إن التركيز على الحاضر، أو على الماضي القريب جدا، يجعلنا عاجزين عن تفسيرهما، مِثل عالِم بحار يرفض رفع عينيه إلى النجوم بحجة أنها بعيدة جدا من البحر، وحينها لن يكون بوسعه أبدا معرفة أسباب المد والجزر. هكذا يدعو مارك بلوخ، المهووس بمهنة المؤرخ، قارئ شهادته حول الهزيمة الغريبة لفرنسا للبحث، وهو يستقصي الحقيقة، في أسباب الاندحار السريع أمام ألمانيا النازية، وتجنب التفسيرات السطحية والمتهافتة .
بعد الانسحاب من الجبهة، والعودة إلى درس التاريخ في جامعة السوربون شهر ماي 1940 كتب مارك بلوخMarc Bloch شهادته حول الحرب الثانية، وكان يتمنى أن يبقى لديه، كما الشعب الفرنسي، دمٌ لبذله في سبيل الوطن، وفي الوصية كان الرجاء لديه في أن تُنقشَ على قبره عبارة: " كان يعشق الحقيقة" .
نص الشهادة L’étrange défaite, témoignage الذي جاء بنبرة تأنيب الضمير لمواطن يعشق وطنه، صدرت الترجمة العربية له في طبعتها الأولى عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة ترجمات في شهر ماي 2021،وهي للباحثة في العلوم السياسية عومرية سعيد سلطاني .الكتاب من الحجم المتوسط (184صفحة).
يقدّم المترجمُ شهادة المؤرخ مارك بلوخ من خلال ثلاثة فصول، الأول منها تعريف بالشاهد، والثاني تحت عنوان شهادة مهزوم، ثم الثالث بعنوان فرنسي يفحص ضميره، مع وصية المؤرخ التي كتبها بتاريخ 18مارس1943.(توفي مارك بلوخ يوم 16يونيو 1944).
شهادة المؤرخ مارك بلوخ حول الهزيمة الغريبة لفرنسا، تمتلك في نفس الآن جرأة المؤرخ الأكاديمي الجَسور، وضمير المواطن الذي يمجد انتماءه للأمة والوطن الفرنسي، وعظمته، وكبرياء الجندي العائد من الجبهة في حرب الشمال بمرارة الاستسلام ،بعدما عاش تجربة المشاركة في الحرب لمرتين، الأولى في غشت 1914 برتب عسكرية ابتدأت برقيب في سلاح المشاة وانتهت برتبة نقيب، والثانية ابتداء من غشت 1939 برتبة نقيب إلى غاية انتهاء خدمته في الجيش في 11يوليوز 1940.
اعتمد بلوخ في شهادته على تجربته في الحرب الثانية- ولو أنه لم يشارك في القتال المباشر، حيث كان مكلفا بلوائح ومستودعات البنزين للآليات العسكرية- تلك الحرب التي وصفها على لسان الألمان ب"الحرب العفنة " الطويلة ،الحرب الكبيرة التي تأتي مثل اللعنة لأن "الآباء هم من يدفنون أبناءهم "،ثم على المعلومات التي جمعها وهو يؤدي عمله مع كثير من قيادات الأركان العسكرية ،مع اعترافه بأنه لا يسعى لكتابة تاريخ نقدي للحرب، وافتقاده للوثائق الضرورية، والكفاءة التقنية للقيام بذلك.
في شهادة المؤرخ إقرار بالهزيمة، وسعيٌ لفهم، من جهة، أسبابها المباشرة كما عاشتها فيالق الجيش الفرنسي على الجبهة الغربية، والعميقة الفكرية والاجتماعية والنفسية كما يعرفها المجتمع الفرنسي ومختلف طبقاته سواء منها الأرستقراطية، والبرجوازية العليا، أو البرجوازية الصغيرة، وطبقة العمال والفلاحين في الأرياف، من جهة ثانية.
تورد الشهادة سلسلة مترابطة ومتداخلة من العناصر والعوامل التي اعتبرها المؤرخ-جندي الجبهة أسبابا لفهم الهزيمة الغريبة، ولشرحها حتى تكون العبرة لأبناء الأمة الفرنسية وأجيالها التي يقع على مسؤوليتها مستقبل الوطن ومصيره، فما من" كارثة أسوأ على الحضارة، كما على الاقتصاد، من أن تَقعَ أمة فريسة أمة أخرى"(ص134).
من الحقائق التي جاءت في متن الشهادة أخطاءُ القيادة العسكرية، والتي اعتبرها بلوخ أخطاء مجموعة من الأفراد، والعجز المترتّب عن ثقل سنوات العمل المكتبي بالوزارة وفي هيأة الأركان، وكذا عن تحمل المسؤولية من طرف قادة تقدّم بهم العمر، ولم يفسحوا الطريق أمام تعبئة القيادات الشابة من أطر وقادة الجيش الفرنسي وكوادره الصلبة ،ثم استمرار التقاليد العسكرية الموروثة عن فترة الحرب العالمية الأولى في طرق التكوين والتدريب بالمدرسة الحربية، والتي كان لها الدور في فقدان الحماسة القتالية، وسيادة نوع متحجر وبيروقراطي داخل المؤسسة العسكرية(القواعد الهرمية المقدّسة وعدم التمييز بين الانصياع والاحترام وغلبة قواعد التدجين يؤثر على المزاج الصحي والقدرة على التعبئة والتضحية عند خط النار) تلك المؤسسة التي "لم تكن مدرسة مثالية لتكوين الشخصية العسكرية"(ص98).
ثاني عامل رئيسي لهزيمة 1940، هو دخول فرنسا الحرب بتكتيك واستراتيجية حرب1914-1918،وإغفال عنصرين جديدين في المعادلة الحربية: المسافة والسرعة . إذ لم تكن القيادة العسكرية قادرة على احتساب الوقت بدقة وهي تضع خطط التحرّك على الجبهة وترسمها على الخرائط، وهذا ما جعل الألمان "يخوضون الحرب بمقاييس اليوم تحت جناح السرعة"(ص47) وضمن سلسلة مفاجآت متتابعة في معناها الاستراتيجي، وفق "المنهجية الانتهازية التي امتازت بها الروح الهِتلرية"(ص57) بينما اكتفت فرنسا بنمطها الحربي التقليدي الذي ألِفَته في المستعمرات، فكانت بذلك الأكثر تخلفا، فضلا عن سوء التنظيم الذي عرفته الاستخبارات الفرنسية، والارتباك في نقل المعلومات والتواصل بين مختلف مكونات القيادة والقوات على الجبهة، مع البطء الشديد في التفكير والتوقع، إذ بدا أن الجيش الفرنسي وكأنه مجموعة مناطق نفوذ منفصلة وليس جيشا واحدا.
بينما تمثّل العامل الثالث في التراجع السريع لخط الدفاع البلجيكي، وفشل القوات الفرنسية في الدفاع وصد الهجوم المباغت للألمان حتى في الأراضي السّهلية حول نهر "ميز"، ثم الاضطراب الشامل الذي عرفته فيالق الجيش الفرنسي في منطقة" الفلاندر" وهي تتراجع نحو الخلف في اتجاه السواحل أمام التفوق الحربي للألمان سواء في المدفعية، أو القوات الجوية، أو حتى في استعمال الدراجات النارية التي كان الجنود النازيون يًحسنون استخدامها وبكثرة، بينما لا تمتلك فرنسا ما يكفي من العتاد دبابات، وطائرات، وشاحنات ودراجات، وحركة وحداتها الميدانية كانت بطيئة في حرب دارت تحت قاعدة السرعة والاختراق المتواصل، والخاطِف، للخطوط الدفاعية.
رابع سبب هو فشل التحالف مع ابريطانيا ميدانيا بالأراضي البلجيكية، وعلى مضيق المانش، واختيار الجنود الأنجليز الانسحاب أولا بعد اقتحام الألمان جبهة الشمال وعلى شاطئ "فلاندر" بعدما تأكدت لدى القيادة الأنجليزية لا جدوى المتابعة وخاب أملها في الصمود .
العامل الخامس كان هو الانهيار السيكولوجي العام في صفوف الجيش أمام انتشار الإحباط، وتواتر الأخبار عن حالات الهروب من الجبهة، ثم التأثير السلبي للتكوين العسكري الذي كان ينتصر للجانب المعرفي النظري ويفتقد للمعرفة بالخصم وقدراته الحقيقية كما هي سنة 1940و ليس على صورة الجيش الألماني في حرب 1914-1918 . فقد كان التعليم العسكري- ومعه القادة العسكريون- يرى أن حرب 1914 ستكون على نهج حرب نابليون، وأن حرب 1939 ستشبه حرب 1914،بينما الوقائع التاريخية تقول أن الجيش الفرنسي في الحرب الأولى كانت أمامه أربع سنوات من الزمن لتغيير طرائقه، بينما لم يحظ في الحرب الثانية سوى ببضع أسابيع . لقد كانت حرب 1940 مواجهة غير صلبة تعرضت للاختراق وكانت "رائحة العفن" تنبعث من المدرسة الحربية، ومن مكاتب هيئات الأركان في زمن السلم (ص124).
"أمة تحت السلاح، لا مكان فيها إلّا للمناصب القتالية ".
في الفصل الذي جاءت فيه الشهادة بضمير المتكلم، وهوية المواطن الفرنسي، عاد مارك بلوخ لتوسيع دائرة البحث في أسباب الهزيمة سنة 1940،وسبر أغوار المجتمع الفرنسي وتحديد مسؤولية كل مكوناته، وطبقاته، ومؤسساته، حتى يكون منصفا في أحكامه القاسية/ شهادته، فلا تتحمل القيادة العسكرية لوحدها تلك الهزيمة الغريبة، ويرى أن عليه كمواطن ومؤرخ أن لا يترك فرصة للتلاعب بالحقيقة في وطن مفجوع .
يعود المؤرخ في هذا الفصل لفحص الأسباب العميقة للهزيمة، وكان أبرزها عدم الاستفادة الجيدة من درس التاريخ حينما تكون الأمم في لحظات الحرب، وأمام المصير المحتوم للمواجهة، حيث لا يفيد في شيء استمرار التمييز التقليدي بين الجنود والمدنيين خاصة منهم المواطنون الراشدون. فإن كانت الحرب أمرا فظيعا لأنها لا تستثني الأطفال الذين هم في حاجة للحماية، والقصف خلالها ينشر الرعب بين الجميع، في المدن المفتوحة كما الأرياف، فإنها تفرض التعبئة العامة لكل أبناء الوطن، ومن مختلف المهن، لأنهم يتساوون أمام التهديد الذي يواجه الوطن، فالكارثة الفعلية المقابلة للحرب هي التهربُ من مواجهة الخطر المشترك، "فلا أحد في الوطن المهدَّد يمكنه الإفلات من حالة الاستنفار الجماعية، لأن ذلك مجرد عواطف زائفة وجبن مكشوف"(ص133).
يرصد بلوخ باقي الأسباب في الوقائع والحقائق، ويمكننا عرضها بشكل مختصر في النقاط الموالية:
-قبول التضحية بالقرى ومواطني الريف بإعلان المدن التي يفوق عدد سكانها 20000نسمة مناطق مفتوحة(استسلام دون حرب) كان يترجم موقفا تاريخيا، وذهنية تقليدية في فرنسا من ساكنة الريف والفلاحين على الخصوص.
-التأخر في تكوين المجندين وتأهيلهم، وسيادة الذعر بدعوى حكاية فئة الشباب، وذلك بفعل تجربة الحرب الأولى التي أخذت في جحيمها جُنودا بعمر السادسة عشرة .
-استمرار "نظام الأعيان" ضمن الطبقات الحاكمة بفرنسا، واستفادته من الدعم الذي يوفره له المال والصحافة، مع سيادة الفتور الفكري، والدعاية المزيفة والمتهافتة .
-محدودية الجهد المبذول في الصناعات الحربية
-هيمنة الطابع الإيديولوجي في صفوف الفرنسيين في الموقف من الحرب الثانية، إذ "لم يشعر الفرنسي عام 1939 أنه يضحي بنفسه بشكل عفوي لإسقاط الديكتاتوريات"(ص139) بخلاف الشعور الوطني العام الذي ساد خلال الحرب الأولى "لتحرير الإخوة الذين فُقدوا" في الألزاس واللورين.
-نمو المصالح الضيقة وسط كل من البرجوازية العليا، ومكونات البرجوازية الصغيرة، وتراجع الاتحادات العمالية والنقابية في التعبئة أمام تزايد التيارات الأممية المسالمة التي لم تستطع التمييز بين الحرب التي يواجهها الوطن قسرا وتلك التي يختارها طوعا، مكتفية بالتحريض ضد الرأسمالية الفرنسية ونقائصها .
-احتدام التناقضات بين تيارات الشيوعية الفرنسية، والدور السلبي للتنظيمات الحزبية في تلاعبها بالمعلومات، وتقلص الثقة في سياستها الدعائية، مع ارتفاع مستوى التخوف المجتمعي في صفوف الأحزاب والبرجوازية من الوعي الذي صارت تكتسبه "الطبقات الدنيا" بعد أن تعلمت القراءة، بينما لم تستطع فهم الأهداف الحقيقية للنازية، وإغراءات حضارته المُمَكنَنَة (كانت ألمانيا تنظر لباقي الأمم باعتبارها مجتمعات زراعية !)
-الاستسلام السريع الذي أبدته الأحزاب اليمينية، وقد كان ذلك بمثابة تقليد تاريخي لديها في فرنسا.
-استمرار الجامعة والأكاديميين في الوفاء لنوع من الأرثوذكسيات الفكرية، والمعارف الاجتماعية الموروثة عن النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم عجز مدارس التعليم الثانوي عن تطوير طاقات فكرية جديدة، وتفاديه الخوض في المفهوم الاجتماعي لاستيعاب معاني الاختلاف والتغيّر .
-ضعف النظام البرلماني وتعدد عيوبه، إذ يقوم على الدسائس والانقسامات، وتضخّم المجالس، إلى جانب تعفّن الآلية الحزبية التي ظلت أسيرة العقائد والبرامج التي لم تستطع هي نفسها التمسك بها فتناقضت م بذلك مواقفها بخصوص مؤتمر ميونيخ، بالإضافة إلى التقاعس الوزاري في الإعداد لخوض الحرب ودعم الجيش، وتآكل الجهاز الدستوري، ثم تعزيز "طبقة المُسِنّين"، وانتشار نظام مُحافظٍ في تولي المهام والمناصب مما زاد من سوء الفهم لدى الشعب الفرنسي .
-سوء تقدير الاختلافات بين التيارات الفكرية والفلسفية والاجتماعية، وتعمق القلق لدى البرجوازية الفرنسية والطبقات الميسورة خاصة فترة حكومة الجبهة الشعبية، مما انتهى بتشكّل نوع من العداء بين البرجوازية العليا وباقي طبقات الشعب، لدرجة أن البرجوازية قاطعت الجيّد كما السيئ من سياسة الجبهة الشعبية، فانتهى ذلك إلى إدانة الأمة وفقدان البرجوازية الإيمان بالوطن، والاستهانة بالموارد الحقيقية للشعب.
-استمرار العلاقات المأزومة مع ألمانيا، وعدم القدرة على استشراف معالم الانتفاضة النازية المرتقبة، بينما ظل وَهْمُ الانتصار الحتمي عليها قائما كما في الحرب الأولى.
يُنهي مارك بلوخ هذا الفصل من شهادته، المؤرخة بشتنبر1904، بإقراره بهزيمة جيله، ويفتح مجموعة من الأسئلة القلقة حول مصير فرنسا المنهزمة سنة1940 دون أن يغفل المقومات العميقة للشعب الفرنسي وقدرتها على النهوض من جديد، ثم المراهنة على جيل فرنسا الربيع الجديد الذي عليه أن ينهل من فضائل تاريخ الأمة الفرنسية، ويدرك أخطاء الأجيال الهرِمة حتى يمكنه تجنبها، والحافز القوي في ذلك بالنسبة لكل شعب هو الفضيلة .