"من لا يعيد قراءة مفاهيمه وتجاربه نقديا لا يتقدم ولا يتطور" (جون سيمونس)
تبين الأعمال الواسعة في مجال الأنتروبولوجيا البنائية إلى أي درجة يتسم مفهوم الثقافة culture بالتنوع والتعقيد، فالمجتمعات الإنسانية تتنوع بتنوع ثقافاتها، ويعبر هذا التعدد الثقافي يعبر عن وجوه متعددة للحياة الإنسانية حيث يرتبط تعددها بتعدد اللغات والعقائد والأديان والأخلاق والقيم الإنساينة.
لقد كان القرن الثامن عشر فخورا بثقافته العلمية التقنية حيث جرى الاعتقاد يومها بوجود ثقافة غربية قطبية واحدة وبأن الثقافات الإنسانية الأخرى ما هي إلا ثقافات بربرية متوحشة وبدائية. ولكننا الآن ندرك ويدرك أهل العلم والدراية والحصافة بأن الثقافة الغربية المزهوة بنفسها ما هي إلا واحدة من الثقافات الإنسانية القائمة التي تتصف بثرائها وغناها الأخلاقي والروحي.
وقد رافق الاعتراف بتنوع الثقافات وتعددها وتباينها مفهوم النسبية الثقافية. فالإنسان في ما بعد الحداثة اعتاد النظر إلى أي شيء على أنه ثقافة وهذا يشمل ثقافة البوب وشعارات الحائط والأزياء وثقافة الروك وأقراص الليزر وأشرطة الفيديو وبرامج التلفزيون وعمليات التجميل وتناول المخدرات والعنف والجنس كل هذا يثمن ويقدر على أنه ثقافة.
وفي ظل هذا التحول أصبح من الصعب جدا إعادة الاعتبار إلى المفهوم التقليدي لمفهوم الإنسان المثقف، حيث كان الإنسان المثقف يرمز إلى نموذج معياري ويمثل إطارا مرجعيا للتفكير التقليدي وهو المثقف الذي كان قد تشكل في سياق تفاعله مع الآثار الفنية والفكرية النموذجية العليا للروح الإنسانية، فتكاثفت في تشكله المعاني الإنسانية الرفيعة والخلاقة الدالة على الطابع الإنساني.
من أجل أن تكون مثقفا كان يتوجب عليك أن تحظى بنصيب كبير وبقاسم مشترك من الفكر الفلسفي الأصيل، وأن تحظى بنصيب لا يستهان به من التربية الفنية والأدبية والفلسفية، وكان على المرء أن يصقل بمعارف أساسية وأولية حول الدين والحق والخير والجمال وأن يكون منفتحا على ثقافة الآخرين وأعمالهم الفكرية والفنية. ومن الواضح اليوم في عالمنا المعاصر بأن هذه الصورة للإنسان المثقف أصبحت صورة نخبوية بامتياز تنطبق على عدد قليل جدا من الناس في المجتمع. والآن هل يجب علينا في حقيقة الأمر أن نعيد النظر في مفهوم الإنسان المثقف؟ وهل يجب علينا أن نشعر بالقلق لاختفاء النموذج التقليدي لمفهوم الإنسان المثقف؟ أو هل يتوجب علينا أن نشعر بالقلق لتراجع مفهوم الثقافة ذاته بدلالاته الإنساني؟ هل يجب علينا أن نعتقد بأن عالم ما بعد الحداثة قد أصبح عالما من غير ثقافة حقيقية أو عالم يعاني من الأمية الثقافية؟ والسؤال الجامع الممكن من هو الإنسان المثقف؟
ثقافة ما بعد الحداثة:
ليس ضروريا الآن أن نخوض في تفاصيل تاريخية حول مفهوم الثقافة بدلالاته وتعيناته وإسقاطاته عبر الزمن. فنحن الآن نعيش في عصر تشكل فيه قيمة الاستهلاك القيمة العليا في المجتمع، وهو عصر سقوط الأيديولوجيات الكبرى، عصر الفراغ، أو كما يطلق عليه ليبوفسكي عصر ما بعد الحداثة postmodernité.
تميز حنا أرندت Annah Arendt في كتابها شرط الإنسان الحداثي La condition de l’homme moderne بين عالمين حيث تعرض ما بين الأعمال الفنية التي تنتسب إلى عالم غير زمني للثقافة وبين الاستهلاك في عالم ما بعد الحداثة. فعالم ما بعد الحداثة يمثل نهاية الثقافة السامية وهيمنة الاستهلاك بوصفه ثقافة حيث يتم قياس الثقافة بمعيار الاستهلاك. وفي عصرنا هذا أصبحت القيمة العليا هي القيمة الاقتصادية بامتياز، فقيمة الأشياء، وقيمة الأشخاص حتى تحسب اليوم بمعايير الاستهلاك وبالقدرة على الاستهلاك. وبالتالي فإن لذة الاستهلاك هي معيار سعادتنا. ونحن اليوم لا نزهو، كهؤلاء الرجال ما بعد الحرب، بعملنا وثقافتنا، ولسنا من هؤلاء الذين تبهرهم الأيديولوجيات السياسية وتسحرهم العقائد الفكرية، كما هو حال الأجيال المثقفة في الستينات، ولم نعد هؤلاء الذين تسحرهم شعارات الثورة والتقدم. فنحن لا نريد تغيير العالم، بل نريد أن نحقق الفوائد ونستفيد ونستهلك ونستمتع. لقد تحولنا إلى أطفال المتعة الصناعية، إننا نعيش في عصر الدعاية والإعلان، والإعلان هو اليوم آخر معاقلنا حيث يتم تشكيلنا منذ نعومة أظفارنا تحت مطارقه وتأثيراته. وما تعلمنا إياه الإعلانات هو أن الحياة تعني الاستفادة والربح وتأكيد الذات. فالحياة أصبحت كالحركة في داخل صالات التلفزيون وقاعاته الفاخرة، وفي الكليب فيديو حيث كل شيء يكون على ما يرام، أو حيث كل شيء يمضي سريعا وخاطفا، حيث تكون الصورة سريعة جميلة براقة خاطفة وفي المكان الذي يلهو فيه الناس ويستمتعون. لقد تمّ تعميدنا في مياه النزعة إلى اللذة وتمّ غمسنا في ماء الحياة القائمة على الربح والاستهلاك والإثارة. إن هاجس الحياة الثقافية ليوم هو اللهو واللذة والمتعة وقد أصبحت هذه معايير نموذجية لنمط الحياة الثقافية المعاصرة. ففي العشرينات من القرن العشرين كانت ثقافة المتعة هي ثقافة فئة من الطبقة الاجتماعية الثرية في أمريكا، ولكنها اليوم تحولت إلى طابع ثقافي عام في مختلف مستويات الحياة الثقافية الجارية وأصبحت هذه النزعة ثمة التحولات الثقافية في مختلف المجتمعات المعاصرة. فما بعد الحداثة يمثل تمثل إمبراطورية القيم الحيوية حيث تأخذ الأشياء قيمتها وفقا لمعيار الاستهلاك وتحقيق اللذة والمتعة.
فالعقلية فيما بعد العولمة تأخذ لغة جديدة قوامها أن قيمة كل الأشياء تنطوي في قابليتها للاستهلاك السريع وتوفير المتعة السريعة، وهذا المعيار يلف كل الأشياء التي تبدأ الكتب والأفلام والموسيقى وعبر بالعمل والإنتاج، وانتهاءً بكل مظاهر الحياة الثقافية ومستلزماتها. فالأشياء ومن أجل أن تكتسب قيمتها يجب أن تكون وفقا لمعايير الاستهلاك القائمة مثيرة ممتعة سريعة وافية ووقتية عبرة (حيث يتم التخلص منها كما يتم التخلص من عبلة بيبسي كولا).
إن مذهب المتعة في عصرنا هذا يتجلى في اللغة المبتذلة التي تتجلى في مجال استهلاك المخدرات والإدمان على الممنوعات. والكلمات المبتذلة ليست موجودة بالصدفة بل هي ترجمة حقيقة لنزعة داخلية تتمثل في بناء الحياة كلها على مبدأ اللذة والنفع والمتعة وما يتصل بذلك من نهايات ترتبط بكلمات مثل الانفجار والتدمير والاختفاء والزوال. وتلك هي بعض من الكلمات الأساسية التي تمثل المضمون الأساسي للسجل اللغوي المبتذل في لغة ما بعد الحداثة.
عندما نركز اهتمامنا حول ما يجري حولنا لوجدنا سنجد حضورا صارخا لنزعة لذوية شبقية متقدمة تلهبها دورة إعلامية مسعورة دافعة إلى قيم الاستهلاك والمتعة والسطوة. وفي دائرة هذا الجنون الاستهلاكي والنزعة الرغبوية الشبقة يفقد كل نشاط أو فعل يعتمد على التأمل والتعقل والنظر والصبر والانتظار قيمته ودلالته ومعناه. وهذا يعني أن كل النشاطات الإنسانية التي لا ترتبط بالاستهلاك واللذة والسرعة تصبح مدعاة للسخرية والازدراء والاحتقار. وهذا الانحسار القيمي يشمل اليوم كل صيغ التربية التقليدية وكل معاني الثقافة التقليدية القائمة على معايير إنسانية سامية ومختلفة.
ويمكن لنا أن نسوق مثالا يتعلق بمراهقي اليوم الذين اعتادوا أن يشاهدوا التلفزيون متنقلين من محطة لأخرى، يأكلون سريعا، ويعيشون على ومض الإعلان، ويتحركون وفقا لمبدأ المتعة واللذة، تحصيلهم الدراسي بطيء ومتراجع، إن لم يكن معدوما. وسيكون من الصعب على مراهق اليوم أن يركّز انتباهه لأنه قد اعتاد على نوع من الحياة التي تعتمد الإثارة السمعية البصرية المستمرة كما هو الحال في لعبة فيديو. وهو حتى في قاعة الصف يرغب في أن يفعل في القاعة ما يفعله متنقلا على شاشة التلفزيون أنه يريد الانتقال من محطة إلى أخرى، إنه يستهلك المعلومات بسرعة ويريد مزيدا من الاستهلاك وكأنه يشاهد محطته التلفزيونية المفضلة، وهو في ذلك يريد أن يكون سلبيا وغافيا وفي لحظة شرود مألوفة لديه. والتعليم بالنسبة إليه لا يختلف عن عملية استهلاك الكوكا كولا، والمدرسة ما هي بنظره غير آلة توزع المعرفة كما توزع الآلة علب الشيكولا والكوكو كولا. والفرق الوحيد بين الكوكا كولا والمعرفة أن الأولى تتميز بلذتها وقدرتها على الإمتاع والإنعاش أما الثانية أي المعرفة فإنها تمارس قهرا ومعاناة وإكراها. إن البحث عن المتعة الفورية التي ترتبط اليوم ارتباطا كبيرا بالجنس والحاجات الأولية وما تجره من متعة زائفة أصبح من الأمور المألوفة والعادية. هذه السمات الثقافية أصبحت صميمية في حياة الشباب وثقافة المراهقين. وقد تعززت هذه المظاهر بحضور كبير لمفهوم الأنوية والذاتانية المفرطة عند هؤلاء الشباب والمراهقين في رؤيتهم للكون والوجود. فالبحث عن المتعة والأمن والتسلية تحول إلى نمط للحياة للشباب في مرحلة ما بعد الحداثة، وبالتالي فإن هذه الصورة التي تتمثل في طلب اللذة والمتعة واللهو تحتل مكانها السامق في الثقافة الحداثية المعاصرة.
وفيما يتعلق بالمدرسة وبالثقافة التي تبثها فإننا اعتدنا أن نسمع كثيرا من صيغ النقد التي توجه إليها والتي غالبا ما تكون مشحونة بطابع التهكم والسخرية والازدراء فيما يتعلق بالثقافة التقليدية التي تقدمها للطلاب في مختلف المؤسسات التربوية القائمة بدءا من المدرسة الابتدائية وصولا إلى الجامعة. ففي وسط هذا التعظيم للكسل والتواكل وتمجيد الانسحاب وغياب روح المواجهة وفي هذه الأجواء من الجمود يصبح من الصعب جدا على المدرسة أن تعلم الطلاب على التعلم والنشاط والاندفاع والبحث والتقصي والاكتشاف العقلي. لأن متطلبات التحصيل العلمي بما يقتضيه من كشف وإبداع وذكاء يتطلب كل مقومات النشاط والفعل والمغامرة والانطلاق وهي قيم غائبة وسلبية في الثقافة السائدة في عصرنا هذا. وهنا يتوجب على المدرسة الفصل بين الشروط المحيطة بالطالب وبين متطلبات العمل المدرسي من أجل توليد الإحساس بالقدرة على الإحساس بالجمال وبناء العقل والكشف عن الغنى الثقافي وبناء الثقافة التي تغني الروح وتنهض بالإنسان والعقل.
فعندما تتحول العوامل السلبية والتفاهة إلى عوامل مركزية في الحياة ثقافة فإن التفكير والعقل الإنساني يفقد دلالته وقيمته الأخلاقية. وهناك قلة من المفكرين الذين يكرسون أنفسهم لمواجهة الثقافة السائدة المضادة للعقل والقيم الأخلاقية الحقّة. فاليوم لا يوجد هناك شعر ملعون، وذلك لأن النقد الفني والتذوق الجمالي يمرّ أولا في دائرة المعايير الثقافية القائمة التي تجعلنا غير قادرين على التمييز بين الفكر الأصيل والفكر المتواضع الذي يقع في الحضيض.
فالعلاقات معكوسة تماما حيث لا يوجد تعارض بين الحياة الهامشية خارج الثقافة وبين الثقافة نفسها بل وعلى خلاف ذلك أصبحت الثقافة نفسها هامشية. وفي مواجهة الانتاج الصناعي الضخم للذة والمتعة أين يمكننا أن نجد قيمة الثقافة الروحية؟ فنحن الآن نعيش في عصر تأخذ فيه الثقافة الروحية مكانها في الحضيض دون قيمة أو اعتبار، إنها أشبه ببضاعة رخيصة بدون قيمة تذكر. وفي الوقت الذي تعرض فيه أحد العمال الفنية ذات القيمة والأهمية على شاشة التلفزيون فإنه سرعان ما يتم التقليل من أهميته وذلك وفقا لمنطق الإعلام حيث يتم إخضاع كل شيء لقيم ما بعد الحداثة.
لقد أصبحت عبادة البساطة والمتعة وثنا للعبادة في مرحلة ما بعد الحداثة حيث تسود قيم التسلية واللهو والتوهم والمخادعة. وهذه القيم لا تمتلك عمقا أو دلالة روحية ولا تحمل في ذاتها أي اعتبار للمقدس ذاته. فالصورة وإنتاج الوهم وصناعة الأحلام والاستعراض والفورية والسرعة أصبحت قيما عليا مقدسة في دائرة الثقافة السائدة أو نقل في عمق ثقافة ما بعد الحداثة.
فالقيم المحببة للأفراد أصبحت القيم التي تتعلق بالصورة والمظاهر والتقليد والأوهام. وفي هذا السياق يناسبنا أن نتعرض لرأي فيورباخ Ludwig Feuerbach في كتابه حول جوهر المسيحية L’Essence du Christianisme يقول فيورباخ "بدون أدنى شك يفضل مجتمعنا اليوم الصورة على الأشياء، الصورة على الأصل، تصور الحقيقة على الحقيقة نفسها، المظهر على الوجود... وما هو مقدس بالنسبة إليه ليس سوى الوهم وما هو دنيوي هو الحقيقة. والمقدس بالنسبة إليه يكبر كلما تصاغرت الحقيقة وكلما تصاعد الوهم. وبعبارة أخرى كلما تصاعد الخداع والوهم تصاعد لديه قيمة المقدس ورصيده".
هذا التصور الذي قدمناه حول الثقافة يصبح ضاربا في الوجود مع تصاعد الدور الكبير للإعلام في عالم ما بعد الحداثة ولاسيما الإعلام التلفزيوني. ونحن ندرك اليوم هذا الإدمان التلفزيوني الهائل لدى الأطفال، حيث تبين الإحصائيات العالمية أن الطفل يجالس التلفزيون ساعتين ونصف يوميا تقريبا. والسؤال ما الذي يشاهده الأطفال عبر الشاشة؟ إنهم يشاهدون تدفقا هائلا من الإعلانات والصور، وهي التي تدفعهم بقوة إلى الشراء: شراء الحلويات والألعاب وأدوات اللهو والتسلية دون انقطاع. وهم دائما غارقون في مشاهد الدم والعنف والقيم السادية والإسراف الجنسي. إنهم يعيشون حالة من جنون الحضارة ويستغرقون في أعماق النشوة المبتذلة التي تجردهم من كل المعاني التي يسمو بها الإنسان والدلالات التي تنهض به. وهذا ما تؤديه أيضا الثقافات الفرعية القائمة التي تحدث نوعا من التوافق بين الأجيال حيث يتوقف المرء عن التفكير وعن التواصل ولكنه يشاهد فقط ودون انقطاع هذا المدّ المستطير للدعاية والإعلان والصورة في مسلسلات تلفزيونية لا تنقطع أبدا. وفي داخل العائلة يتذوق الأفراد الرعب المنوم نفسه وهذا يعطي الشعور بالمشاركة في شيء واحد هو البرنامج التلفزيوني. ومن ثم يذهب الواحد تلو الآخر إلى السوبر ماركيت بمطواعية صارخة من أجل شراء المواد التي ارتسمت في الإعلان التلفزيوني. ويستمر الجميع بمشاهدة رخائص الإعلام وتفاهات التلفزيون دون انقطاع وتستمر الحياة بما هي عليه من تواطؤ هائل ومرعب بين الصورة والإعلان والدعاية والاستهلاك، وذلك لأن البقاء في جو البلاهة والابتذال والحماقة هو بقاء في دائرة العام والمشترك والثقافي بمعنى ثقافة العولمة وما بعد الحداثة، وهكذا يكون المرء مع الآخرين ولا يكون معهم إلا بالقيم الاستهلاكية المبتذلة التي تحكمهم. فالاستهلاك هو موضوع الإعلام وغايته، وتلك هي صورة الإنسان في عالمنا هذا هو شخص يستلقي مسترخيا على كنبته، وأمامه كأس كبير من البيرة أو الببسي كولا أو "المتة" والشاي والمكسرات تتموضع على طاولة صغيرة ملاصقة، وهو يشاهد سلسلة تلفزيونية أو حلقة رياضية. وهذا يعني أن الإعلام يؤدي دورا تربويا لنموذج ثقافي استرخائي مبتذل يحيط به ويحتويه!
ما نراه مرعب ومخيف وهنا يجب على الإنسان أن ينظر وأن يتبصر الخطر وأن يدرك رعب اللحظة، عليه أن يخرج من هذه الدائرة العدمية لا بل عليه أن يستيقظ وأن يستكشف آفاقا جديدة لوجوده وحياته المعنوية والروحية.
ومع الأسف فإن مجتمع الاستهلاك ليس له مصلحة في الخروج من هذه الوضعية أو في أن يكون يقظا بآثارها. وفي دائرة هذه الوضعية فإن التربية تتجه إلى بناء سيكولوجية الاستهلاك وتأكيد على سمة المستهلك الطيع الذي ينصاع ويذعن لواعي الاستهلاك ومعطياته. وهنا يجب التشديد على أن الإذعان يوجد في صميم عملية الاستهلاك فالاستهلاك والإذعان مترابطان بالضرورة في مجتمع استهلاكي. وبعبارة واضحة المستهلك بالتعريف إنسان خاضع ومطيع.
وفي سياق المجتمع الاستهلاكي الإعلامي تجب الإشارة إلى تنوع كبير في وظائف التلفزيون وقدراته في التأثير. حيث يمكن وضع تلفزيون في كل غرفة من غرف المنزل، وهنا أيضا يشار إلى خاصة التدامج الإعلامي والتفاعل التقني بين التلفزيون والوسائط الإعلامية حيث يمكن الانتقال بسهولة من التلفزيون إلى الفيديو إلى الحاسوب إلى الإنترنيت والعكس صحيح ويمكن تحقيق التدامج الوظيفي لهذه الوسائط دفعة واحدة ولأغراض متعددة. وكل هذه الوسائط ترتبط بالصورة إنتاجا واستهلاكا على نحو بالغ التنوع والامتداد. وهذا يسمح للفرد ودون حدود باللهو والتسلية والحلم والتخيل والاندماج السلبي وأن ينقطع به الأمر عن الحياة الحقيقية والتواصل الحقيقي. فالفرد هنا يعيش بديلا للحياة الحقيقية حياة افتراضية في عالم افتراضي بديل عبر الصورة واللون والصوت وإيقاع والوهم.
وهذا كله يجعل الناس في دائرة ثقافة أخرى ليس قوامها قراءة في الأدب ومطالعة في الأعمال الفكرية الكبرى ليست ثقافة في شعر المتنبي وفلسفة ابن رشد أو في أشعار شكسبير وفلسفة نيتشه أو في جمهورية أفلاطون. هذه الثقافة ليس لها أية علاقة مع الذكاء الحقيقي والمعرفة العلمية أو مع الأعمال الفكرية بطابعها الإنساني لي سلها علاقة مع الفكر والنقد والتحليل والنظر والتأمل ومع ذلك فهي ثقافة الاستهلاك والرضوخ والمتعة واللذة والضياع والخراب والوهم والاسترخاء والإدمان والسقوط والحسية والشبقية والانتحار. ولا يستطيع أحد أن يزعم بأن ثقافة ما بعد الحداثة هي ثقافة الفراغ بل هي ثقافة مشبعة بالصور، ملايين الصور والكلمات والشعارات والإعلانات والأصوات، وهي في مجموعها تشكل ذاكرة الإنسان ما بعد الحداثي كما تشكل أحاسيس ومشاعر الإنسان المعاصر الذي المتخم بالصورة والإعلان والعفوية. وبالتالي فإن هذه الثقافة تتسم بأنها ثقافة للأمية أو على الأقل ثقافة تعزز الأمية بين صفوف أفرادها. فهناك كثير من الإحصائيات التي تبين حضور هذه الأمية حتى في الدول المتقدمة، حيث تبين الإحصائيات على سبيل المثال أن نسبة تتراوح بين 10-12% من الفرنسيين الذين لا يستطيعون تحرير شيكاتهم وأن هذه النسبة لا تتقلص مع الأيام. وهذه النوع من الأمية يتقدم نحو الجامعة حيث نجد تراجعا كبيرا في مستوى اللغات في الجامعات وضعف اللغة الذي يعاني منه الطلاب يكاد يدهش المعلمين والمدرسين في هذه الجامعات. لقد بينت الإحصائيات في هذا الميدان أن أكثر من 25% من الناس الذين يعيشون في الغرب لا يقرؤون أبدا وهم في الغالب يعتمدون على تلقي ثقافتهم من التلفزيون. حيث تسود ثقافة اللهو والتسلية والألعاب وقضاء أوقات الفراغ. وهذه النسب قد تصبح موميائية إذا تأملنا فيها في المنطقة العربية.
وفي هذا السياق يلاحظ اليوم توجه واسع النطاق لإدخال الدعاية الإعلانية في مدارس الولايات المتحدة الأمريكية، وهنا في المجتمع الأمريكي يلاحظ انحدار المستوى التربوي وفي الوقت نفسه يلاحظ أن سوق العمل يتطلب ثقافة وتأهيلا مهنيا عاليا جدا، وهذا التطلّب ينسحب على مختلف النشاطات التقنية.
فالحاسوب يأخذ مكانا كبيرا اليوم في المجتمعات المتقدمة، وعملية الحوسبة تغطي مختلف النشاطات العقلية والإنسانية ولاسيما في مجال الميكانيك والتقانة. والآلات تستطيع أن تفعل كل شيء بصورة أفضل من الناس. ويبقى هنا أن الناس هم في مسيس الحاجة إلى ثقافة حقيقية تمكنهم من المحافظة على وجودهم الإنساني.
والسؤال هنا كيف نعزز هذا التوجه الثقافي الإنساني مع أطفال التلفزيون أو أطفال ما بعد الحداثة حي لا توجد هناك معايير ثقافية يمكن الاستناد إليها؟ كيف نفعل ذلك في ظل غياب الحس النقدي والممارسة الحرة للتفكير؟ كيف لنا ذلك مع غياب الثقافة ذاتها؟ كيف ونحن نعاني من عسر في القراءة؟ وكيف لنا ذلك في غياب الرغبة في التعلم والتثقيف؟ كيف يكون ذلك وكل شيء حول الفرد يدعوه إلى الكسل واللهو والاسترخاء؟ كيف يمكن تثقيف الفرد في مجتمع لا يعنى أبدا بعملية التغذية الفكرية والعقلية ولا يعمل على تنمية ذكاء الأفراد؟ والسؤال الأكبر كيف يمكن الخروج من هذا الجمود الذي يدعو العقل إلى الخمول ومن هذه الثقافة التي تدعو إلى الهزيمة واللجوء إلى اللهو والاستجمام بدلا من القراءة والجد والكدّ والتعبّ الخلاق؟
فالنظام التربوي في ظل هذه التناقضات غير قادر بالتأكيد على إخراجنا من هذه العطالة المرعبة للعقل والروح. وفي ظل هذه الوضعية المحبطة لعالم يدعو إلى الكسل ويرفض قيم التحصيل والتثقيف لا تبقى فرصة لغير قلة من الناس الذي يستطيعون تجاوز هذه الوضعية المأساوية لثقافة مدمرة مدّمرة.
فاوستية الثقافة:
تميز مرحلة ما بعد الحداثة بين الحياة الذاتية والذكاء بطريقة تكون معها الروح الفردية مشبعة بطابع الحيوية الهائلة، ويكون فيها الذكاء محاصرا في معرفة منقطعة عن الحياة فاقدا بعده الثقافي. فالخيال يأخذ فيما بعد الحداثة مكان الحقيقة. ووفقا لتعبير غي ديبورد Guy Debord فإن مجتمع ما بعد الحداثة هو مجتمع استعراضي La société du spectacle، فالحياة في مختلف المجتمعات الحداثية التي تعيش شروط الإنتاج الحديث تأخذ طابعا من التراكم الاستعراضي للصورة والمشاهد، وبالتالي فإن كل ما كان مباشرا وحيويا في الحياة أصبح صوريا واتخذ مكانه في دائرة التخيل والتصور.
فالعالم ما بعد الحداثي يعلب كل ما يوجد في التفكير ويعظم الأحداث مضاعفاً إياها بصورة ذهنية وتخيلية وذلك من غير صلة مع العالم الواقعي ومع الحقيقة الخارجية. والصور التي غالبا ما تلتقط لجانب منفصل من جوانب الحياة تجمع وتصهر في وحدة تيار متدفق للحياة، ولكن الروح الحقيقية لهذه الحياة المتخيلة لا يمكن أن تكون في مكان أبدا لأنها حقيقة غير واقعية متوهمة. فالحقيقة المجزأة تأخذ وحدتها في صورة عالم متوهم إن لم يكن مزيف لا وجود له إلا في امتداد هذه الصور وتدفقها. وهذا العالم مريض سوسيولوجيا بمعنى أن يتعارض مع دلالة الحياة التي تتوافق مع ذاتها وتبرهن على وجودها بوصفها حياة حقيقية غير متوهمة أو متخيلة. فالحياة في ما بعد الحداثة وكما اشرنا تأخذ حقيقة متدفقة من الصور والتشكيلات الافتراضية والسؤال هو أين هي العلاقة بين هذا المتخيل والمفترض وبين الحياة الحقيقية. فالحياة الحقيقية ليست أبدا جمعا راتقا لتدفق الصور بل هي علاقات اجتماعية انفعالية عفوية صميمية وحيوية بين الإنسان والواقع، بين الإنسان والحياة.
لقد أدت هيمنة المعايير المادية على مقتضيات الحياة الاجتماعية إلى حالة من تراجع معايير الحياة الأخلاقية وإلى تحويل الإنسان إلى كائن مأخوذ بالتملك. وبالتالي فإن الانقلاب الكبير الذي يحدثه الاقتصاد يصل مداه عندما تتحول الثقافة إلى ثقافة السوق أو عندما تتحول الثقافة نفسها إلى منتج مميز للتسويق الاستعراضي.
ما الذي يعنيه مفهوم ثقافة؟ تعني الثقافة عملية التحول الذاتي للحياة وهي حركة لا تنقطع ولا تتوقف عن تغيير ذاتها وذلك من أجل الوصل إلى صيغ أكثر تقدما من صيغ الوجود والتكيف. والثقافة لا يمكنها أن تختزل إلى أبعادها المعرفية الموضوعية. إنها تتجلى في كل الصيغ عبر تحولاتها الداخلية لتتجلى في كل الوجدان الذاتي الأعمق لكل فرد في المجتمع ولتأخذ حضورها المميز في ذكائه. والسؤال هنا ما المشترك بين قراءة كتاب يصدمنا ويهز ذكاءنا وقلوبنا وبين البهجة التي يضفيها سماع عمل موسيقي وبين فرحة الرسم وتصوير الروح الإنسانية في هيئة أو شكل؟ إن الرابط الجوهري بين هذه المظاهر والفعاليات ليس شيئا آخر غير الشعور الخلاق الخالد أبدا بالحياة الإنسانية في أعمق أعماقها وفي صلب ذاتيتها.
لا يوجد هناك فصل حقيقي بين الثقافة والحياة، فالحياة تتجلى وتتكامل في الثقافة وكذلك هي الثقافة لا يمكن أن تتجلى إلا في صورة الحياة في أعمق معانيها ودلالاتها. وعندما تكون الحياة هي حركة لا انقطاع فيها ذاتية التحول والتكامل فإنها هي الثقافة ذاتها. وهذا يعني بالضرورة أن أي نفي ممكن للثقافة يعني في الوقت نفسه نفيا للحياة ذاتها. فالطالب أو التلميذ الذي يبني تجربته المؤلمة عبر دراسته ويستطيع مواجهة الصعوبات التي تعترضه في سبيل التحصيل أن يحقق امتلاكا حقيقيا للمعرفة العلمية التي تلقاها. ومع ذلك فإن الطالب يشعر بأنه غريب على المعلومات التي يتلقاها وهو يعيش حالة ضجر رافضة لما يتلقاها خارجيا حيث يتوجب عليه أن يستظهر أمورا غريبة عنه. فالمعلومات ليست معرفة حقيقية لأنها تفتقر إلى العناصر الذاتية الواعية، والمعرفة هي غذاء حقيقي للذكاء عندما يستطيع الطفل أو الطالب أن يدمجها في ذاته لتصبح جزءا حقيقيا من تكوينه الإنساني وهويته، وهذا يعني أنه عندما يستطيع أن يجعلها جزءا من حياته الخاصة: أي عندما يفهمها ويدركها بصورة حقيقية. وهذا يعني أن ما نفهمه وما ندركه بعمق يصبح جزءا من شخصيتنا ومن تكويننا الإنساني.
ومن هذا المنطلق يترتب علينا أن ندرس العلاقة بين العلم والثقافة دون فرضيات قطعية مسبقة ونهائية وأن نعمل على استقراء هذه العلاقة واستكشاف أبعادها وملابساتها قبل إصدار الأحكام النهائية حولها. وفي هذا السياق يمكن القول بأن كبار العلماء أمثال باستور Pasteur ودارون Darwin وإينشتاين Einstein وبوهر Bohr وهيازنبيرغ Heisenberg كانوا وثيقي الارتباط بالتطور الثقافي الحادث في زمنهم حيث تشكل الثقافة بالنسبة لهم الجذع الأساسي لشجرة العلم والمعرفة. وكان ارتباطهم الثقافي هذا يعبر عن تجديد داخلي لرؤية ذاتية للعالم أسهم في تجديد الاتجاهات الأساسية لفلسفة الحقيقة. وما كانت إبداعاتهم العلمية إلا امتدادا فرعيا للثقافة بوصفها كيانا كليا حيويا يتميز بالخصوبة والعطاء والتجدد.
ومما يؤسف له اليوم أن العلم يأخذ طابعا تقنيا جزئيا خارج الثقافة ومن غيرها بوصفها كيانا روحيا وأخلاقيا كليا يحيط بالمعرفة ويغنيها. فالعلم كما ننظر إليه اليوم يتحدد بالتطور التقني الخالص المنفصل عن الثقافة بوصفها سياقا تاريخي، وهذا يعني أن التطور التقني يحدث في دائرة قطيعة بينة مع الثقافة وما تنطوي عليه من مضامين إنسانية. وتتجلى هذه القطيعة في مختلف المؤسسات الاجتماعية ولاسيما المؤسسات التربوية والجامعية حيث يفقد الطلاب القدرة على إدراك أنفسهم وتغوص العلوم في مستنقعات الاستبطان الذاتي والجزئية والانفصال عن سياقاتها الثقافية والأخلاقية، حيث تكون المعارف التي تقدم غامضة وغير مفهومة بالنسبة للسواد الأعظم من الطلاب والتلامذة والمريدين، وذلك لأنها منفصلة عن الحياة منقطعة عن الوجود الثقافي والحقيقي للمجتمع. فالمعرفة التي تقدم يمكن وصفها بأنها فائقة التخصص نخبوية ومنيعة على أغلب الطلاب في المدرسة والجامعة.
فالثقافة هي هبة ذاتية للحياة الإنسانية نفسها وهي تنطوي في ذاتها على إمكانية فهم ذاتها وتجديد هذا الفهم بصورة مستمرة، والعلم عندما يتنكر للثقافة فإنه يدمر قدرات الإنسان الذاتية ويهدم مشاعرهم وذكاءهم. ويبدو أن العلم في سياق هذه القطيعة قد فقد كثيرا من تألقه وارتباطه بالحياة الإنسانية الحقيقية. ومن أجل أداء وظيفته الإنسانية اليوم يجب عليه أن يهتدي بفلسفة إنسانية توجه مساره إلى التواصل الإنساني الخلاق مع الثقافة والحياة.
واختصارا يمكن القول بأن ثقافة ما بعد الحداثة هي ثقافة الجمود والعطالة والانقطاع، إنها ثقافة مضادة للإنسان والإنسانية والكرامة. وأنه يجب على المجتمعات الإنسانية أن تعمل اليوم على بناء استراتيجيات هائلة من أجل احتواء هذه الجائحة الثقافية التي تنذر بالخطر والعدمية.