غدا مفهوم التربية على التنمية المستدامة عنوانا حضاريا يفرض نفسه بقوة في مختلف المؤتمرات العلمية والتربوية الدولية التي ما انفكت تدعو بإلحاح جميع البلدان في العالم إلى توظيف التربية والتعليم كأداة لبناء مستقبل أكثر أمنا واستدامة لزمن تتناقص فيه الموارد وتهدر فيه الإمكانيات. فالتربية كما يُنظر إليها اليوم هي الوسيلة الأنجع في تحقيق التنمية المستدامة وإنجاز التقدم الإنساني والاقتصادي في مختلف وجوه الحياة والوجود والعمل. وقد أجمعت التجارب التنموية في العالم بمختلف أصقاعه على ضرورة توظيف الأنساق التربوية من أجل إحداث التغيير المطلوب في الاتجاهات والعادات والقيم للنهوض بالعملية التنموية الشاملة، وذلك لأن التربية معنية أيضا بتمكين الأفراد من التعرف على المشكلات التنموية والعمل على إيجاد الحلول المناسبة لها، كما أنها ضرورية أيضا لزيادة الوعي بالقضايا البيئية والأخلاقية، فضلا عن القيم والمواقف والمهارات والسلوكات التي تتفق مع مسارات التنمية المستدامة، وتضمن المشاركة الفعالة للجمهور في عملية صنع القرارات الاجتماعية المتعلقة بالتنمية.
فالتعليم من أجل التنمية المستدامة يعاني اليوم، كما هو الحال في الماضي القريب، من غموض في النظرية والمفاهيم كما هو الحال في مجال التطبيقات العملية والميدانية ، وهو في صورته المتجددة يهدف إلى بناء المستقبل والإعداد للأجيال القادمة، وضمن هذا المنظور يجب على الأنظمة التربوية في بلداننا أن تعيد النظر في تجربة هذا التعليم وممارساته ومفاهيمه ولاسيما في مجال القيم والممارسات اليومية التي تأخذ طابعا تنمويا مثل : (الاستهلاك، والتلوث، والهدر، والتوفير، والمحافظة على البيئة إلخ.) ، وهذا الأمر لن يحدث دون مواجهة صعبة تتخللها أنساق من والتحديات والرهانات .
فالرهان التربوي على المستقبل يتطلب اتخاذ قرارات حاسمة قادة على تثوير العقليات وتغيير الذهنيات التقليدية القديمة واستبدالها برؤية جديدة وعقليات أخرى متجددة تتناسب مع متطلبات المرحلة التاريخية الجديدة ضمن مطالبها المتجددة ، ومثل هذه القرارات المصيرية قد تبدو لنا غير مرضية أو مقبولة اليوم، لأنها تتعارض مع قيمنا وعاداتنا، ومع ذلك فمثل هذه القرارات ستكون مناسبة وضرورية ومرغوبة بالنسبة للأجيال المقبلة. فالتعليم من أجل التنمية المستدامة يهدف في واقع الأمر إلى تعزيز القيم الأخلاقية التنموية وبناء نسق من العادات والتصورات والمفاهيم الجديدة عن طريق التعليم في مختلف المستويات والاتجاهات ليكون لها تأثير كبير في نمط الحياة والسلوك ولتكون قادرة على المساركة في بناء مستقبل يتميز بالاستمرارية والديمومة.
فالغاية من التربية على التنمية الدائمة والمستدامة تهدف إلى تغيير الاتجاهات وأنماط التفكير والسلوك الاجتماعي السائد في المجتمع، وهي تشكل نمطا من التربية الجديدة التي تمكن التلاميذ والطلاب من الوصول إلى المعرفة الحقيقية والخبرات التي تساعدهم في تفهم الإشكالية التنموية في أبعادها الشمولية والكلية.
وإذا كنا في حقيقة الأمر نسعى إلى إحداث التغيير في القيم لدى المتعلمين فإنه من الضرورة بمكان إحداث ما يماثل هذا التغيير لدى المعلمين. فالمعلمين الذين يعكسون التوجهات القيمية التقليدية لمجتمعاتهم، لن يستطيعوا التكيف مع متطلبات التغيير الجديد في مجال القيم الباعثة على التغيير باتجاه التنمية المستدامة، ومع متطلبات السلوكيات الجديدة نحو البيئة ما لم يحققوا التغير في أنفسهم وفي توجاتهخم التقليدية وما لم يغيروا في عقلياتهم ، إذ لا يمكن لهم تغيير العالم ما لم يغيروا في أنفسهم بداية . وتكمن الصعوبة في إشكالية الدور التربوي المتناقض للمعلمين حراس التقاليد الذين لا يمكنهم أبدا أن يقوموا بحضّ الطلاب وإقناعهم على رفض السلوكيات السلبية إزاء التنمية في الوقت الذي يمارسون فيه أنفسهم القيم السوكية نفسها، وذلك على مبدأ قول الشاعر لا تنه عن خلق وتأي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم. فالمعلم مطالب دائما أن يطابق بين السلوك والعمل وبين النظرية والتطبيق وألا يسمح للتناقض بين هذين الجانبين أن يؤثر سلبا في ممارساته التربوية.
ومن الضرورة بمكان تعزيز أهداف التعليم من أجل التنمية المستدامة عبر فعالية المساءلة والإحساس بالمسؤولية، ومثل هذه المساءلة يجب أن تأخذ في الاعتبار الركائز الثلاث للتنمية المستدامة كي تكون فعالة كاملة وذات مصداقية ضمن مساراتها الثلاثة: المسؤولية الاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الإحساس بالمسؤولية يجب أن يأخذ طابعا عمليا، وألا يبقى سجين الوعي الخالص. ومن هذا المنطلق فإن المسؤولية الاجتماعية تفرض ضرورتها وحضورها في هذا المجال، وذلك لأن المسؤولية الفردية لها حدود واضحة، ولا يمكن الاعتماد عليها وحدها في عملية تحقيق الوعي المسؤول بضرورة تحقيق التربية المستدامة.
وهناك العديد من التعريفات لما ينبغي أن يكون التعليم من أجل التنمية المستدامة. التي يمكن تعريفها بأنها عملية دائمة للتعلم تسهم في تكوين المواطنين واكسابهم المعارف، والمهارات العملية، وطرق العيش المشترك لتمكنهم من الانخراط في الأعمال الفردية والجماعية على أساس مبادئ التكافل والتضامن التي من شأنها تعزيز التناغم والتوازن بين المجتمع والفرد والبيئة . وينشد هذا التعليم تحقيق مجتمعات مستدامة إيكولوجيا وعادلة في مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وذلك كله من أجل الأجيال القادمة.
لماذا التربية على التنمية المستدامة في المدرسة:
ينبغي علينا أن نتساءل في البداية حول مشروعية إدخال التربية على التنمية المستدامة داخل المدارس والبرامج التعلمية: هل يحظى هذا النمط من التعليم بمشروعيته كمادة للتعليم في المدرسة؟ أليس لدينا لدينا ما يكفي ويزيد من المواد والمقررات في المدرسة؟ وهنا يجب علينا أن ندرك بأن ادماج التعليم المتصل بالبيئة (وعلى نطاق أوسع التنمية المستدامة) في المدرسة يستجيب إلى حاجات أساسية ملحة جدا، وأهمها يتمثل في الوضعية البيئية المأساوية التي نعيشها اليوم والتي تشكل حافزا حيويا للاهتمام بالتربية البيئية وجعلها واحدة من القضايا الاستراتيجية المركزية في مجتمعاتنا المعاصرة.
ومن الطبيعي جدا أن يكون موضوع التربية على التنمية مهما في المدرسة لأنها تشكل العمق الوجودي لمجتمعاتنا المعاصرة . وعلينا أن نلاحظ في هذا السياق أن التعليم يأخذ طابعا تقليديا جدا في مدارسنا، ويتجلى ذلك في وجود متعاظم لحدود وحواجز بين التخصصات العلمية، وفي حضور انفصام كبير ما بين المدرسة والواقع، وما بين النظرية والتطبيق. وهنا يأتي دول التعليم على البيئة والتنمية المستدامة كأداة لتغيير المدرسة وكسر الحواجز القائمة بين الاختصاصات من جهة وبين المدرسة والواقع الحي من جهة أخرى، وهذا يعني أن التعليم على التربية المستدامة يشكل وسيلة تغيير جوهرية في عالم المدرسة من الداخل والخارج، كما يشكل في الوقت نفسه عامل تغيير في منظورنا للمدرسة بوصفها مكانا عاجيا ينفصل عن الواقع ويعاني من شجونه وتصدعاته الداخلية. ويضاف إلى ذلك أن ضعف المعرفة والوعي بقضايا البيئة والحياة يجعل الناس غرباء عن الطبيعة لأنهم يعيشون في عالم تحكمه التكنولوجيا التي يعرفونها قليلا ويسيئون استخدامها كثيرا.
وفي هذا السياق يجب علينا التأكيد على أهمية الأخذ بمنهاج التربية على التنمية المستدامة ودمجها في العملية التربوية، كما يترتب علينا في هذا السياق أن نحدد ما الذي يجب معرفته في كل مادة ندخلها في المنهاج المدرسي؟ وما الذي يجب القيام به؟ وكيف يجب علينا أن نفكر؟ وأخيرا ما الذي يجب أن نقاومه ونرفضه ؟ وما الأمور التي يجب أن نلح عليها ونجعلها ضمن بؤرة اهتمامنا في هذه التربية؟
وهناك اليوم عدة نماذج تربوية لإدماج التربية على التنمية في مجال المؤسسات التعليمية، فهناك النموذج الموسوعي le paradigme encyclopédiste الذي يعتمد على مصادر المعلومات في عملية التربية على التنمية، وقد اصبح هذا النموذج التقليدية مرفوضا إلى حد كبير لأن أنظمة المعلومات المدرسية ليست جامدة بل تتغير في مجرى الزمن ومن المعروف أن التعليم الموسوعي يتصف بجموده واستقراره وعدم قدرته على التجاوب مع عمليات التجدد المستمر في المعرفة والحياة.
ويمكن في هذا السياق الحديث عن النموذج السلوكي (paradigm béhavioriste) وهو المنهج الذي يؤكد على أهمية إحداث تغيرات في السلوك التربوي للطفل والمتعلمين، حيث يمنح هذا النموذج الأطفال والمتعلمين حرية التعبير عن مشاعرهم ومعارفهم سلوكيا، ومهما يكن فإن هذه المعارف العملية ضرورية من أجل المحافظة على البيئة وحمايتها وتطويرها. وهذا المنهج كما يتضح يركز على الجانب السلوكي ولا يأخذ بعين الاعتبار الرؤية الكلية الشمولية لقضية البيئة في مستواها الكوني.
ويمكن استحضار النموذج النظمي (Le paradigme systémique) الذي يستدمج طرقا جديدة في التفكير وفق الرؤية النظمية في داخل المدرسة وفي ذهنية الطالب، حيث يكون العالم نظاما يتكون من عدة أجزاء متفاعلة، وهنا يجب على الطفل أن يأخذ مكانه ضمن هذا النظام الكوني، ويمكن أن يساهم فيه ويؤثر في معطياته سلبا أو إيجابا. وهذا النموذج يؤكد كما هو واضح على انه يجب على كل فرد في المجتمع أن يدرك علاقته التضامنية التفاعلية مع كون أشمل، حيث يمارس الكل تأثيره في الكل ولا أحد أبدا يمكن أن يكون عاجزا أبدا عن التأثير في هذا العالم الذي يعيش فيه.
أما النموذج النقدي، فيركز كما يتضح من اسمه على توليد النزعة النقدية في التفكير عند الطلاب والتلاميذ في قضايا التنمية المستدامة ومفاهيمها، حيث يتوجب على الطالب أن يكون نقديا وأن يمتلك ناصية التفكير ويكون قادرا على التجاوب والتفاعل سلوكيا على نحو نقدي. ومن البداهة القول في هذا المقام إن اعتماد مثل هذه التربية النقدية في المدرسة وتبنيها ضمن المناهج سيواجه بالتأكيد صعوبات جمة أبرزها ضعف المستوى النقدي عند المعلمين، والحاجة إلى بناء مناهج متخصصة في هذا المستوى.
فالتربية على التنمية المستدامة سيكون لها تأثير على بنية الجدول الزمني للدروس ويمتد هذا التأثير ليشمل البنية العامة للمدرسة ووظيفتها. ويرى بعض الباحثين في هذا الخصوص أن استدخال التربية على التنمية المستدامة يعني في جوهر الأمر تغيير المدرسة وتثويرها في جوهر الأمر .
على سبيل المثال، يتجاوز التداخل العلمي ما بين الاختصاصات مختلف المضامين البيداغوجية المرتبطة بالتربية على التنمية المستدامة، وهذا يعني أنه يتوجب على التربية التنموية أن تتخطى الحواجز القائمة بين الاختصاصات العلمية، وأن تعمل على هدمها من أجل أن تعطي المعنى والدلالة للعملية التربوية برمتها.
إن تضمين التربية على التنمية المستدامة ليس في واقع الأمر مجرد عملية حسابية نضيف فيها مادة أو مقرر دراسي إلى المنهج المدرسي، بل هي عملية جوهرية تتمثل في مقاربة قضايا حيوية من أجل إحداث تغيير حقيقي في سلوك الأطفال، وتشكيل وعيهم على نحو إيجابي، فيما يتعلق بنظرتهم إلى الطبيعية والبيئة والحياة. فالتربية على التنمية يجب أن تقدم في هذا المجال بوصفها بنية معرفية كلية تضيء على كل المواد وتتجاوزها في الآن الواحد. ولهذا يبدو لنا ضروريا أن تحظى هذه التربية بالمشروعية الكلية وأن تحتل مكانها ضمن وبين وفي مختلف المقررات والمستويات المدرسية.
ففي المرحلة الابتدائية يمكن تحقيق التكامل المطلوب بين المقررات على أرومة التربية على التنمية المستدامة بسهولة، وذلك لأن المعلم الواحد يستطيع أن يستجمع في ذاته القدرة على تحقيق هذا التكامل بين مختلف المقررات التي يدرسها. ولكن هذا الدمح والاستحضار يحتاج في المرحلة الثانوية إلى تكامل الجهود الواعية بين المعلمين والإداريين والمدرسين من مختلف الاختصاصات في عملية دمج معطيات هذه التربية في مضامين التعليم.
منهجية التربية على التنمية المستدامة:
لا بد في حقيقية الأمر من توفير المناهج التربوية للتنمية المستدامة لإحداث التغييرات الفعالة في المواقف والسلوك لدى المعلمين المتعلمين. ويلاحظ في هذا السياق أن الأنظمة التربوية العالمية وضعت مناهج وطرائق متعددة من أجل تكريس قيم التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة. وغني عن البيان أن تكريس مثل هذه التربية لا يقف عن حدود التثقيف والتوعية البسيطة في هذا المجال، فالتثقيف العادي لا يمكنه أن يحدث تغييرا ملموسا وجوهريا في السلوك الإنساني ولاسيما في مجال العقليات والذهنيات.
ونظرا لأهمية البعد الاستراتيجي للتربية على التنمية، ظهرت عدة اتجاهات تربوية معاصرة تحاول تحقيق أهداف التربية على التنمية المستدامة، وهذه الاتجاهات المتنوعة تشكل جزءا من تصور بيداغوجي بنيوي وشامل في مجال التربية والتربية على التنمية. والجدير بالذكر هنا أنه لا يمكن لاتجاه واحد أن يحتكر التربية على التنمية المستدامة وأن يزعم كفايته وأوليته ليكون قادرا على الوفاء بمتطلباتها، وذلك لأن هذا النوع من التربية يتصف بدرجة كبيرة من الدقة والصعوبة والتعقيد.
فكل من هذه الاتجاهات يمتلك رؤيته التربوية ويضع مناهج وتصورات وطرائق في مجال التربية على التنمية، ومن الضروري تقييم الفعالية التي تؤديها هذه المناهج والاتجاهات وأن نقارن بينها في مستوى التأثير الذي تمارسه في عقول المتعلمين وفي مستويات قدرتهم على استيفاء قيم وسلوكيات التنمية المستدامة.
وعلى الرغم من تنوع هذه الاتجهات التربوية وتناميها فإن هذه الاتجاهات تأخذ مسارين أساسيين:
مسار التخصصات، ومسار المشروعات.
فمسار التخصصات يركز على الموضوعات المحددة الخاصة للتربية على التنمية، ويقتضي هذا المسار وضع ثوابت علمية واضحة على شكل موضوعات تتعلق بالبيئة والتنمية، ويلاحظ بصورة عامة وجود اتفاق على أنه يجب استخدام الموضوعات التي تتعلق بالماء، والطاقة، والنمو السكاني الديمغرافي ، والإنتاج والاستهلاك...الخ. وهذا يسمح للأطفال والناشئة بالتعرف على مختلف جوانب هذه القضايا التنموية وان يمارسوا السلوك الصحيح إزاءها.
ويبدو لنا أن التربية بالمشاريع هي التربية الأكثر ملاءمة لتحقيق أهداف التربية على التنمية المستدامة، وذلك ضمن حالات واقعية مجسدة، ويعني ذلك بناء المعرفة وتشكيل وعي التلاميذ من خلال عملية إيجاد الحلول للمشكلات القائمة. على سبيل المثال مشكلة الوجبات السريعة، وإدارة الوقت، ومسألة النفايات، ونافورات المياه في المدرسة...الخ. وتهدف هذه المشاريع إلى تحقيق مبدأ المشاركة بين الطلاب وتكوين الحس النقدي فيما يتعلق بالتنمية المستدامة وذلك ضمن العمل الجماعي المشترك. وهذه الخطوة يمن اعتمادها في داخل الصف، وفي عدة صفوف أو على مستوى المدرسة.
فالتربية بالمشكلات مهمة جدا في ترسيخ الوعي التنموي عبر التفاعل الحي مع الواقع ومعطياته. فالطلاب يتفاعلون مع الوضعيات الحقيقية التي تدفعم إلى طرح تساؤلات والقيام بتجارب والمشاركة الفعلية في الحوار من أجل الوصول إلى قرارات جماعية. فالوضعيات الإشكالية في هذا المسار تتمحور حول عقبات وتحديات يواجهها الطلاب ويعملون على حلها.
ومن المؤكد أن هذين الاتجاهين التربويين ( سواء أكانت عبر التربية بالمشروع أو التربية بالموضوع) يتكاملان ضمن ما يمكن أن نسميه بالاتجاه النظمي. حيث يتم الاهتمام في البداية بقضايا جزئية منفصلة ، ومن ثم الانتقال لاحقا إلى رؤية كلية شمولية، تمكن من النظر إلى المشهد التربوي بكليته دون الانشغال بتفاصيله الجزئية. وهذا التوجه الكلي يسمح ببناء علاقات معقدة بين مختلف العناصر التي تكوّن النظام برمته. فالتغيرات السوكية المحتملة تؤدي في نهاية الأمر إلى عملية بناء المعرفة، كما تؤدي إلى تغيير القيم وتأصيلها أيضا. والقيم هنا لا تظهر على طريقة الصح والخطأ بل تتجلى كمبادئ إنسانية تنموية فعالة في بناء الوعي وتشكيل السلوك على حدّ سواء.
وتتم عملية تشكيل الوعي التنموي المتكامل في مرحلتين أساسيتين : تتمثل المرحلة الأولى فيما نسميه مرحة التوعية، وتحقيق هذه المرحلة يتم بسهولة وببساطة، والعمليات التي تعتمد في هذه المرحلة متعددة كما هو الحال في مجال توليد الأمثلة الواقعية. وهذه المرحلة تشكل بداية البرنامج التربوي حول موضوع ما. وهذه المرحلة هي التي يمكنها أن تعطي معنى ودلالة لعملية التدريب والتعليم، حيث يتم تعزيز الشعور بأهمية التنمية المستدامة والتحفيز على الفعل والممارسة التنموية. وعلينا أن نأخذ هنا بعين الاعتبار أن التوعية في هذه المرحلة غير كافية لوحدها من أجل إحداث تغيير في السلوك إذ لا بد من الانتقال إلى مستويات أكثر أهمية تتعلق بتكوين الاتجاهات والميول وتشكيل العقليات التنموية.
وفي المرحلة الثانية تأتي عملية تنمية هذا الوعي التنموي وتكوين الاتجاهات التنموية وبناء عقليات جديدة بأهمية السلوك التنموي عبر الموضوعات المتخصصة بقضايا التربية على التنمية وهي كثيرة جدا ، ويمكن توظيفها بشكل جيد في داخل الصفوف والقاعات، وهذا ممكن في جميع المواد والمقررات المدرسية. ويمكن القول في هذا السياق بأن هذه المرحلة كما هو الحال في سابقتها سهلة التنفيذ والتطبيق. فالنشاط المدرسي يسمح للتلاميذ في التعليم عبر التدريب والمحكاة التعلم كيفية التوفير والاقتصاد في الموارد والطاقة، ولا سيما فيما يتعلق بالتوفير والاقتصاد في مختلف أشكال الموارد المائية والكهربائية والغذائية وغيرها.
خاتمة
وباختصار يمكن القول بأن التربية على التربية المستدامة تعد اليوم من أولويات التربية والتعليم في عالمنا المعاصر، وتقتضي الضرورة اليوم العناية بهذا النوع من التربية وإدماجها كليا أو جزئيا في مناهجنا المدرسية كي يتسنى لمجتمعاتنا أن تنهض بمواردها وأن تقلص مستويات الهدر والتبذير والإسراف المدمر في مختلف جوانب حياتنا الإنسانية والاقتصادية. ومما يؤسف له أن التربية على التنمية لم تأخذ دورها ومكانتها التي تليق بها في المدرسة العربية المعاصرة التي ما زالت حتى اليوم بعيدة جدا عن مقاصد هذه التربية ومناهجها . وما أحوجنا اليوم إلى تغيير تربوي يأخذ بعين الاعتبار أهمية البعد الإنساني والحضاري للتربية على التنمية التي تفرض نفسها اليوم ضمن الضرورات الحضارية المستجدة لعالم يفرض فيه المستقبل تحدياته المصيرية .