يبدو أن لفظة العولمة تمثل مجالا دلاليا خصبا وغنيا، باعتبارها المحدد الوحيد للتجربة الإنسانية الحديثة، وبوصفها حركة لا تقف عند حد الهيمنة السياسية، والاقتصادية، والإعلامية، التي فرضها العالم المتقدم على عالم الجنوب وعلى ضعاف العالم، بل تتجاوز ذلك إلى فرض النموذج الثقافي والقيمي الأمريكي في كل شيء. وتسخر لأجل ذلك سلطاتها في مستوي الاقتصاد، والعتاد التكنولوجي، والحضور القوي في الساحة السياسية الدولية.
وهكذا تكون مقاربة هذه الظاهرة من جانب واحد اقتصاديا كان أم سياسيا أم ثقافيا الخ، أمرا غير ممكن. وإن كان هناك من لا يعترف بوجود العولمة إلا في تمظهراتها الاقتصادية بالدرجة الأولى. فنحن في واقع الأمر أمام ما هو أكبر من ذلك، أمام مرحلة تاريخية جديدة، بسمات وملامح جديدة. مرحلة تصوغ واقع حياة الشعوب المستضعفة من جديد، وفق رؤية العالم الغربي المتقدم وأهدافه. مرحلة يمكن اعتبار أن أهم سمة مميزة لها هي التعقد البالغ في العلاقات، وانكماش المسافات بين المجتمعات، انكماشا لم يكن ممكنا في حضور حواجز الهوية والثقافة، كما كانت من ذي قبل. وتسارع في وتيرة السير في طريق الاندماج الكلي، الذي انخرطت فيه جميع الأمم والشعوب منذ ظهور الثورة التكنولوجية الحديثة، في أواخر القرن العشرين. التي أضحت سارية المفعول في خضم حركة العولمة هذه، بسهر وتأطير من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، كقوة وحيدة على عرش العالم.
وتتضح مساعي العولمة - وفقا لذلك- كمحاولة تنميط كبرى، تستهدف فرض النموذج الأمريكي على حساب الهويات الثقافية، والمنظومات المجتمعية المحلية، في بلدان العالم الثالث، وترسيخه قسرا وقهرا، بقوة رأسمال الشركات ذات الفروع العالمية، وبقوة الوسائل الإعلامية والتقنيات الحديثة، وريادة القرار السياسي على مستوى العالم وغيرها ...
إن العولمة بهذا المعنى، عنوان للمرحلة الراهنة، والمرجع الوحيد الذي يرجع إليه في تفسير كل ما يستجد من ممارسات وظواهر في الحياة الاجتماعية. وبالتالي فهي تمثل إطارا نظريا يتضمن فهما جديدا لمجموعة من القيم الجوهرية في السياق العالمي، فهما لا ينفصل عن غاية إخضاع العالم المستضعف وإذلاله، وانتهاك خصوصياته وقهره، ودعم أنظمة الاستبداد ضد إرادة شعوب هذه الربوع المستضعفة. وقد ارتأينا أن نقتصر على ثلاثة مفاهيم أساسية، هي: الحرية والديمقراطية والأمن. كأهم البؤر الحساسة في حياة مجتمعات العالم، وفي خضم موجة المشاكل التي تعصف بالجنوب المستبد به، والتي تعود في الأصل إلى طابع حركة العولمة، التي تتأسس على القهر والقسر.
بين العالمية والعولمة:
يقتضي الكشف عن السمات الأساسية للعولمة، ورصدها بشكل دقيق، إجراء تمييز دقيق بين ما تعنيه الصيغة الصرفية الخاصة لكل كلمة، طالما أن إحالتهما تظل ملتبسة ومتداخلة، وهكذا نجد أن الفرق الجوهري يتأسس على الاختلاف في الصيغة الصرفية(عولمة : "فوعلة" ) و(عالمية : فاعلية) والذي يستتبع تمايزا على مستوي الدلالة بين اللفظتين. حيث يشير كل منهما إلى الذيوع والانتشار في العالم، إلا أن وجه التمايز يكمن في دلالة العالمية على صفة العموم الشيوع هذه التي تكتسبها منظومات معينة، مثل منظومات الأفكار، والفلسفات، والآداب، والقيم، والأخلاق وغيرها، داخل السياق العالمي. بالإضافة إلى صفتها الأخرى التي هي الخصوصية والقومية والمحلية، فهي إذن تنزع إلى القومية من جهة لأنها تتصف منها بما يكفي، وتصير مرغوبة خارج الحدود القومية أيضا لخاصية فيها، فيتم الإقبال عليها، وتنتشر ويتم تبنيها إراديا في أي قطر من أقطار العالم، دون فرض ولا قهر. فالعالمية بذلك مقترنة بالرغبة والنزوع الإرادي، والحرية في الاختيار والتفاعل الحر. أما العولمة، فمن خلال دلالة صيغتها الصرفية يبدو أنها تشير إلى عملية منجزة باستمرار وبشكل آلي، وبنوع من التطويع، والإخضاع، والإجبار. ومن هنا تكون العولمة هي القهر والقسر الهادفين إلى نشر نموذج أو نمط معين ثقافيا كان أو سياسيا أو اقتصاديا قهرا وإجبارا لا تخالطهما فرص للاختيار الحر 1.
وهكذا نكون قد انتهينا إلى استنتاج مهم، هو أن التسمية الأليق للمرحلة الراهنة التي نعيشها إنما هي العولمة وليس العالمية. إذ الأمر أبعد ما يكون من التفاعل الحر وخارج عن إرادة الإنسان. فما يعولم الآن في هذه المرحلة، لا يمكن إلا أن يكون سياسة القوة، ولا مجال للحديث عن التوافق والاختيار والتثاقف.
1 - مجالات الهيمنة في زمن العولمة:
تعرف العولمة - حاليا عند كثير من الدارسين- كإطار لكل المتغيرات والمستجدات التي تعج بها حياة الناس، ويعتبرونها ببساطة صفة لهذه الموجة الهائلة من التغيرات الحاصلة في المجتمعات الإنسانية الحديثة. أما الحديث عن الهيمنة إزاء هذه الممارسات الموجهة أساسا من طرف العالم المتقدم، وتحديدا بغية قهر الجنوب ومضاعفة مصائبه، على كل المستويات: ( التدخل في تقرير مصير الشعوب، الترويج للثقافة الأمريكية وفرض لغتها، دعم أنظمة الاستبداد في هذه الربوع...) فإنه بمثابة القلب من الجسد، بالنسبة للحديث عن جملة هذه المتغيرات، وحجم هذا التنميط الذي يبتلع مبادئ الخصوصية، والهوية القومية.
لقد بات واضحا إلى حد كبير، حجم الأخطار التي تضمرها العولمة في بعدها الاقتصادي، المتمثل أساسا في إضعاف القدرة التنافسية للدول المتخلفة، والسائرة في طريق النمو، بإغراق أسواقها وتوريطها في "الإطار المافوق وطني" في اقتصاد السوق. بحيث لا تتفاعل في إطاره بما ينفعها ويقويها، نظرا للقدرة التنافسية التي تتمتع بها دول الغرب المتقدمة، وتوحيد رأسمال العالم2. كما صار ظاهرا أيضا خطر تمركز العالم حول أمريكا في يخص القرار السياسي، وخطورة التدخل في سياسات كل دول العالم الذي من قبل "دركي العالم" هذا. واستقر في الأذهان أيضا أن: أمريكا اليوم هي من تتحكم في أمن العالم وهي من تخطط للصراعات، والتكثلات، والتحالفات، وكل شيء في مستوى السياسة الخارجية. كما لوحظ أن أيضا أن التكامل والتداخل بين جبهات العولمة، ومجالاتها.3 أمر قائم وإليه يرجع في السؤال عن سر تسارع فعل الهيمنة في فترة ما بعد الثنائية القطبية. إلا أن هذا التداخل بين أبعاد العولمة، لا يمنعنا من أن نعتبر أن أكثرها وضوحا للعامة، هو البعد الاقتصادي، وأكثرها خفاء وتعقدا هو البعد الثقافي القيمي. هذا البعد الذي آثرنا إعطائه قدرا زائدا من التفصيل، ضمن هذه الوريقات، نظرا لغموضه وحساسيته الكبرى وأهميته التي لا تخفى في كل حديث عن ظاهرة العولمة.
العولمة والثقافة:
يمكن اعتبار الثقافة أقرب جزء في حياة الأفراد والمجتمعات إلى الآخر المختلف، وفي الآن نفسه، أعمق شيء في الفرد والمجتمع، وأكثر أشياء الإنسان خصوصية. وهذا طبعا يسري في المستوى العالمي بشكل أكثر جلاء، وبذلك فالثقافة مجال للتفاعل، وحيز تبرز من خلاله الهوية والخصوصية، في الوقت نفسه. لأننا لا نوجد إلا في تفاعل دائم مع الآخر المختلف، سواء كان فردا أو جماعة، ولا نوجد أيضا إلا باحتفاظنا بما يميزنا عن غيرنا.
من هنا كانت البداية بالنسبة لحركة العولمة، التي انطلقت في نشاطها التنميطي الذؤوب، والمتسارع أكثر فأكثر منذ التسعينات من القرن الماضي. واضعة نصب عينيها، تحقيق الهيمنة الثقافية، لفائدة المنظومة الثقافية الأمريكية، بشتى الطرق. مستعينة في ذلك بالقتال على جبهات مختلفة - إن صح هذا التعبير- هي بالتحديد: السياسة والاقتصاد والإعلام. على اعتبار أن الغاية في آخر المطاف، هي إذلال الإنسان،4 وبتر كل الخصوصيات القومية ويختلف الباحثون والمهتمون بالموضوع حول ما إذا كان ثقل العولمة يتجه نحو مجال الاقتصاد ورؤوس الأموال والأسواق، أم أن يتكثل في ميزان الرهان الثقافي، الذي يكفل ولاء العالم لأمريكا. إن الهدف فيما يبدو هو الإنسان، لا ما يملكه الإنسان. لأن التصور الأول للعولمة، لم يعد صالحا نظرا لكونه فهم يختزل العولمة في فعل الشركات متعددة الجنسيات، والغزو الاقتصادي من قبل مصانع الغرب لأسواق الجنوب ورفع الغرب لشعار "الربح أولا".
غير أن البعد الثقافي للعولمة، ظل متسترا على نفسه، وسط هذا الركام الاقتصادي والسياسي والإعلامي لمدة طويلة. قبل أن يظهر ويصير هو السلاح الأكثر فتكا بحق الاختلاف لدى شعوب الجنوب، والأشد تهديدا لمنظومة الثقافة والقيم بها.
إن العولمة بهذا المعنى، استراتيجية ثقافية فكرية، أكثر مما هي أسواق، وشركات متعددة الجنسيات، ورؤوس أموال. وبالتالي فإن ما تصبو إليه هو إلغاء المرجعية القومية لصالح المرجعية العالمية المشوهة، حيث يفقد وجود الإنسان كل معنى، فيصير محجوبا نظره عن ماضيه ومستقبله، فتسهل قيادته والاستبداد به. لكن الذي يهمنا أكثر هو هدف الهيمنة، الذي يقبع خلف كل هذا، والذي يقتضي تدمير الهوية القومية كبصمة موحدة بين أفراد المجتمع الواحد، وكمرجع لكل عنصر، وكعمق لكينونة الأفراد. ويبقى أن نتساءل هل توفر الجو في البيئة العربية بما يكفل للعولمة تحقيق مساعيها في مستوى الهيمنة الثقافية ؟ الجواب من جهة، بالإيجاب لأن الفرد في عالمنا العربي مر من مرحلة فراغ صادفته فيها رياح العولمة فأعادت تشكيل أغلب ثقافته وسيطرت على ميوله. حيث انخرط كغيره في سياق العولمة وكاد سيلها يأتي على جذور هويته وثقافته العربية الإسلامية، ومن جهة أخرى بالسلب لأن هناك ما يسمى بالأصول الثقافية المتجذرة ضمن الثقافة المحلية، وهذا ما عبرنا عنه سابقا بكون الثقافة أكثر الأشياء خصوصية في الإنسان. لأنك إذا نظرت في الكيفية التي انخرط بها هؤلاء في سياق والعولمة وتماهيهم مع منظومة قيم الغرب لوجدته محدودا في ما لا تفرض عليه الأصول الثقافية المتجذرة أي رقابة أي في الجزء المتغير من الثقافة. فهل ينتفي القول بتأثير العولمة الثقافية إذن إذا وجدنا أن الإنسان العربي في الغالب الأعم لا زال يحتفظ بمبدأ العذرية في تقاليد الزواج بالرغم مما بلغه من تماهي مع النموذج القيمي الغربي ؟ بالطبع لا .
لأنه وجب أن نعتبر أننا بصدد ما يشبه البنية العميقة والبنية السطحية في التحليل اللساني التوليدي لحالات وتحولات الوحدات اللسانية. فالتحولات الطارئة لا تمحو الأصل وبقاء الأصل لا يعني عدم حدوث التغيرات. ولذلك فإن هناك من يعتبر أن التعدد الثقافي يسير ضدا على مساعي المرحلة الراهنة وأن القضاء على التنوع الثقافي هو أحد مظاهر فشل العالم وخيبة مساعي العولمة5.
إن القول بهذا كله، لا ينقص شيئا من خطورة موقف التنميط الثقافي، الذي يسري في كافة ربوع العالم الثالث. بل إن الموقف بخلاف ما قد يعتقد على قدر كبير من الخطورة. ذلك أن نشاط العولمة، يزيد حيوية في مستوى الثقافة والقيم، لأنها تمثل مجالا صحيا بالنسبة لها6. إن صنف العولمة الثقافية، ذو حساسية كبرى على مستوى الوجود الإنساني، فهي محاولة إقرار نموذج ثقافي وحيد يحتل المركز ويبقي غيره بالهامش، نموذج لا يقبل التفاوض ولا يتراجع عن لإخضاع الآخرين وإعادة صياغة والوجود الإنساني على الطريقة الأنجلوأمريكية7.
وجدير بالملاحظة أن الغرب عموما، في مرحلة استعلائه في العصر الحديث، تعامل مع العالم المستضعف والنامي، وفق استراتيجيتين اثنتين أساسا نوضحهما كالتالي:
تعامل الغرب باستراتيجية الترغيب والترهيب، في بداية تدخله في المشرق منذ حملة نابليون بونابرت على مصر، فكان يعتمد الإغراء لأن الناس في المشرق إذاك كان انبهارهم بحضارة الغرب في عزه، أما الآن فقد انكشف غطاء الوهم واستقرت حقيقة المصالحة مع الذات و العمل على العودة لبناء الحضارة. وبالتالي فإن استراتيجة أخرى هي من ستحل محل الأولى وهي إستراتيجية القهر والقسر، لتدارك الثغرات التي قد يخلفها وعي الشعوب بأهمية البناء والتوحد بهدف استرجاع ما ضاع منها لصالح الغرب وخير مثال في هذا الصدد هو الحضارة العربية الإسلامية.8 حيث تبتغي هذه الأخيرة تغييب حرية الاختيار كلية بخلاف الأولى التي أغرت ولم تجبر، فهي إذن تفرض النموذج الأمريكي فرضا لا يخالطه اختيار وترسخ بمنطق القوة منطق الإذلال في العالم، ومعيدة هيكلة مفاهيم الحرية والديمقراطية والأمن بما يتوافق مع أهدافها.
2 - التغير المفاهيمي في زمن العولمة:
إذا كانت العولمة مرحلة تاريخية امتدت منذ بداية القرن الثامن عشر، وشهد فيها العالم تحولات عميقة، خاصة بعد فترة التسعينات، تاريخ انهيار المعسكر الشرقي الإتحاد السوفياتي وظهور الأحادية القطبية، فإنه من الطبيعي أن نجد أن هذه الحقبة الأكثر حيوية تقدم فهما جديدا للمفاهيم الأكثر مركزية في السياق العالمي وتقبل بوجود ما شاءت منها وترفض ما شاءت وتغير بنية وتغير مدلولها بما يخدم أغراضها وقد ارتأيت أن أقتصر على ثلاثة مفاهيم أساسية تعد الأكثر تأثرا بخصوصيات المرحلة والأكثر تأثير كمنافذ لإضعاف شعوب العالم الثالث وتعميق أزماتها على كل المستويات والأصعدة، هذه المفاهيم هي الحرية، والديمقراطية، والأمن.
العولمة وقيمة الحرية :
في سعي العولمة إلى توحيد نمط عيش الناس على الطريقة الأمريكية، من غير شك تضييع لحق الاختلاف المكفول مبدئيا لكل الشعوب. أو لنقل تعصب لنمط ثقافي تحركه تنينات اقتصادية رهيبة، أو بالأحرى فرض لدرجة كبيرة من التماهي على القوميات، بما هي خصوصيات محلية مختلفة. وهكذا يكون القول بأن لا حرية مع العولمة، قولا في قلب الصواب، من عبقري المغرب الدكتور " المهدي المنجرة " رحمه الله.9
في سجن العولمة ما يغلب هو الفرض الإجبار، وما ينذر هو فرص الاختيار الحر. فهي فرض الشمال والغرب لنمط عيشه وقيمه على مجتمعات العالم الثالث أولا ثم هي دعم للأنظمة المستبدة بها وتوفير الحماية لها ضد شعوبها من أجل قهر هذه الشعوب وخداعها ثانيا. ثم هي ثالثا وكما سبقت الإشارة حظر لوضع الاختلاف الثقافي والقيمي وتجويز لحرية التملك إلا تملك الخصوصية المميزة أو الهوية المختلفة.10
إن وضع العالم في ظل العولمة، يتجه سريعا نحو تقويض الإرادة الحرة للشعوب في تقرير مصيرها كحق للجميع، إذ أن الاتجاه العام في مرحلة النظام العالمي الجديد الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، هو لبرلة سياسة القوة، وخوصصة العلاقات الدولية والإمساك بزمامها من قبل هذه القوة الوحيدة النموذج الأمثل للهيمنة.11 وهنا تبرز قيمة الاختيار الحر الذي سبق أن أشرنا إلى انتفائه في مرحلة العولمة الراهنة، إذ هو الأساس في كل انعتاق من رقابة هذا الاستعمار الجديد.
تعتبر "أمارتيا سن" أن التغلب على الإحساس بالحرمان، والعوز، والظلم لدى بعض الشعوب المستضعفة، سبيله الوحيد، هو تعزيز الاقتصاد، والركائز السياسية، والمجتمع المدني، بطريقة تجعل الحياة أكثر إقناعا وإرضاء للجميع. وإذا أراد مجتمع تحقيق ذلك فإنه عليه أن يحرز أولا شيئا ثمينا هو الحرية، لأنها أساس هذا الصرح كله فهي ضرورة جوهرية وليس خيارا أخلاقيا فحسب. بل إنها أيضا وسيلة وغاية التطور والتقدم. فالحرية وفق هذا الرأي هي الوسيلة وهي الغاية في الآن نفسه بمعنى أنها الشرط الأساسي للاضطلاع بالإصلاح المنشود في عالمنا العربي كما أن تحصيل درجات عالية من هذه الحرية خاصة السياسية، هو غاية كل إصلاح.
فهي تؤكد أيضا على أن الأفراد والشعوب كلما بلغوا مستويات عالية من التمتع بهذه الحريات السياسية، إلا وأعانهم ذلك على تطوير أنفسهم، إصلاح مجتمعاتهم12،. فبناء على هذه المقاربة المرتكزة أساسا على دور الاختيار الحر في التقدم والتطور، ستبني العولمة إستراتيجيتها في الحرمان والقهر بصفة معاكسة بهدف منع محاولات الإصلاح، و طلبا لدوام الهيمنة الأمريكية والإذلال الأمريكي للعالم الثالث. وكذلك الأمر أيضا بالنسبة لدعامة الديمقراطية.
العولمة وأزمة الديمقراطية :
ارتباطا بحديثنا عن دعامات التقدم والازدهار، في مختلف المجتمعات، من خلال نموذج الحرية، يأتي الحديث عن الديمقراطية كدعامة أساسية أخرى للبناء والتشييد الحضاري. وقد استلزم الحديث عن الأولى، الحديث عن الثانية. فالديموقراطية أيضا مفهوم أكثر التصاقا وتأثرا بنشاطات العولمة، فإذا كان المتعارف عليه هو دلالتها على حكم الشعب لنفسه بنفسه، وعلى التمتع بقدر كبير من الحرية، وانتشار العدل، والمساواة. فإن واقعها في عرف العولمة لا شيء من ذلك. لأن هيمنة النظام العالمي الجديد على سلطة التدخل في العالم هي من تفرض هذا الوضع، الذي تنتفي فيه عند دول العالم أي سيادة على نفسها، لأن العولمة تستهدف مركزة السلط داخل هذه المجتمعات، في يد القلة المستبدة، فتكون هذه القلة تابعة لها وفق منطق نفعي، أي مقابل توفير الحماية اللازمة لها، ضد شعوبها. وتعمل على تعميق الفوارق السوسيواقتصادية بين الطبقتين في هذه الشعوب13.
ولما كان الأمر كذلك الأمر كذلك، وكانت الديموقراطية على هذا قدر كبير من الارتباط بالعولمة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المستوى- كما يرى الدكتور المهدي المنجرة رحمه الله- هو سؤال عن الحيز المتبقي للديمقراطية في زمن العولمة الذي جمع كل ما يناقضها وقد تأسست هذه على كل على يعارضها.
ويعتبر المنجرة رحمه الله، أن عولمة هذا التساؤل هو السبيل نحو مواجهة العولمة. والوعي بواقعها.ذلك أن ما نسميه الآن بالأنظمة الديمقراطية، هو جسد متسمم لم يبق منه إلا الاسم، "حكم الشعب لنفسه بنفسه عن طريق الانتخاب". أما مشاريع العولمة في حاضرنا فهي شيء آخر مختلف، إنها تستهدف الحد من طابع المحلية في سعيها إلى نشر النموذج الأمريكي في مستوى الثقافة والتأسيس لمزيج ثقافي هجين، لا تفك شفراته إلا من منظور اقتصادي، وسياسي صرف، حيث البقاء للأقوى.
وما يعزز هذا الواقع، هو خاصية الإنسان الحديث، وبنيته النفسية والذهنية. كما تقول بذلك "حنا أرندت" عندما تعتبر أن الناس في هذا العصر اعتادوا على العيش والفعل وفقا لما يملى عليهم، وحتى ما يفكرون في فعله14. وهكذا يتضح أن عهد العولمة تتظافر فيه من الأسباب ما يكفي لتراجع مبدأ الديمقراطية وحلول التوليتارية والاستبداد 15، قهرا للإنسان في العالم الثالث. ويمكن القول أن معظم المشاكل والثورات التي يعيشها العالم هي آثار البشاعة القسرية التي دبرتها أمريكا العالم المتخلف. وسعيها وراء نشر بؤر الصراعات والحروب حول العالم، وتهديد أمنه.
الأمن العالمي في زمن العولمة:
لقد أعيد توزيع الثقل السياسي في الساحة الدولية، في فترة ما بعد الثنائية القطبية، وحسمت شرعية التدخل في العالم لصالح أمريكا. فنصبت هذه الأخيرة نفسها كمركز لأمن العالم وكمسؤول عنه. وقد امتلكت جهاز القرار السياسي في الساحة العالمية، وتمكنت من كل ذلك بفضل هيمنتها الاقتصادية، وتقريب المسافات بين أقطر العالم عن طريق الإعلام المعولم ، والتأسيس لدرجة عالية من الاتصال المعقد بين مجتمعات العالم.
وبوصفها "دركي العالم"، تحكمت الولايات المتحدة الأمريكية في زمام الأمن العالمي، وسخرته بما يحفظ تفوقها في كل المجالات. ذلك أنها نوعت من أساليبها في تهديد أمن غيرها وساقت لذلك أجندات خفية من الصناعات الخطيرة (المخدرات بجميع أنواعها) بالإضافة إلى تبييض الأموال، والجريمة العابرة للحدود، وتمويل الجماعات الإيديودينية المتطرفة. فكان ذلك كله كفيلا بتحول مفهوم الأمن في زمن العولمة، وتبدل بنيته، فإذا كان الأمن كما عهدنا في ما مضى : هو حماية الدولة من المخاطر التي قد تواجهها من الخارج. مواجهة عسكرية بالأساس، فإن الأمن في مرحلة العولمة أصبح محل تداخل بين ما هو وطني وما هو عالمي، كما أن الأمن القومي للدول أصبح على ارتباط كبير بالأمن العالمي وبما يجري في دول أخرى، وبكل ما يستجد فيها.وبعبارة أخرى نقول إن الأخطار المحذقة بأمن الدول صارت تتسم بصفة التنوع والتعقيد، والارتباط أكثر بالسياسة العالمية المغرضة للغرب، وسعيه إلى تعميق أزمة الجنوب.
خلاصة : ختاما يمكن أن نقرر في اطمئنان، أننا بإزاء عهد جديد يحاول أن يصوغ مفاهيم الوجود، وواقع الكيان العالمي صياغة جديدة، تلك الصياغة الموجهة لتمديد عمر استبداد الغرب بالعالم الثالث، وتقوي هذه وتغرس بذورها بين حكام الجنوب وشعوبهم، وتسرع الموت البطيء الذي يسري في عروق الخصوصية القومية لتنال ولاء العالم لأمريكا. وتحاول إذابة الخصوصيات الثقافية وصهرها في بوثقة مزيج أمريكي هجين. وبالتالي تضييع آخر أوراق الهوية المحلية. والإستدراج القسري للدول المتخلفة اقتصاديا إلى حلبة الأقوياء( اقتصاد السوق) بغية إرهاقها وابتلاع اقتصادياتها المحلية الضعيفة.
هوامش البحث:
1 – محمد عمارة، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، ط. الأولى1999، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، ص:12-13.
2- محمد الغربي، تحديات العولمة وآثارها على العالم العربي، مقال ضمن مجلة: اقتصاديات شمال إفريقيا، ع: 6، ص 27.
3 – نفسه : ص26.
4 – دينيس سميث، الأجندة الخفية للعولمة، تر. علي أمين علي، المركز القومي للترجمة، ط 1 القاهرة 2011، ص 58.
5 – جان نيدرفين بيترس، العولمة والثقافة المزيج الكوني، تر. خالد كسروى، المركز القومي للترجمة القاهرة، ص. 67.
6 – سعيد شبار، الثقافة والعولمة : قراءة في جدل الكوني والمحلي أو ظاهرة التثاقف، مقال بمجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بني ملال. ص
7 – نفسه، ص:
8 - محمد عمارة، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، ط. الأولى1999، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، ص:24-25.
9 – المهدي المنجرة، عولمة العولمة: من أجل التنوع الحضاري، ط2. 2011، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، ص. 5.
10 – نفسه، ص. 5-7.
11 – نفسه، ص. 6.
12 – دينيس سميث، الأجندة الخفية للعولمة، كرجع سابق، ص:57.
13 – المهدي المنجرة، عولمة العولمة، مرجع سابق، ص: 5-6.
14 - دينيس سميث، الأجندة الخفية للعولمة، كرجع سابق، ص:58.
15 - المهدي المنجرة، عولمة العولمة، مرجع سابق، ص:19.