها، وانصبّ مجمل انشغالها على الإطار الاجتماعي، والبحث عن موضع قدم داخله، لأنشطتها ونفوذها. كانت المسيحيّة، كنظام لاهوتي معيشي، تنسحب تدريجيا من المجتمعات الغربيّة برغم الإطار الدّيمقراطي الذي يحتضنها.
فالتأويل في اللاّهوت يبقى مدفوعا أساسا بحاجة ملحّة للتّلاؤم مع المطلب الاجتماعي، وبقدر اشتداد الضّغط يحاول اللاّهوتي إيجاد مخارج للنّوازل والمستجدّات، تفي لروح النصّ وتلبي المطلب الاجتماعي. لكن لا يتيّسر دائما التوفيق بين الوفاء لروح النصّ وتلبية متطلّبات الحاجة الاجتماعية. هنا كان الاعتراف أو عدم الاعتراف حاسما في العملية التأويليّة، ولذلك ليست عملية إنتاج التأويل متروكة لحسن النوايا وللأفراد، بل الاعتراف بها في حاجة لمباركة مجلس مراقبة العقيدة المرابط في روما، هنا تحضر المؤسّسة الوصيّة على الإيمان بسلطتها وأدواتها في إضفاء الكانونية أو اللاّكانونية على أيّ مسعى.
كان اللاّهوت النّسوي خلال العقود الأخيرة أبرز النّاشطين السّاعين لاختراق ذلك الضّيق، ولكن غاب الاعتراف بمطالبه وبمشروعيته. فبعد حضور دوني للمرأة في الكنيسة طال قرونا، لم تسنح لها الفرصة للتنديد بحياة القهر التي ترزح تحت وطأتها، إلاّ مع الستّينيات. "أنا مرأة وأدرُس اللاّهوت"، كتاب فاليريا غولدستاين 1960، الذي قطع مع اللاّهوت الرّجالي ودشّن اللاّهوت النّسوي، يروي ملحمة دونية المرأة في بنية الكنيسة. والحقيقة أن الحركة النّقدية للكتاب المقدّس لفتت النّظر نحو المسألة النّسوية، منذ ما يزيد عن القرن، فقد نُشِر سنة 1895 مؤلَّف نسويّ جماعي برعاية إليزابيث ستانتون بعنوان: "الكتاب المقدّس النّسوي" وهو عبارة عن شروحات لشتى النّصوص المقدّسة المتعلّقة بالمرأة.
لقد أملت أزمة المعنى بحثا عن انبعاثة جديدة عبر المجمع الفاتيكاني (1962-1965)، الذي نعت بالثورة الكوبرنيكية، ولكن بعد حصيلة ما يناهز الأربعة عقود، تجد الكنيسة نفسها أمام تحدّيات متنوّعة، لم يستوعبها لاهوتها التقليدي.
فالأصول التي تجري ملاحقتها عبر أركيولوجيا النصّ والتاريخ الكنسي، تفتقد للعلوية ولمشروعية المؤسّس الأوّل، كلّما جرى التّدقيق في النصّ إلاّ وتلاشت قداسته، فحتى النصّ والكنيسة كانا نتاجات بشريّة لاحقة ولا تمت للمسيح (ع). فما كان المسيح كاثوليكيا ولا أرثوذكسيا ولا بروتستانيا ولم يؤسّس حتى كنيسة. ولكن في غياب تلك الحلقة، استوجب على المؤسّسة، خلق كاريزما، ومركزة السّلطة وقوننتها، عبر "الحقوق الكانونية" وعبر الهياكل المؤسّسية، والتي على رأسها مجلس مراقبة عقيدة الإيمان، الهيكل الذي ورث محاكم التفتيش في مهامها.
استشعر الرّاهب لويجي جيوساني (1922-2005) مؤسّس حركة "تناول وتحرير" في إيطاليا تواري المعنى اللاّهوتي والوجودي في المسيحيّة المعاصرة، برغم نفاذ هيمنتها في المجال السّياسي، كما الشأن في إيطاليا عبر "الديمقراطية المسيحية"، التي وجدت المساندة التامة من البابا بيو الثاني عشر، فحاول منذ الستّينيات إعادة شحن المسيحيّة بمعناها المفتقَد، والتقرّب من الشريحة الطلاّبية، الأكثر اهتزازا للمعنى بينها، في أعقاب الثّورة الطلاّبية، ذلك ما يتجلّى أساسا في كتابه "المعنى الدّيني". بعد تجربة امتدّت على ثلاثة عقود مثّلت فيها "تناول وتحرير" المدخل الذي أطّلت منه الكنيسة الكاثوليكية على العالم الحديث وعلى المصالحة مع المجتمع، تدحرجت وخفت صوتها في إيطاليا وفي الخارج.
فأزمة مشروع "الأنجلة وإعادة الأنجلة" الذي لاقى معارضة في الغرب، جرّاء محاولة الاكتساح المستجدّ لفضاء بقي الحنين إليه قويا، ولا تتوفّر الأدوات لولوجه، جعل الكنيسة تستفيق عما يفصل بينها وبين هذه المجتمعات. رغم أنها سعت في خلق رموز في الأوساط الاجتماعية: الأم تيريزا، لويجي جيوساني، زعيم الأبوس داي يواكيم نافارو فالس، وإعطاء أنشطتهم بعدا كونيا، لكنها عجزت عبرهم أن تجذب النّاس نحو المركز، وأن تحوز ولاءهم.
كما ولّد تمدّد المسيحيّة خارج فضائها التّقليدي وثباتها في الدّاخل تحدّيات رؤيوية لا عهد للمركز بها. صارت أطراف المسيحية وهوامشها تصرّ على أن تقدّم تأويلها للنصّ، فظهرت طروحات "الكنيسة السّوداء" و"المسيح الأسود" و"اللاّهوت النّسوي" و"لاهوت التحرّر"، إذ مسيحية روما مغرقة في تجاويف المجتمعات الغربية المرسملة، لذلك تحوَّل مطلب إعادة تأويل الدّين إلى مطلب ملحّ في لواهيت الأطراف، الذي بقدر وفائه للمسيح (ع) وجد نفسه مكرها على التملّص من سلطة روما، وبقدر ما التزم بسلطة روما تيقّن من اغترابه عن واقعه.
وتقريبا جلّ التكتّلات المسيحيّة في الأطراف (الإفريقية والآسياوية والأمريكية الجنوبية)، الموالية للكنائس الغربية عبرت عن تململها اللاّهوتي وألحّت على مطالبها، باستثناء الشّرائح المسيحية العربية الدّائرة في فلك الغرب، بقيت تثير الانتقادات للعالم الإسلامي، وتخلّت عن تموضعها الحقيقي داخل جسد الكنيسة العام، مما حوّل دورها إلى رقيب على العالم العربي والإسلامي. لذلك عادة ما تلوك المسيحية العربية الدّائرة في فلك الكنيسة الغربية محورين: محنة المسيحيين العرب في الفضاء العربي والإسلامي؛ ومسألة الانقلاب نحو المسيحية وعراقيلها التّشريعية الإسلامية.
مركزيّة المؤسّسة
يقول المثل الشّعبي في روما "يرحل بابا، يحلّ آخر مكانه"، تعبيرا عن ثبات المؤسّسة الدّينية وإن تغيّر أحبارها. كانت أسئلة المؤسّسة بزعامة البابا الرّاحل كارول ووجتيلا للاّهوت المسيحي، مدفوعة بالطّموح لأنجلة العالم، وفي جدل متواصل مع الخارج، عبر مجلس حوار الأديان -Nostra aetate-، ومراجي صلاة أسّيزي، ويوم الشّبيبة العالمي.
كما تطوّرت طيلة فترته الأبحاث في لاهوت الأديان في الجامعات البابوية، وصارت له عدّة طروحات لاستيعاب الأديان التوحيدية، والتي يأتي في مقدّمتها الإسلام، الخصم التوحيدي العنيد، ومحاولة احتضان الأديان الشّعبية ضمن قراءات تتناقض حينا مع الرّؤى الأرثوذكسية التقليدية.
وبالمثل دأبت المؤسّسة الكنسية على البحث عن الانسجام، حتى مع عدوّها ونقيضها، فرضيت بالتعايش مع العلمانية برغم خطورته، وتبنّت مقولاتها طيلة فترة ما بعد المجمع (1965)، بصفتها الضّامنة لحضورها، ورفعت شعارها المعهود "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، الذي استنفذ طاقته وبراغماتيته. إذ تضيق المجتمعات الغربية اليوم ذرعا بالكنيسة، التي ترنو للعودة ثانية للمجتمع، عبر "إعادة الأنجلة" وعبر التعليم والكاتيكيزم.
في حين كان خيار المؤسّسة مع البابا الحالي بندكتوس السّادس عشر، داخليّا بالأساس، حيث التركيز على الترميم اللاّهوتي والبحث عن الوحدة المنفرطة. فالبابا السّابق ووجتيلا استعراضي –تعاطى حرفة التّمثيل المسرحي قبيل الانضمام للرّهبنة- يعرض طروحاته خارجا، بما يرافقها من بروتوكولات متكرّرة، تقبيل الأرض بالنزول من الطائرة والحفاوة بلقاء الحشود الكبيرة؛ أما البابا الحالي فهو لاهوتي تأمّلي يولي عناية أوفر للشأن الدّاخلي وما يستدعيه من إصلاح ليتورجي. ولذلك أوّل ما فعله لدى تنصيبه إلغاء مجلس حوار الأديان (Nostra aetate)، غير الضّروري بالنّسبة إليه، ثم تراجع عن ذلك جرّاء الضغط، وانهمك الرّجل في تنقية الفضاء الكاثوليكي من الشّوائب التي تعكّر صفو وحدته. كما بادر بلقاء زعيم تيّار الواقعية الذي يمثّله هانس كونغ، وساوم أتباع لوفابر المنشقّين للانضمام من جديد. فبين انجذاب للخلف واندفاع للأمام تجد الكنيسة الكاثوليكية نفسها، مجبرة للملمة قواها، عبر إحياء اللّغة اللاّتينية، التي ألغيت سابقا والتي كانت من عوامل انشقاق اللّوفابريين.
صار الواقع يلقي بأسئلته المدنيّة والبيولوجية أمام فكر تقليدي محافظ طالما غيّب الواقع، حيث يعمّ السوّاح الكنائسَ أكثر مما يرتادها المصلّون. ولكن بالتوازي مع غياب المؤمن، يشتدّ قلق داخل الأوساط العلمانية الغربية، تنادي جرّاءه بضوابط متطرّفة في وجه الكنيسة لإعادتها لمعقلها المنفلتة منه. وأبرز تلك التحوّلات تبدّت في المسألة الخلقية التي صارت من أوكد المسائل التي تؤرق الكنيسة اليوم، فجيش المثليين والسحاقيات لم يعد خارج الكنيسة بل صار داخلها أيضا. كما أن مسألة الجدل المتعلّق بـ"الإخصاب المعين"، صارت فيه مطالب الناس وإلحاحهم لرفع العراقيل تؤرق الكنيسة. وكردّ على ذلك حاولت أن تصوغ إطار علمي خلقي تدافع من خلاله عن فلسفتها، عرف بالـ"بيوإتيك"، في مقابل البيولوجيا المنفلتة، لكنّ خطابها بقي في حيز الجامعات البابويّة ولم يقنع النّاس في الخارج.
وفي ظلّ تمدّد المسيحيّة خارج الفضاءات التقليدية، وما ولّده من أمل للكنيسة بعدما راودتها خشية الأفول، طيلة حقبة شعارات "موت الله" و"تقشير الباطاطا أجدى نفعا من تشييد الكاتدرائيات"، التي حاصرتها. تستعيد اليوم أنفاسها، ويحاول المركز الإمساك ببؤرة المشروعية والعضّ عليها بالنواجذ حتى لا ينفلت زمام السّلطة التأويلية منه، لذا يبقى إضفاء المشروعية على قراءة الأطراف في حاجة إلى مباركة المركز.
فالكاثوليكية الحالية مثلا، تتميّز بتصلّب شبيه بما ميّز العهد الترنتي -Tredentine، من تقليدية ووحدة الشّعيرة، جرّاء الرّد على ما سمي بانحرافات لوثر. حيث في ظلّ الإصلاحات اللاّهوتية الدّاخلية، تشهد الكنيسة عودة للتقليديّة والنصّية، التي لا تولي شأنا للتنوّع، منحازة في ذلك للواحدية اللاّهوتية.
فهي تساير المجتمعات كرها لا طوعا، حتى لا تلفظها، ولكن في سيرها تبقى مخاطر التّنازل عن هويتها حاضرة، فالمجتمعات الغربية صارت تدفع باتجاه تحوير مسارات اللاّهوت التقليدية. بعد تجارب شتى خاضتها الكنيسة، أيقنت من تراجع نفوذها على مستوى المجتمع، لذلك تحاول أن تعود للسّلطة عبر اللّوبيات والجماعات الضّاغطة: (Opus Dei) في إسبانيا، (Légionnaires du Christ) في المكسيك، (Saint Egidio) في إيطاليا؛ وعبر تحالفات استراتيجية مع اليمين السّياسي، تنشط فيه الكنيسة عبر كتلها الكاثوليكية في برلمانات الدّول وداخل البرلمان الأوروبي، وقد بدا ذلك جليّا في معارضة النائب الكاثوليكي روكو بوتليوني لدخول تركيا ولحضور الإسلام في الغرب.
الوحدة اللاّهوتية المستعصية
لم يهضم البابا الحالي فتنة 1988، التي خلّفت انشقاق المونسنيور مارسال لوفابر عن الإجماع الكاثوليكي، وتحصّن جماعته بفرنسا حيث توفّر هامش أرحب للحرّية. تلخّصت دواعي الفتنة في ما أقدم عليه الفاتيكان من إلغاء القدّاس اللاّتيني سنة 1969، بعيد الانتهاء من المجمع الفاتيكاني. وما أجّج غضبة اللّوفابريين إقامة البابا السّابق الصّلاة المسكونية في أسيزي خلال 1986، فرفضوا ذلك التّساوي العقدي مع أديان ومذاهب، يعدّونها من الانحرافات عن رسالة المسيح، وأعلنوا خروجهم العلني سنة 1988.
وعادة في ما لا يهدّد سلطتها، تتميّز الكنيسة ببراغماتية وليونة، سواء بالتخلّي عن بعض الشّعائر، أو بتجاوز بعض المحرّمات، أو حتى إلغاء بعض المعتقدات. حدث ذلك مع مطلع انتشار المسيحية في أوروبا، حين ألغي الختان وسمح بأكل لحم الخنزير، برغم فرضية الشّعيرة الأولى وتحريم أكل الخنزير في العهد القديم.
في الأيّام القليلة الماضية صدرت وثيقة عن لجنة لاهوتية في مجلس مراقبة عقيدة الإيمان في الفاتيكان، ألغي بموجبها الإيمان بالبرزخ. انشغل ببحث الموضوع ثلاثون لاهوتيا، واختتم الملفّ بتقديم مفتّش مجلس العقيدة الكاردينال ويليام ليفادا خلاصته، التي نالت رضا البابا راتسينغر. وحسب الاعتقاد الملغي كان يمكث في البرزخ الأطفال الذين يُتوفَّون قبل التعميد، فلا يفوزون برؤية وجه الله، لكن في مقابل ذلك لا يمسّهم العذاب، لعدم وعيهم بذلك المنع، ومع المعتقد الجديد صار الأطفال المتوفّون بدون تعميد ينعمون بتلك الرّؤية.
فالمعتقدات والطّقوس تبدو مسايرة للتحوّلات الاجتماعية ولا تعرف الثّبات، ففي بحث مجرى عن الحياة الدّينيّة نشرته المجلّة الكنسيّة الإيطالية الموجّهة للطّبقات الشّعبية "العائلة المسيحية" خلال العام الماضي، تبيّن أن "الرّاهب بيو" الرّاحل، هو الأكثر رجاء من طرف الإيطاليين، فاق في ذلك المسيحَ والعذراءَ مريم، فتماثيله الصّغيرة الأكثر حضورا مع سوّاق العربات تيمّنا به، وكذلك صوره أكثر تواجدا في حافظات الأوراق الشّخصية. كما يبقى التوجّه في الجنوب الإيطالي للقدّيس جيوسيبي والقدّيس جنّارو حامي نابولي، في حين في الشّمال، يفضّل النّاس التوجّه للعذراء وللقدّيس فرانشيسكو والقدّيسة ريتا. يبقى الخطاب الدّيني مثقلا بالأسطورة، برغم الطّابع اللاّديني الذي يلفّ المجتمعات، فأسطورة "فاطمة"، وتجلّي العذراء، وأساطير معجزات الأب بيو، ودم المسيح السّائل مع كلّ فصح، من الأمور التي تسعى الكنيسة لترسيخها، ربما ذلك ما يجذب العامّة، لكنه ينفّر شرائح واسعة من المثقّفين ويبعدهم عن الكنيسة.
إجابة عن سؤال إلى أين تسير الكاثوليكية اليوم؟ يقول إيفاس برولاي في كتابه "تاريخ الكاثوليكية": يتواجد تيّاران، لا ينفي أحدهما الآخر. الأوّل يؤكّد على الرّسالة المسيحية السّاعية من أجل ترسيخ السّلام والتقدّم الاجتماعي وتقبّل الاختلافات والمسكونية، مع الابتعاد عن الماضي الذي يفرّق والمؤسّسة الملزمة، فهو يعي الكنيسة كأخوّة إنسانية، أخلاقية، تعدّدية ويكتفي بخصوصية الدّيني. ولو كان له هدف يرنو إليه لتجلّى في "أسيزي"؛ وإلى جانب ما يمكن أن نسمّيه بـ"الأسيزية"، يوجد تيّار "يهودي مسيحي" يلقي بنظره باتجاه أورشليم، أولويّة المؤمن فيه تجد جذورها في الكتابية، المتأسّسة على وحدانية متسامحة ومنفتحة، منشغلة بحقوق الإنسان ومقبولة من الأكثرية: كونية غير رومانية وغير مؤسّسية.
ربما يبدو الاستشراف السّالف على ثقة في احتفاظ الكنيسة بهويتها، لكن بحسب المفكّر اللاّهوتي هانس كونغ فالمسيحية ينبغي على أن تكون أكثر مسيحية، بصفة النّظام الكاثوليكي والتقليديّة الأرثوذكسية والأصولية البروتستانية، هي تجلّيات تاريخية للمسيحيّة، لم تتواجد بشكل دائم، وفي يوم ما ستندثر، لماذا؟ لأنها لا تشكّل جانبا من جوهر الحدث المسيحي! ذلك ما يلحّ عليه في كتابه: " المسيحية الجوهر والتاريخ ".
* أستاذ تونسي يدرّس بجامعة لاسابيينسا بروما.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.