من أجل مُساءلة الأدب ، في صيرورة تواصلية دائمة ، لابد أن نعود إلى تاريخ المعرفة وإلى مراحلها و تطوراتها . حيث إن التاريخانية ، حسب المفكر و المؤرخ عبد الله العروي ، تسيج امتدادات الدرس الأدبي في الثقافة الإنسانية . فما من حديث عن ظاهرة أدبية إلا واندغمت بهذا الشرط التاريخي ، الذي يرسم حدودا زمنية للقول والكلام ؛ كاشفا ، بذلك ، عن أهم إبدالاتها و جدواها . فعلى امتداد ما يزيد عن خمسين سنة لكتاب " الأيديولوجية العربية المعاصرة " ، الذي أقر فيه العروي أن المناهج العلمية ، التي عولج بها الأدب العربي ، لا تقوم لها قائمة من دون تاريخ الأفكار ، ليأتي بعد ذلك كتابه " السنة والإصلاح" ، مجيبا عن تساؤلات ساخنة الوطيس متعلقة بالانتماء و الهوية والدين والتاريخ والأدب .
فالمُساءلة ، حسب عبد الفتاح كيليطو ، في هذا الكتاب ، ترى أن البحث عن جذور انتمائها الشرقي ، أفضى بها إلى الكشف عن جدوى التنزيل و الوحي والسنة في حياة الأفراد و الأمم . على اعتبارها ، جميعا ، عناصر تبوصل الوجود الذي عرفه الإنسان في الشرق ، منذ نزول الوحي في شبه جزيرة العرب . فأيـّا كانت الأسباب والمسببات ، التي جعلت من هذه المرأة موضوع كتاب " السنة و الإصلاح " عند العروي ؛ فإن لهذه العلاقة امتدادات جوهرية في تاريخ مصادر الأدب العربي ، وعلى قبسها سار المؤلف ؛ ليجعل للمرأة مكانة في إنتاج المعرفة الأدبية والترويج لها ؛لأن المخاطب ، في أمهات المصادر المعرفية لتاريخ الأدب العربي ، يكون جنسا ذكرا . وفي هذا المضمار ، نجد على سبيل المثال لا الحصر : خطابات العبدري ، رحلات ابن بطوطة ، تساؤلات حي بن يقضان ، مقامات الحريري و الزمخشري ، باستثناء شهرزاد في حكايات " ألف ليلة و ليلة "، حيث تكون الأنثى محركة لعجلة السرد في هذه المحكيات . فبهذا سلك عبد الله العروي طريقا جديدا في معالجة الظاهرة الأدبية ، بما هي موروث إنساني يحافظ على الكينونة ، ويتشرب مبادئ العقيدة ، وأخيرا يتشكل من خلالها وعي بالوجود و الكون .
إن السعي وراء اكتشاف دور الأدب في بناء الوعي بالماضي و استشراف المستقبل ، وعلاقته بالآخر، قد يخرج عن دائرة المعرفة المنهجية بأصول الثوابت في العقيدة و الدين الحنيف و التاريخ . من هذا المبتغى تجيء تاريخانية عبد الله العروي مسجورة بالسؤال التاريخي ؛ لتجد صداها يتردد بشكل منتظم في محكياته الروائية بدءا ب" الغربة " و " اليتيم " ، وذلك من خلال موقفين يتحقق فيهما آمال المغاربة بُعيد الاستقلال ، ويسيج هذه التاريخانية بسيرة إدريس الذهنية في روايته " أوراق " ، التي كان ينظر فيها إدريس إلى أوراقه ، وهي مجموعة من نصوص، حسب عبد الله العروي ، نشرت و قرئت و نوقشت منذ سنين . ومنه ، يتشكل عند الكاتب وعي جديد بالأدب و أهميته في الحياة ، بما هو لا يقف عند حدود مشروع يواكبه العروي بالبحث الأكاديمي الرصين ، و في رحاب كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط يزكيه بجلساته العلمية ، وإنما هو منعطف نحو إعادة بناء الذات ، العالمة والمؤرخة ، في علاقتها بالآخر ـ ماريا ، لارا ـ لا على مستوى الهوية فحسب ، بل على مستوى الانتماء العقدي والديني و التاريخي و الجغرافي .
لم تتحدد الرؤية الجديدة للأدب ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك من خلال موقف المفكر والمؤرخ عبد الله العروي من الثقافة و الفكر ، إلا في علاقتها ، كما هو معروف و متداول ، بالشرط التاريخي . فبالعودة إلى فكر فلاسفة الأنوار في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر ، وما أحدثه من ثورات هزت البشرية ، وما أعقبها من حملات تبشيرية و عسكرية ؛ كحملة نابليون بونابارت على مصر ؛ فإن هذه الأحداث و غيرها مهدت إلى ظهور مناهج تاريخية حديثة تناولت السيرورة الأدبية في مختلف المشارب المعرفية الإنسانية ، حيث أصبح الدرس التاريخي يغلف الدرس الأدبي . خطان متوازيان . فبهذا المنظور الشامل لم تسلم آداب شبه جزيرة العرب من هذا التحديث الشامل لتناول الظواهر الأدبية ، حيث تم ترتيب العلاقة التي تربط بين عناصر الثالوث المعرفي ؛ الباحث و المعرفة و القارئ .
لم يستطع الدرس الأدبي ، في غضون ذلك ، أن يتخلص من تاريخانية كارل بوبر ، بما هو أرسى دعائم النظرة التاريخية للأدب من زاوية تفاعلية مثمرة ، حيث يظهر المؤرخ العضوي مفسرا لسقطات و هِنات تاريخية سابقة ، تعتبر مفاصل رؤية جديدة للماضي والحاضر والمستقبل . وما كان للأدب العربي إلا أن يتبنى هذا الدور الجديد الذي يحضى به المؤرخ في الثقافة العالمية الحديثة ، وبهذا يكون كتاب " تاريخ الأدب العربي " للمستشرق الألماني " كارل بروكلمان" ، قد شرعن العبور الآمن بين التاريخ و الأدب . وعلى خطاه ، جاء كتاب الباحث اللبناني حنا الفاخوري حاملا العنوانَ نفسَه ـ أي تاريخ الأدب العربي ـ . وفي هذا الصدد ، يقول الكاتب في مقدمة الطبعة الثانية عشرة : " أما طريقتنا فهي قائمة على مزج التاريخ الثابت ، بالتحليل الواسع ، وتبويب الأدب بالنظر إلى فنونه العالمية . وبذلك يكون الفاخوري قد أسدى خدمة جليلة للمكتبة العربية ، وأغناها بثوابتَ و أصول معرفية حقيقية ؛ انطلاقا من العصر الجاهلي ، فالأموي مرورا بالعباسي إلى حدود عصر النهضة مع البارودي وجورجي زيدان .
أمن الممكن أن نطرح سؤالا عن جدوى هذه المغامرة ، التي أقدم عليها الفاخوري . فثقافة السؤال ذاهبة نحو تأصيل الأصول ، فمن دون الهوية الثقافية و التاريخية ، التي تؤسس لمبدإ التنوع ، كيف سيصير الأدب العربي مستقبلا ؟
في تاريخ الأدب العربي ثمة ظواهر أدبية ، تشي قدرة الشاعر الجاهلي على أن يكون مطبوعا بالشعر . فهو لا يجيل فيه النظر ، وإنما يخرج الشعر منساقا وراء سليقة لغوية موسيقية ، تماشيا و السيرورة القرآنية . بما هي قطعت الصلة بالحياة الوثنية ، كحدث تاريخي كان يعيشه الشاعر قبل بزوغ فجر الإسلام . ففضلا عن ذلك ، فجر الدكتور جابر عصفور ، في كتابه " غواية التراث " عن سلسلة " كتاب العربي " ، ينابيع التأمل التاريخي في هذه الظواهر الأدبية ، التي طرزت الأدب العربي ، حيث أكد أن المعلقات والمذهبات السبع ، التي كانت تعلق على أستار الكعبة ، لا تدرك مقاصدها الفنية والاجتماعية والتاريخية ، إلا في ارتباطها الجامد بالشرط التاريخي ، الذي أفرز لنا شعراء عظام ، استطاعوا أن يؤرخوا أحداثا ظلت موشومة في الذاكرة العربية على امتداد الزمن . فمن جهة أخرى ، كان السَّدى النغمي ، الذي يخيط لحمة كلام الوحي ، نابع من بلاغة أرقت البلاغيين . ومنه لا ضير أن نقول : إن الوحي تحدى موسيقية الأذن الجاهلية ؛ محققا إبدالا خطيرا في البناء الثقافي للإنسان العربي . فمقصدية الأدب أن تجعل الإنسان في بؤرة الحياة ، فاعلا في التاريخ ، قادرا على تجاوز الأخطاء ، متواصلا أبدا ؛ لذا فهو يعيش المد و الجزر في أرخبيلات معرفية عائمة .
فالأدب سواء كان أمويا أو عباسيا أو أندلسيا أو حتى أدبا معاصرا ، لن يفارق هذه الحياة التي اقتنع بها هذا الأديب أو هذا الشاعر. فعندما نعشق الحياة نذهب إلى السينما ، كجنس أدبي تصويري ، حسب جلال الحكماوي . خطان متوازيان . ففي صلب السينما ، التي هي عبارة عن مجازات و استعارات خارجة عن النص ، توجد بذرة حياة الأدب ، وإلى جانبها تنمو شجرة التاريخ كإطار يسيج هذه المعرفة . في كتاب " حديث الأربعاء " لطه حسين، أشار عميد الأدب العربي إلى حدث ظل راسخا في تاريخ الشعر و الشعراء ؛ فعمر بن أبي ربيعة عـُرف ، في الشعر الأموي ، بالغزل ؛ فانفتح شعره على خبايا أسرار حياة المرأة الحجازية . فبكثرة ما تغزل الشاعر بالمرأة ، وافتضح أمرها ، وانتهك حرماتها ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بسفك دمه ؛ احتراما لجسد المرأة الحجازية و حمايته من انتهاكات قد تخدش عفته و طهره بسوء . ففضلا على أنه حدث ذو ميسم ثقافي ؛ إلا أنه لا يدرك كنهه إلا في سياقه التاريخي الممتد عبر الزمن .
وأخيرا ، يبقى السؤال الملحاحُ معلقا ، هل يمكننا العيش من دون أدب ؟ أو بصيغة أخرى، أيستطيع المرء أن يمر يوم واحد من حياته ، دون سرد أو وصف أو حوار؟ و في ضوء المعرفة التاريخانية يكتمل صرح الوجود الفعلي للإنسان ، وبالتالي يستطيع أن يميز بين الوجود الثقافي و الوجود التاريخي . علاوة على ذلك ، فما من تغيير قد يمس الجوهر الإنساني مستقبلا ، إلا ويعرج على تينك القطبين الأسنيين في بناء الحاضر ، والتطلع من خلالهما إلى المستقبل .