في ظلّ هذا الصراع الذي يشهده العالم العربي منذ سنوات، واتّساع حلقة الفوضى لتطال جميع أبعاد حياة "الإنسان العربي"، السياسية منها والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، عمدنا في هذا البحث، بإلقاء الضوء على أحد أهمّ المفاهيم التي يتم الانقضاض عليها من هوامش الفوضى المعرفية_الثقافية، والتي تعمل على طمس ونزع هوية "الإنسان العربي"، وإلقائه في عوالم من الاغتراب الفوضوي، ألا وهو مفهوم (الأيديولوجيا)، المفهوم الذي لا يزال يتم شيطنته المعرفية والسياسية، من عالمٍ أو من غير ذي علم، إما على "المستوى المعرفي" وذلك من خلال طرحه كـ"سلطة للقوة" تنفي أو تناهض "سلطة المعرفة"، وإما على "المستوى السياسي" تحت ذريعة تفضيله الانقياد على الوعي، والطاعة على النقاش، والولاء على الكفاءة، دون الوقوف عند الحقل الدلالي الموضوعي الذي يثيره هذا "المصطلح" المثقل بالدلالات، ورصد ما طرأ عليه من متغيرات أفقدته خصوصيته المعرفية والتاريخية، وعلاقته بكل من مفهومي "الهويّة" و "الاغتراب"..
(الأيديولوجيا)
في العودة إلى التاريخ، نجد بأن كلمة (أيديولوجيا) ولدت عام 1796م، على قلم الفيلسوف "دستوت دوتراسي" رائد المذهب الموضوعي، وريث مذهب "كوندياك" الحسي، وجاءت للدلالة على تحليل الأفكار مأخوذة كأغراض، بشكل مستقل عن كل مفهوم ميتافيزيقي، إلا أن "ماركس" 1845_1846م، إذ كان يكتب مع "إنجلز" و "موزس هيس" (الأيديولوجية الألمانية)، هو الذي أعطى للكلمة المعنى الذي حفظناه لها إلى الآن، معنى صورة مقلوبة لحال الناس الواقعية، والتي يفسّر قلبها بمسارات تاريخية اجتماعية، وطرحها كنوع من التورّم العقلي للمجتمعات الإنسانية..
مضافاً إليها خاصّية (الذرائعية) التي أضفاها بعض من علماء النفس، الذين رأوا بأن معيار صحة الأفكار تكمن في قيمة عواقبها العلمية، أي أنهم رأوا بأن (العقلنة) هي الأسلوب الذي يحاول أن يعطي تفسيراً متلاحماً من حيث المنطق، أو مقبولاً من حيث الأخلاق، لموقف أو عمل أو فكرة أو شعور، تكون دوافعه الحقيقية غير ملحوظة، وهي إحالة مباشرة لما كان قد أسماه "فرويد" (مبدأ اللذة)، الذي يهيب بنا إلى تعديل رؤيتنا للعالم بدلاً من تعديل رغباتنا..
وباختصار فإن كلتي الرؤيتان تعبّران عن مفهوم (الأيديولوجيا)، بوصفه إما كانعكاس لمصالح خاصة تتنكّر بمصالح عامة، وإما كانعكاس لمرآة الأسطورة "نرنسيس" على وجه الماء، كصورة مثالية نرجسية منزّهة، أي أنّ كلتيهما تعبّران عن حلم يقظة!!..
على ضوء ما سبق، وإيماناً منا بتكامل أبعاد "الهوية العربية"، التي يتنصّل منها البعض تحت ذريعة التنصّل من "الأيديولوجيا، لا بدّ لنا بداية من الإيضاح والتفريق بين بعض المفاهيم، التي أصابها اللغط نتيجة تراكم العديد من العوامل التاريخية، وذلك من خلال تبنينا لمنظور جدلي، يميز ويفرق بين ما هو "فكري وعلمي" وما هو "إيديولوجي"، ويحدد في الآن ذاته مجال العلاقة بينما، تكاملاً وتطابقاً مع "هوية الإنسان العربي"..
(مفهوم الهويّة)
يعتبر مفهوم الهويّة مفهوم فلسفي بالأصالة، إذ عالجه كلّ من الفلاسفة "المثاليون" و"الوجوديون" على حدّ سواء، فهو يمثّل عند المثاليين القانون الجدلي، الذي يتألف من الموضوع "الأنا"، نقيض الموضوع "اللا أنا"، مركب الموضوع "الأنا المطلق"، ويمثّل عند الواقعيين تكرار لفظي للضمير المنفصل "هو"، مثل معظم المصطلحات الفلسفية ومشكلاتهم، بمعنى أنها ليست أكثر من عبارات أدبية مصوغة على نحو عقلي، لا مضمون لها ولا تشير إلى شيء..
نسير نحن مع نتبنى مفهوم"الهوية" الخاص بالإنسان والمجتمع، الفرد والجماعة، وهو بذلك موضوع إنساني خالص، فالإنسان هو الذي ينقسم على نفسه، وهو الذي يشعر بالمفارقة أو التعالي أو القسمة، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين الواقع والمثالي، وبين الحاضر والماضي، وبين الماضي والمستقبل، وهو الذي تنقلب فيه "الهوية" إلى "اغتراب"، وعليه نرى بأن "الهوية" قد توجد وقد لا توجد، إن وجدت فـ"الوجود الذاتي"، وإن غابت فـ"الاغتراب"..
من جانب مخالف لنا، يعتبر بعض "الوجوديين" أن "الهوية" هي "البدن"، لرفضهم ثنائية (النفس_البدن)، فنرى على سبيل المثال رفض "سارتر" لمقولة "ديكارت" أنا أفكر cogito، بتفضيله لمقولة أنا موجود Ego، حيث يرى بأنّ (الوجود) هو البدن قبل أن يتخلّق فيه الوعي، إلا أننا نرى بأنّ هذا المفهوم لـ (الوجود) يعبّر عن "الهوية الحسية"، وهي الهوية البيولوجية المباشرة التي يشترك فيها جميع البشر، والتي لا تحتاج إلى "وعي ذاتي" باعتبارها سابقة عليه..
فليست "الهوية" إذاً، كما نرى بهذا المعنى، موضوعاً ثابتاً أو حقيقة واقعة، فعلى الرغم من أنها (موضوع ميتافيزيقي) فإنها تمثل من جانب آخر (تجربة شعورية)، وبذلك نرى بأنها إمكانية حركية تتفاعل مع مفهوم "الحريّة"، فـ"الهوية" إمكانية قائمة على "الحريّة"، لأنها إحساس بـ"الذات"، والذات حرّة، في الآن الذي تقوم فيه "الحرية" أيضاً على "الهوية" لأنها بالتالي تعبير عنها..
(مفهوم الاغتراب)
قد تتحول "الهوية" إلى "اغتراب" عندما تنقسم الذات على نفسها، وتتحول مما ينبغي أن يكون إلى ما هو كائن، من إمكانيّة "الحرية الداخلية" إلى ضرورة الخضوع لـ"الظروف الخارجية"، بحيث ينقسم الإنسان إلى قسمين: (هوية باقية) و (غيريّة تجذبها)، وقد يؤدي فقدان "الهوية" أي "الاغتراب"، إلى ردّي فعل متضادين، (العزلة أو الانطواء) أو (الانتشار والعنف)، ولما كانت "الهويّة" أصيلة في الوجود الإنساني، فإنها تتحقق بأشكال عديدة، سواء أكانت (منطوية) أو (منتشرة)، إلى (الداخل) أو (الخارج)، وكلاهما خارج الوجود الإنساني لا فيه، بمعنى كلاهما يمثلان انحرافاً عنه لا تحقيق له..
على ضوء ما سبق، نجد اتّساقاً وتطابقاً بين كل من مفهومي "الأيديولوجيا" و"الهوية" من جهة، وبين مفهومي "الأيديولوجيا" و"الاغتراب" من جهة أخرى، فمتى تكون "الأيديولوجيا" تعبيراً حقيقا مطابقاً لمفهوم "الهوية"، ومتى تكون تعبيراً زائفاً مفارقاً عنها، بمعنى مطابقة لمفهوم "الاغتراب" ؟!
منذ فجر النهضة العربية في القرنين الماضيين، ونتيجة لتراكم العديد من الظروف والعوامل التاريخية، كان قد نشأ مفهوم (صراع الهويات) والذي يعبّر بمعنى آخر عن (صراع الأيديولوجيات)، والذي قام بين ثلاثة تيارات لا تزال تتصدّر إلى اليوم المشهد الاجتماعي_السياسي العربي، وهي (التيار الإصلاحي) و(التيار الليبرالي) و(التيار العلمي_العلماني)، وما زالت هذه التيارات الثلاث إلى اليوم تتقارب وتتباعد فيما بينها، وتختلف في نقطة البداية، فنجد أولوية (التيار الإصلاحي) لـ "الدين"، وأولوية (التيار الليبرالي) لـ"الدولة"، وأولوية (التيار العلمي_العلماني) لـ "العلم"، إلا أنها ورغم اختلافها في طرح أولوياتها، فهي تتقارب في كبوة كل تيار، فنحن نجد اليوم، "الليبرالية السلفية" و"العلمانية السلفية" و"الإصلاحية السلفية"، وهو ما يعبّر بشكل جلي عن "الهوية المفقودة" للإنسان العربي، التي يتجاذبها نوعين من "الاغتراب" أولهما "ديني" والثاني "سياسي"!
(الهوية العربية المفقودة) و "الأيديولوجيا الغائبة"
حتى نستطيع الوقوف عند مجمل أبعاد "الهوية العربية"، وبالتالي رسم ملامح الحقل الذي يتحرّك من خلاله مفهوم "الحريّة" باعتباره تعبيراً عنها كما أشرنا آنفاً، لا بدّ لنا بداية من التفريق بين مفهومين في غاية الأهمية، وهما (المنظومة الفكرية) و(المنظومة الأيديولوجيّة)، باعتبارهما منظومتين لطالما تم الخلط واللغط فيهما، الأمر الذي نتج عنه تشظّي مجمل أبعاد "الهوية العربية" فيما بينهما..
(المنظومة الفكرية): هي مجموعة النواتج الفكرية (الثقافية_الروحية_الاقتصادية_الاجتماعية)، التي تم فرزها أو استفاد منها أي مجتمع بشري، في تشكل وعيه الفردي والجمعي..
أما (المنظومة الإيديولوجية): فهي الفعل التطبيقي لمجموع هذه الأفكار، والعلاقات الناتجة عنها، ضمن المجال المعرفي_الثقافي لمجتمع يمتلك هويّته الخاصة، يتفاعل ويتشارك من خلالها، مع باقي المجتمعات الإنسانية، في مسيرة الحضارة الإنسانية..
إن عدم التفريق بين هاتين المنظومتين، قاد إلى تشكيل العديد من "الأيديولوجيات الزائفة" التي لا تمتلك أي مفهوم حقيقي عن "الهويّة"، والتي أبقت على التيارات التي ذكرناها آنفاً، تتجاذب "الإنسان العربي" بين هوة اغتراب، وتعالي عن الوجود..
يظهر "الاغتراب الديني" في "علم العقائد"، والذي عبّر عنه "التيار الإصلاحي الأصولي"، إذ يقوم علم العقائد على قسمة العالم لقسمين: الأعلى والأدنى، الأبدي والزمني، الفاني والخالد، الأول تستريح فيه النفس والثاني تشقى فيه، الأول بيده كل شيء يرسل العلم ويوجه الفعل، والثاني يتلقى العلم ويحقق الفعل، وهنا تتحقق الهوية خارج العالم، في عالم مفارق يتجاوز هذا العالم..
وإذا اتضح "الاغتراب الديني" في "علم العقائد" على نحو تصوري ذهني، فإنه يتضح أيضاً في "التصوف" على نحو عاطفي وجداني، فقد عرَّف "التصوّف" نفسه بأنه تخلّي عن الأوصاف الإنسانية، والتحلّي بالصفات الإلهية، حيث يستعملون ثلاثة ألفاظ متشابهة الإيقاع، التحلّي والتخلّي والتجلّي، يتخلى أولاً عن الصفات الإنسانية، ثم يتحلى بالصفات الإلهية، ثم يتجلّى الله له، وهنا أيضاً تتحقق "الهوية" خارج العالم، بعد أن يفرغ الصوفي من هويته ويتخلّى عن عالمه!..
ويظهر "الاغتراب السياسي" عند دعاة "الماركسية" العرب، الذين رأوا بأنّ (خلاف الملكية) هو أساس "الاغتراب"، ولا بدّ للثورة والعنف للخروج منه، لاسترداد وحدة الوجود الإنساني، إلا أن ما لم تدركه "الماركسية العربية" والتي ظلّت إلى اليوم على اعتقادها التقليدي في ضغط المجتمع الإنساني بطبقة واحدة، هو عمق وأصالة "الهوية الأيديولوجية" السابقة لـ "الانتساب الطبقي"، فـ"الهوية" كما أشرنا لها آنفاً هي أصالة الوجود، وتنعدم بانعدامه، ويكون بذلك طرح "الماركسية العربية" عبارة عن "إيديولوجيّة زائفة"، ممثلة نوعاً آخراً من أنواع "الاغتراب" يطغى على الوجود ذاته!..
وفي الآن الذي لا نرى فيه مجالاً للشك، بأنه لا غنى عن "التفكير العلمي" في مجال المعرفة الطبيعية أو الإنسانية على حد سواء، إلا أننا لا نتصدّى لـ"التيار العلمي_العلماني" كـ "علم"، حيث أن "التفكير العلمي" بتكونه كـ"علم" يكشف المعلومات السابقة على أنها خاطئة لا على أنها "إيديولوجية"، إنما نتصدى لـ "التأمل الفلسفي" الخاص به، فهو ما زال يطرح رؤى خارجية، لأنها تستند إلى أساس ديني غيبي أسطوري، إذ لا يزال العلم وافداً من الغرب لا نابعاً من الذات، ويتم القياس عليه كما كان الحال في علم أصول الفقه في القياس الشرعي!..
ونحن إذ نعزو أنفسنا لما نسميه "التيار الإصلاحي التجديدي"، والذي يميل بالطبع لطرح أولوية "المشكلة الدينية" باعتبارها شكلت نظاماً معرفياً واحداً، حكم البنية المعرفية "للعقل العربي" على مدى قرنين من الزمن، ما أفضى إلى بروز ثلاثة تيارات اجتماعية_سياسية تتنازع فيما بينها على مفهوم "هويّة الإنسان العربي"، كان لا بدّ لنا من الوقوف نهاية عند مفهوم آخر، ألا وهو جدلية الثابت والمتحول في علاقة الإنسان بـ"النص"، فبدلاً من أن يكون "النص" في صالح الإنسان، يصبح الإنسان في صالح "النص"، فتصبح "الهوية" نصيّة، ولما كان "النص" سلطة، تصبح كل "هوية" سلطوية باسم "نصّها"، لتتحول بعد ذلك إلى "هوية" صورية شكلية، إذا ما تقدم الشكل على المضمون، والعبادات على المعاملات، والمظاهر على الجواهر، وهي المشكلة التي رافقت "العقل العربي" في مختلف توجهاته، والتي أشار لها المفكر الراحل "محمد عابد الجابري" في كتابه "بنية العقل العربي" مستعرضاً أساليب النحويين في عصر التدوين، عندما قاموا بإقفال "النظام المعرفي" للغة العربية، ما نتج عنه استبداد "النص الديني الإسلامي"، والتي أشار لها أيضاً، المفكر الدكتور "محمد شحرور" طارحاً مجموعة الأسباب التي أعاقت "العقل العربي" عن إنتاج المعرفة، منها مشكلة "الترادف" و "القياس" و"الاتصال"، والتي نراها كفيلة لبقاء "العقل العربي" تحت هيمنة واستبداد أي نص، سواء أكان دينياً أم سياسياً..
وعلى ضوء ما سبق، نخلص إلى مجموعة الأبعاد التي تشكّل وتنتج "الهوية القومية العربية" لـ"الإنسان العربي"، وذلك باعتبارها "هوية" (فردية_اجتماعية_إنسانية)، "فردية" تستند إلى جوهر "اللغة العربية" باعتبارها أداة ونظام معرفي_فلسفي تحتوي الفكر وتنتج التفكير، و"اجتماعية" تستند إلى مجموعة الخصائص والسمات الثقافية_التاريخية الخاصّة بـ"الأمّة العربية" التي ترسم الحدود بين الذات والآخر، و"إنسانية" تستند إلى كينونة لا ينبغي النظر إليها باعتبارها مسألة ثابتة، بل باعتبارها فى حالة دائمة من التطور والتكون أو التحول، سواء ذلك في علاقتها بذاتها أو بالآخر..
(المراجع):
1_ الأيديولوجيات في العالم الحاضر، مجموعة من الباحثين، ترجمة: صلاح الدين برمدا، دمشق، مركز دراسات الحضارة المعاصرة، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1983م
2_ الهوية، حسن حنفي، ط1، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2012م
3_نقد العقل العربي (2)، بنية العقل العربي، محمد عابد الجابري، ط8، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007م
4_ بحث بعنوان: الديمقراطية بين الحرية وحدود الله، خالد العبود، بيروت، مؤتمر الوحدة الإسلامية، 1999م
5_ مقال بعنوان: إشكالية العقل العربي، محمد شحرور، دمشق، الموقع الالكتروني للدكتور محمد شحرور، 2015