عتبات الدراسة
ما علاقة الصور الشعرية بالرؤية ، والرؤيا في قصيدة ( يا رسول الله ) ، التي أنتجها المفكر الإسلامي الليبي عمرو النامي ؟ كيف يتم إدراج بعض الإيحاءات الإسلامية بين طيات هذا العمل ؟ ما الرابط بين الصور الشعرية ، والحالة النفسية للمبدع ، وأفكاره الوجودية ، وقضايا جيله من المنظور النفسي ؟ ما أهم مميزات البناء الفني لهذه الصور ؟ كيف يستغل الناظم أنواع التقابل ، والتكرار لبناء التشبيهات البلاغية ؟ هل يمكن رسم الحقل الدلالي لمفهوم ( الفيض ) ، ومفهوم ( الشوق ) الموظفين في هذا الإنتاج الأدبي ؟ ما أنواع الاستعارات ، التي يستعملها الشاعر ؟ ما علاقة الصور الرمزية بالانزياح ؟ ما أنواع العلاقات التركيبية ، التي تسيطر على أبيات القصيدة ؟
الصور والرؤى الشعرية في قصيدة ( يا رسول الله )
أولا ) الصور الشعرية :
يعتمد تشكيل هذه الصور في القصيدة على العلاقات التركيبية المتنوعة ، الموجودة بين البنى العميقة / المقدرة deep structures )) ، والبنى السطحية /
الظاهرة ( ( Surface Structures( 1 ) ، والدلالة ، ومرجعية هذا الإبداع الشعري ، ومقاصده . يتم إدراك الصور الشعرية بشكل كلي يساهم في تحديد جماليتها ، وطبيعتها الفنية ، وقضاياها المتنوعة ، التي يترجمها نسق الدوال ، والمدلولات المستعملة .
ترتكز الصور الشعرية عند عمرو النامي على عدة أدوات فنية متداخلة ، ومترابطة تستند إلى خبرات ذات طبيعة حسية ، ونفسية ، وخيالية تظهر بسيطة ، أو مركبة عند ارتباطها بدلالة القريض( 2 ) .
تمثل هذه الصور مجموعة من الخبرات الفنية الموضوعية ، التي تشكل أبيات القصيدة في إطارها السردي ، الذي يساعد الدلالات على توليد عدد من البنى ، والمثيرات المرافقة للخطاب الشعري . تتلاحم الأدوات الفنية لتشكيل هذه الصور ، حيث يرتكز العمل الأدبي على لغة شعرية poetic language ) ) تخلق فعالية كبيرة ، وجماليات باهرة تتعلق بالموقف الفني ، والاجتماعي .
تحدد الصور الشعرية سمات النسق الفني ، وطريقة الإنجاز بكل رؤاه وروافده ، وهو ما يجعلها تشكل جوهر هذه القصيدة ، وتاجها ، وآلية الابتكار ، والتجلي ، والرؤيا ، والأسلوب المجسد للروابط القائمة بين الشاعر ، والعالم ، والذات ، والموضوع . إنها تعبر عن فكر ، ووجدان الناظم بناء على علاقة المشابهة والمجاورة ، التي تجسد الأثر الفني ، والحدث الشعري الخلاق .
يتميز السرد الشعري poetic narrative ) ) الليبي المعاصر من خلال التصور ، والبنى ، والأدوات ، والصور المتنوعة ، التي تجعله يختلف عن السرود الأخرى الرائجة في البلاد ( السرد الروائي ، السرد القصصي ، السرد الحكائي ، السرد الخرافي / الأسطوري ، السرد الزجلي ، السرد المسرحي ... ) .
تملك الصور الموظفة في النصوص الشعرية الليبية المعاصرة بعض السمات الخاصة :
1 _ وجود تصورات ، وعلاقات جزئية ، وكلية بين الأدوات الفنية البانية لهذه الصور .
2 _ توظيف أشكال تصويرية ، وجوانب دلالية رائدة ذات مكونات تراثية وخيالية ، وأسطورية ...
3 _ تنامي البناء السردي الشعري باعتباره تشكيلا جماليا مستقلا ، وعالما وجدانيا ، لسانيا ، ورمزيا ، أو واقعيا متراكم الصور قد يقوم فيه الجانب الذاتي بتكرار الجانب الموضوعي .
4 _ إيثار الخبرة الحسية ، والنفسية في تكوين أنواع الصور بغية تجاوز الاستخدام المعجمي المألوف ، وبناء نشاط دلالي جديد يخص الصور الشعرية .
5 _ ارتباط الصور الشعرية بدلالات النص .
تمثل الصور الشعرية النقية ، والتقية جوهر قصيدة ( يا رسول الله ) ، التي نظمها عمرو النامي في ظروف خاصة ( 3 ) . تستند هذه الصور إلى جمهرة من العلامات المتينة ، التي تصنع تشكيلاتها ، وبناها ، وحالاتها اللسانية الخاضعة ( لنحو الشعر( poetic grammar ) ، ونسقه المتميز . تساهم هذه الصور في خلق عدة مظاهر من الإيحاء الشعري ، وهو ما يثري مجال السرد في الخطاب الشعري( 4 ) ، الذي يشكل القصيدة .
تجسد هذه الصور أسلوبا تعبيريا خاصا بالناظم يوظفه لتوضيح بعض الجوانب المبهمة ، التي لا يمكن تحديدها بالنسبة للمتلقي المهتم إلا عن طريق هذه الوسيلة فقط . لذلك فإن هذه الصور تمثل وسيطا أساسيا يساعد المبدع على عرض تجربته لكي يفهمها المتلقي ، ويؤولها بدقة وانتظام ، كما يظهر ذلك من خلال عدة مواقف ، وحالات تثير بعض :
1 _ الأحاسيس النفسية ، والقيم المتنوعة :
أهيمُ بالحب ، والشوق ، والمدح ، يمنعني الجلال والبهاء ، مكابدة العناء ، أنا عَيٌ ، يصرفني الحياء ، عودة الصبابة ، نار الشوق ، حبيب الله ، حزن شيبة ، التوجع ، ضيق / رخاء ، عام الحزن ، أسلم هائما ، حب رسول الله ، زعزعة النفس ، وفاء ، البِر ببني هاشم ، عناد وافتراء ، استبداد الجفاء ، تكذيب قريش للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، انتظار ، ضلال ، مباركة ، هواك ....
2 _ الصور الشعرية المختلفة :
إدراك الثناء ، سطوع النور والضياء ، الشمس المتجلية ، البدر الظاهر ، جلاء الفيض ، تغطية السناء للفيض ، الجلال المعجز ، الطواف حول النور ، الانبهار بروعة الضياء ، إجلاء المهابة ، اختلاج الفضاء ، تأجج لا يكف ، مثول النور للعيان ، نور الرسول ربيع لمكة ، وقوف الشعراء بباب الرسول ، استقامة البناء بفضل الرسول ، ضيق يوم الحشر ...
3 _ الأشياء المادية ، والأحياز المكانية :
الأرض ، السماء ، القرآن ، البسيطة ، الكواكب ، الفضاء ، بيوتهم ، غار حِراء ، كفك ، بالباب ، مكة ، شِعْب ، كتابا مخطوطا ، بدارهم ، لمسجدكَ ، الكون ، ناحية ...
4 _ الوقائع ، والأحداث المسرودة :
إجماع الأنبياء ، مدح الرسول المتعاقب ، فقد خاتم الأنبياء لأبيه ، رضاعة اليتيم ، السيادة في بني سعد ، مسغبة / رخاء في قريش ، تطهير الملائكة لقلب الرسول ، استمرار الشدائد في المنطقة ، وفاة الجد ، وكفالة العم ، طغيان قريش وصدهم ، محاولة قتل الرسول ، التعبد بغار حراء ، بشارة الوحي في الأربعين ، مؤازرة التقاة والأصفياء ، عدم الوهن والضعف ، جند المهاجرين والأنصار ، موت النبي ...
يتجاوز عمرو النامي عند وصفه لشخصية ، وأفعال ، وأعمال رسول ( صلى الله عليه وسلم ) المواقف ، والوقائع المعروفة في السيرة النبوية ، والتاريخ الإسلامي ، حيث يصبح نظمه أكثر صفاء ، وتجريدا نظرا لأنه يستغل أنواعا من الصور الشعرية ، كما تنهار أثناء هذا الوصف معالم المادة الطبيعية لتحل محلها علاقات جديدة مشروطة بالرؤية الذاتية للشاعر (5 (. يرتكز عمله هنا على نوع التركيب اللغوي ، والتجريد .
تبرز بعض النماذج المشكلة للصور الشعرية قوة عاطفة المبدع المتعلقة بحب الرسول الكريم ، والشوق إليه ، والرغبة الملحة في مدحه ، كما أنها تجسد العلاقات الموجودة بين عناصر هذه الصور ، مما يحدد المعاني المختلفة لأبيات القصيدة . فالصور تتضافر مع الكلمات المعجمية لتجسيد عاطفة الشاعر ، ولا يمكن للكلمات أن تقوم بمفردها بهذا الإنجاز .
تشكل الصور الشعرية إذن وحدات حسية ، متنوعة ، وبنى غنية تثيرها المواقف البارزة داخل القصيدة . فالنص يظهر ثريا من حيث الكم والكيف ، لأنه يرتكز على وصف شخصية رسول الله ، وبعض مواقفه ، وأعماله ، كما أن الصور تعتمد على جوانب إيحائية ، جزئية ، مستقلة ، ودلالات ذاتية موضوعية ، ومنفتحة تخلق الشكل العام للقصيدة .
يقسم عمرو النامي الصور الشعرية إلى عدة جوانب فرعية قريبة وبعيدة ، لكنها تظل متضافرة دلاليا لبناء رموز تتلاحم على مستوى الموضوع ، ونوع السرد . إنها توحد بين الأشياء المختلفة التي تسكن عالم الشاعر ، كما أنها تساعده على خلق عدة علاقات بين هذه الجوانب الفرعية القريبة ، والبعيدة لترجمة ما يدور بكيانه ، وأرقه المعرفي المرتبط بمدح الرسول ، حيث تبرز هذه الصور مشتعلة ، ونافذة عن طريق التجربة الشخصية للمبدع .
يجسد الناظم من خلال سرده الشعري الرقيق عمق معاناته في حب سيد الورى ، وعلو قدره ، وصدق رسالته . يصور كل هذه الحالات ، والمواقف ، والأفعال ، والأعمال الجليلة ببساطة ، ودقة كبيرة .
تنتمي الجمل الشعرية المشكلة لهذه القصيدة إلى حقل دلالي واسع ، متفرد ، وعريق دينيا نظرا لارتباطه بمجال (( المدح النبوي )) ، الذي يعانق سيرة سيد الورى ، المليئة بالصور الرائعة ، والعلامات المضيئة . إنها تجسد قمة الصفاء ، والصدق ، والأمانة ، والتوحيد ، والتحمل ، ومحاربة الضلال ، والعشرة الطيبة ، والإيثار ، والعمل الحسن في كل ميدان ...
يرتكز مدح عمرو النامي لرسول الله على صور متعددة تشكل نسق القصيدة ، من خلال اقترانها بالأسماء ، والأوصاف ، والنعوت ، والإيحاءات المشهورة ، التي تحدد الوقائع ، والأفعال ، والتصرفات ، والأحداث الزمنية المختلفة ، النابعة من بعض الدوافع ، التي تخلق وظائف شعرية (poetic functions ) مهمة نلخصها كالتالي :
1 _ علو قدر الرسول ، وسطوع نوره ، وظهور شمسه وبدره ، وجلاء الفيض والسناء من خلال ذلك ، ومباهاة الأرض للسماء ، وغبطتها بهذا الموضوع.
2 _ مبادرة الشاعر بمدح سيد الخلق ، وحيلولة الجلال والبهاء دون ذلك ، ومدح القرآن الكريم له ، وإجماع الأنبياء على ذلك ، وانعدام بيان الناظم في الاستهلال ، ومكابدته لأشد العناء .
3 _ جلال قدر الرسول ، وحياء الناظم ، وطوافه حول نوره ، وانبهاره بضوئه.
_ 4 الاستئذان من الرسول للشروع في مدحه ، وبلوغ الرجاء في ذلك عن طريق الإبداع الوفي .
5 _ إنتاج الناظم لروائع في الحب ، والشوق للرسول ، وانتشار حسنها ، وجلائها ، ومهابتها ، وعطرها في الكون ، وارتباطها بالدعاء الذائع ، واهتزاز الكواكب والسماء ، وانتفاض البسيطة ، واختلاج الفضاء من جراء ذلك .
6 _ الاستئذان ، والرجاء للدخول على الرسول الكريم ، والسلام عليه ، والعودة بالصبابة والشوق ، وانتشاء الروح ، وتأجج نار الشوق وانطفاؤها عند اللقاء .
7 _ نور النبي ماثل في القلب ، والشوق إليه ظاهر عند تلبية النداء ، وضرر التوجع ، والبكاء عند المبدع ،
_ 8 النبي هو رفيق الأنس ، والوحدة ، والهيام بحبه ، والذوبان شوقا إليه علاجه الحقيقي هو المدح ، وطلب الفيض منه ، والعطاء من كفيه ، كما أن فضله يجعل الشاعر لا يبالي بالضيق أو الرخاء .
9 _ ظهور نور الرسول بمكة ، وإضاءته لربيعها .
_ 10الله يقر عين شيبة بعد الحزن .
11 _ فقد الرسول لأبيه .
12 _ علو مقامه بين أهله وأسرته ، وسيادته على بني سعد ، وانتشار الرخاء بينهم ، وشفاء الملائكة لفؤاده ، وتطهيره من كل سوء .
13 _ رجوعه لحضن أمه ، وعيشه يتيما ، واستمرار الشدائد والابتلاء .
14 _ موت جده ، ومعرفته لحقيقة الموت ، وتربيته من طرف عمه . وكفله لعلي ابن عمه ، وبره ببني هاشم .
15 _ عيشه بمكة ، وزواجه بخديجة ، وتربيتها لأبنائه .
16 _ ضلال قريش ، ومحاولة قتل النبي ، وتعبده ، وخلوته بغار حراء .
17 _ ظهور نور النبي في سن الأربعين ، وانكشاف الغطاء ، وفيض الوحي ، وتمام الاختيار ، وتلقينه من طرف جبريل ، وتلاوته القرآن على المقربين .
18_ تكذيب طغاة قريش للوحي والكتاب ، وصدهم عن أمر الله ، ومؤازرة التقاة له دون أي وهن ، أو وجل .
19 _ قوة عزيمة الرسول ، واستمراره في تبليغ الأمر الرباني ، وتصديق بعض الأهل لرسالته ، وحفظ الخالق له من كل أذى ،
20 _ إفحام المشركين من خلال علامات الإسراء والمعراج ، ومحاولة قتل الرسول ، وإفشال القدرة الإلهية لذلك .
21 _ ضياع هجاء الرسول ، وانتصاره ، ونجاته من أعدائه ، ووقوف الأنصار والمهاجرين إلى جانبه ، واستقباله في المدينة المنورة ، وبناء مسجد قباء .
22 _ نصر الله لدينه ، وارتفاع صوت الحق مناديا للصلوات الخمس من طرف بلال بن رباح ، وتزايد عدد الجنود من الأنصار والمهاجرين .
23 _ علو قدر نبي الله ، وكثرة شعراء المدح في كل الأزمنة ، والأجيال .
24 _ عمرو النامي يشكو هواه ، وضيق نفسيته إلى الرسول ، ويرجو أن تغمره البشاشة ، والهناء .
25 _ مجيء الناظم من ديار بعيدة طلبا للمدح ، والراحة ، والشفاء ، والإفراج ، والفوز ...
_ 26 معاونة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للشاعر عند ضيق الحشر ، وشمله بعنايته ووداده ، وجوده ، وشفاعته . فنداء المصطفى فيض ، ونبع سخي لا ينضب .
إن هذه الوظائف الشعرية ( ( poetic functions المتنوعة ، التي تؤثث قصيدة ( يا رسول الله ) تجعل عمرو النامي يتخذ لنفسه مركزا سرديا ( narrative ) يتجلى من خلال التعبير عن حبه ، وشوقه ، ومعاناته ، واجتهاده في مدح الرسول ، وكثرة الصعاب ، وإشعاع هيبة ، وجلال سيد المرسلين ، ورفعة قدره ، وعظمة سيرته ، وتميز معجزاته . لذلك فإن الصور المتقاربة تجسد بؤرة سردية في النص الشعري ( 6 ) ، كما أن المبدع يستغل أنواعا أخرى من الصور ، التي تبتعد عن الحقل الدلالي الخاص بمدح سيد الخلق ، مثل ( ضلال كفار قريش ، الأذى ، القتل ، الشدائد ، فقد الأب ، اليتم ، الزواج من خديجة ، تبليغ الرسالة ، جند الأنصار والمهاجرين ...) . إنها تمثل الوجه المقابل ، والموازي لهذا المدح بكل رموزه ، وهو ما يمنح الصور الشعرية اكتمالا ، ونضجا .
تجسد هذه الصور الشعرية المتنوعة ، التي ترتبط بالوظائف الشعرية ( poetic functions ) السابقة حالة دلالية بارزة عند الناظم ، لأنها تساهم في احتفاظه بتجلياته الذاتية بشكل متماسك ، كما أنها تقربه من طريقة سرد الحكاية ؛ القائم على تصور مشهدي يظهر داخل القصيدة عن طريق المسار الذي يرسمه الشاعر لحبه ، وشوقه للرسول ، ورغبته الملحة في مدحه ، والمعاناة ، والحياء ، والهيبة ، والجلال ، الذي يحول دون ذلك . يوظف السارد هنا أنواعا من الصور لتحديد وجهة النص الشعري ، وإبراز لبؤرة focus) ) هذين الأسلوبين ( 7) ، حيث يقترب عمله الحامل لصفات ذاتية ، تستغل أدوات موضوعية من المنطق ، والواقع.
تحدد هذه الصور عدة جوانب مهمة :
أ _ سمات وجود الشاعر ، وعالمه ، ودلالة مدح خير البرية ، ومقاصده .
ب _ طريقة بناء (( كون )) جديد لمدح الرسول ، وجوهره ، وإيقاعه ، وبراءته ، ومصيره .
ج _ الجانب الوضعي المتعلق بنسق القريض ، والكينونة ، والمعرفة ، والإحساس عن طريق الصور التلقائية والعفوية .
تمثل هذه الصور الشعرية مفتاحا للخطة السردية ، لأنها تقوم بسرد كل ما يتعلق بشخصية المتكلم ( الشاعر ) ، والمخاطب ( رسول الله ) ، كما أنها تفتح النص على عدة وحدات ، وتراكيب تبني السياق ، والمنطق الأصلي للعمل بأكمله ، فلا يمكن فهم النص الشعري إلا من خلا ل استعمالات هذه الصور :
أهمُ بمدح شخصك يا حبيبا * فيمنعني جلالك والبهاء
أحوم حول ذاك النور جهدي * فيبهرني بروعته الضياء
وأبلغ منه ما أرجو وتأتي * روائع فيك يبدعها الوفاء
*****************************************
أتأذن يا رسول الله إني * بباب الشوق يحدوني رجاء
تحن إلى الحقيقة في هيام * ويشركك الهيام بها حراء
تبيت بخلوة في الغار تدعو * وعند الله شوقك والدعاء
********************************************
نبي الله قدرك فوق قولي * بما لا يستطاع له اجتلاء
وشأنك لا يحيط به مقال * وهذا النزر ليس به وفاء
ببابك حوم الشعراء قبلي * فجئت ولي على الأثر اقتفاء
*********************************************
نبي الله إني جئت أشكو * إليك وكل أنفاسي رجاء
نبي الله ضقت هنا وإني * ليرهقني بذا الحبس العناء
شكوت إليك من ضنك وضيق * لتغمرني البشاشة والهناء
******************************************
تتنوع الصور البيانية في الأبيات السابقة : الجلال والبهاء يمنعان الشاعر من المدح ، الناظم يحوم حول نور الرسول ، روعة الضياء تبهره ، بلوغه الغاية والرجاء عن طريق الإتيان بالروائع ، الوفاء يبدع المدح ، وقوف الشاعر بباب الشوق ، حنين الرسول الهائم إلى الحقيقة ، غار حراء يشارك الرسول في الهيام ، ارتفاع قدر ، وعظمة النبي فوق قول الشاعر ، الشعراء القدماء يحومون حول باب النبي ، وعمرو النامي يقتفي أثرهم ، مجيء الشاعر إلى النبي للشكوى من الحبس ، والضنك ، والضيق ، والبشاشة والهناء يغمرانه...
يوظف عمرو النامي بعض الصيغ ، والمفردات الشعرية العربية ضمن مجال دلالي محدد يهدف من ورائه إلى إثبات الذات ، والوصول إلى مدح الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) ، الذي يحول دونه ارتفاع قدر ، وجلال ، وبهاء شخصية النبي المختار، وقلة شأن الناظم ، وحياؤه ، وتصارع عواطفه . يقوم المبدع هنا بتحديد حركة هذه الصيغ ، والمفردات الشعرية ، وضبط دلالاتها الخاصة بالاعتماد على جانبين مختلفين ، لكنهما يتماسكان بقوة ضمن البناء الكلي للقصيدة :
1 _ اللجوء إلى المعاني الصريحة المباشرة : تشكل شخصية الشاعر ، وموضوع مدح الرسول مصدرا مهما في تشكيل صور القصيدة بأكملها .
2 _ الارتكاز على الإيحاءات ، والمحسوسات ، والمجردات : يخلق
التشكيل الحسي ، والتجريدي أقوى الصور عند الناظم نظرا لاعتمادها على جمل اسمية قوية ، تعد أساسية في بلورة قيم التناقض الكبير ، الحاصل بين الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، والمشركين ، حيث ترتبط الصور الإيجابية بشخصية سيد الورى ، أما الصور السلبية فتعانق أفعال أهل الشرك ، والطغيان .
تعتمد هذه الصور المتنوعة على جوانب جزئية منفصلة تنتقل بين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، ومشركي قريش ؛ أي بين الإثبات ، والنفي من خلال بعض الوحدات اللغوية :
أراد القوم قتلك ، ضل قوم * أرادوا قتل سيدهم وساءوا
حرصت على الهدى منهم وصدوا * وكان البغي منهم والبداء
فشاهت تلك أشباح وضلت * أضر بها اللجاجة والعداء
***********************************************
تلتحم الصور الذاتية هنا بالتصور الذهني للشاعر، فتصبح ذات قوة وجلاء نظرا لاعتمادها على المرجع ، والسياق المرتبطين بالواقع النفسي ، والحيز المكاني للنص الشعري .
يعانق واقع عمرو النامي في هذه القصيدة حياته الواعية ، واللاواعية . إنه واقع نفسي مفعم بالصور ، والتخيلات ، والرغبات ، والأشواق التي تتصل بمدح سيد الخلق ، كما تبرز ذلك أبيات القصيدة التي تقوم على أنواع غنية ، ومؤثرة من الأفكار ، والأماني ، والقيم النبيلة ، والتحويلات(transformations ) اللسانية الرصينة .
يعتمد القول الشعري عند المبدع على سمات خاصة تعد مهمة في تشكيل الصور المنطقية والدلالية ، إذ أن التناقض الحاصل بين الذات ، والواقع يمثل محورا أساسيا في بناء الصور الجزئية ، التي تعبر عن الالتزام الديني ، وحب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفرض الذات كدليل على تماسك العقيدة ، والنفس ، والبيئة الاجتماعية ، رغم وجود صور من الطغيان ، والشرك الاستثنائي عند بعض زعماء قريش . إن إعراب الشاعر عن حبه الشديد للرسول الكريم ، وشوقه إلى مدحه ، وحيائه ، ومعاناته في ذلك قد فرض عليه استعمال الملفوظات clauses)) الذاتية ، والأشكال اللغوية المنطقية ، التي تتحكم في علاقات الصور بهذه الملفوظات .
تتميز هذه الصور بالتقارب ، والتلاحم ، والاتصال ، والنماء ، والثراء الفني والفكري ، إذ يتم تحريكها ، واستغلالها عن طريق الملفوظات الذاتية ، وهو ما يجعلها تتلاحم لبناء الدلالات المتنوعة للقصيدة .
يتحكم في الصور الشعرية المشكلة لقصيدة ( يا رسول الله ) عاملان أساسيان :
1 _ اختلاف بعض العلاقات بين الصور المستعملة .
2 _ اعتماد دلالاتها على إيحاءات أساسية .
يتأثر المبدع بواقعه المتغير الذي يشكل حقيقة ، ودلالات الصور الشعرية المشكلة للقصيدة ، وهو ما يجعله لا يلتزم دائما ببناء نصي محدد . إنه يعتمد بالدرجة الأولى على انفعالاته ومشاعره المتعلقة بحب الرسول ، والشوق إلى مدحه . يستعمل من أجل تحقيق ذلك الملفوظات اللسانية( linguistic clauses )، التي ترتكز على أقسام الكلام العربي ، وبعض الأحداث ، والقيم العاطفية ، والاجتماعية ، التي تسعفه في عرض مناجاته الداخلية بشكل متحرر .
تعبر العلاقات البلاغية الموجودة بين الجمل الشعرية ، عن واقع عمرو النامي النفسي ، والديني ، اللذين يرتبطان بحيز زمكاني يحدد خصائص تجربته الشعرية ، وعلاقاتها المحسوسة ، والمعنوية ( 8 ) بشكل دقيق .
تعمل الأحداث ، والوقائع ، والصفات ، والنعوت التي تحدد الصور داخل القصيدة المدروسة على شكل كوحدات دلالية ، منطقية ، متماسكة ، مما يساعد المتلقي المهتم ( 9 ) على تأويلها بشكل سليم ، كما أن العلاقات بين الجمل الشعرية تتخذ شكلا صوريا ، يغذيه الحدس ، والخيال الشعري .
يخلق الناظم مسافات بين كلمات المعجم الشعري( poetic lexicon ) ، وأبعادها الرمزية ، ومعانيها بغية تحقيق شاعرية( poetry ) متكاملة ، وخيال مثير. يعتمد تأويل المتلقي العربي المهتم على ترابط صور المعجم الشعري عند الناظم ، إذ أنها تنمو ، وتتطور تبعا لحركة النص ، وتراكيبه المسبوكة ( cohesion ) ، ودلالاته المحبوكة coherence) ) .
يوظف الشاعر في مدح الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تراثا تاريخيا ، ودلاليا متنوعا ، كما أنه يبرز لنا تمسكه بدينه ، واستقامته ، وصفاء أخلاقه . إن حب مدح النبي المصطفى ، والشوق إليه ، والمعاناة في ذلك ، واتباع طريق السلف الصالح في هذا المجال يجعل من الناظم مؤمنا قويا ، كما أنه ينتج مشاعر صادقة ، وصافية ، وتصورا ذهنيا راقيا يظهر من خلال الصور المتلاحمة .
يتم تشكيل الصور الشعرية بالاعتماد على معجم متنوع يستغله الشاعر للتعبير عن عدة مواقف :
أ _ الموقف النفسي : يوظف من خلاله المبدع عدة مؤثرات مرحلية ، ومتدرجة بشكل متفاوت ، تضغط على الصور الشعرية ، فتصير أقواله خاضعة لوعيه ( conscious) المسيطر على بناء النص ( 10 ) ، وتنظيمه .
ب _ الموقف الذاتي : يرتكز على الخبرات الذاتية لعمرو النامي ، حيث يختار من ذاكرته الصور ، والمشاعر ، والأحداث الفعالة ، والعميقة .
ج _ الموقف من العالم والعلاقة بالمرجع : يبرز فلسفة الناظم ، وفكره ، ورؤيته الفنية ، وسياقاته ، وإحالاته ...
تبرز لنا دراسة الصور المتنوعة المشكلة لقصيدة ( يا رسول الله ) تفرد هذا العمل ببعض السمات الخاصة :
1 _ خلق الصور الشعرية لدلالات متصلة ومنفصلة ، ومعان بنفس الشاكلة .
2 _ تحكم الجانب اللغوي والذهني في بناء الأقوال ، والصور الجزئية والكلية ، المتضافرة .
3 _ شيوع التضمين والتجاذب (gravitation) ( 11 ) مع القرآن الكريم ، والسيرة النبوية ، والتاريخ الإسلامي ، والتراث الثقافي ، والحضاري .
4 _ وجود جانب علمي تقابلي ( contrastive ) بين سيرة الرسول ، وأفعال المشركين ، وطغاة قريش .
5 _ توفر الصور الشعرية على جانب حسي ، ونفسي ، وقيم دلالية واضحة ، واعتماد العلاقات على الحدس ، والشعور .
6 _ بناء الناظم لمعجم شعري( poetic lexicon ) تخلق كلماته زخما دينيا ، وصوفيا ، وتراثيا عميما ( فيض ، نور
، المصطفى ، جلال ، بهاء ، الشوق ، بر ، إسراء / معراج ، رضاعة ، خلوة ، غار حراء ، الوحي ، النبوة ، القرآن ، قريش ، جدك / عمك ، بني سعد ، بني هاشم ، خديجة ، أبو بكر الصدِيق ، اليتم ، أمك ، مكة ، ملائكة ، الموت ، عام الحزن ، الرحمة ، المهاجرون والأنصار ، الجيش ، هجاء ، الحشر ...).
_ 7 وجود إحالات (references ) داخلية ، وخارجية متنوعة في النص ، وموازنة الشاعر أحيانا بين الجانب المحسوس ، والجانب المجرد .
8 _ تنوع العلاقات البلاغية داخل القصيدة بين التشبيه ، والاستعارة .
9 _ محاولة المزج بين الذات والموضوع .
10 _ سيطرة ضمير المتكلم ( أنا / تاء الفاعل ) ، والمخاطب( أنتَ ، التاء + كاف الخطاب ) لوصف نفسية الشاعر ، وحب الرسول ، ومدحه ، والشوق إليه ، وتسطير جوانب مهمة من سيرته الطيبة ، وبيئته الاجتماعية ، والتاريخية .
11 _ معانقة الصور الشعرية للأصوات المتعددة ( poly phony ) ، وتلاحمها معها ( الشاعر / المتكلم ، والسارد ، الرسول / المخاطب ، والممدوح ، قريش ، بنو هاشم ، بنو سعد ، قومك ، أهلك ....، ) ، كما نجد ضمير الغائب مفردا ، وجمعا ( هو / هم ...) .
12 _ استعمال الشاعر للغة مركزة ، ومكثفة تبعا لطبيعة الصور المستخدمة .
إن دراسة الصور الشعرية في قصيدة ( يا رسول الله ) تساعدنا على تحديد الأفكار والمعاني التي وظفها عمرو النامي لبناء عمله ، حيث إنها ترسم آفاق مخيلته ، وعلاقة الذات بالموضوع ، ومصدر هذه الصور التي تعتمد على عنصرين مهمين :
1 _ خيال الشاعر ومؤثراته .
2 _ واقعه الذهني ، والحسي ، ومؤثراتهما .
تحدد لنا هذه الصور الشعرية إذن شخصية الناظم ، ورؤيته الإبداعية ، وأنواع التجاذب (gravitation ) مع التراث ، والواقع النفسي ، والعقلي ، والتاريخ الإسلامي ، والسيرة النبوية ، وبعض مظاهر الشريعة الإسلامية ...
تتميز هذه الصور بقوة عناصرها ، التي ترسم جوانب مهمة من تجربة عمرو النامي ، كما أنها تقوم بتفعيل واقع الشاعر ، وسيرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن طريق الخيال ، والتجديد ، والتأثير ، مما يحول المدح إلى وجود حقيقي ، مشرق ، وخلاق ، وآسر ...
تبرز خصائص هذا العمل المدروس عن طريق :
أ _ التسلسل ، والربط المنطقي ، والعناصر ، والعلاقات ، والتلاحق ، واللغة ، والأسلوب ، والوجوه البلاغية الواضحة .
ب _ السبك ( cohesion ) التركيبي ، والحبك coherence ) ) الدلالي عند حدوث التبادل بين الجزء ، والكل ( 12 )
ج _ التجديد والابتكار : يساعد هذا العمل على تحديد أحاسيس الشاعر ، وأسلوبه ، وعصره .
د _ التكثيف والإيحاء : تعميق الأفكار والمقاصد ...
ه _ التمثيل الحسي للمعاني .
ثانيا ) علاقة الصور الشعرية بالرؤية والرؤيا
تعانق الرؤيا الحلم ، واللاوعي ، والخيال ، والعين ، والقلب ، كما أنها تمثل جسرا يربط بين الذات ، والموضوع متجاوزة بذلك العقل ، والحواس . أما الرؤية فتعتمد على الحواس المدركة للعالم .
تقدم الرؤية الشعرية أنواعا من الوصف ، والرصف لأمور الطبيعة ، والواقع اليومي ، وترتيب العالم ، والأحداث ، والمواقف بالاعتماد على الحواس .
أما الرؤيا فهي تجربة باطنية ، فردية ، وشخصية يوظفها كل شاعر من خلال واقعه ، ووجوده الإنساني ، الذي يبتعد عن الوهم .
ترتبط الرؤيا الشعرية عند عمرو النامي بالصور المشكلة لقصيدة ( يا رسول الله ) ، إذ يتم تقديم هذه الصور المتمايزة داخل بوتقة تتعلق بمدح خاتم الأنبياء ، فيلتحم فيها الوعي باللاوعي . تقدم رؤيا الناظم صورا شاملة تعد محورية في بناء العمل بأكمله ، لأنها تلامس التجلي الإبداعي الحقيقي . تساهم الصور الشعرية الموظفة في القصيدة الشاعر في بلورة رؤياه الواعية ، ومنحها شاعرية أصيلة ، ووجودا إبداعيا عن طريق اللغة المشكلة للعمل . تبرز الحالات النفسية المرتبطة بمشاعر المبدع ، ومعاناته في الحب ، والشوق ، والرغبة الملحة في مدح الرسول أجمل رؤيا شعرية ، تخضع لهذه المؤثرات بإرادة غير واعية .
إن الرؤيا الشعرية الموظفة في القصيدة قد جعلت عمر النامي يتجاوز واقعه أثناء مدح الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، فهو ( يحوم حول نور الرسول ، يخاطبه مباشرة بشأن مشاعره ، يطلب الإذن من الرسول المتوفى للشروع في مدحه ، يقتفي أثر الشعراء للوقوف بباب دار السنة والكتاب ، يجيء إلى النبي من أجل الشكوى ، يرجو معاونته يوم الحشر ...) ، وهو ما يجعل عمله ميتافيزيقيا من خلال لغته ، وتفكيره ، وأسلوبه . تؤدي رؤيا الناظم هنا إلى تجديد الصور الشعرية القديمة المعروفة عند بعض أنداده .
تتميز الرؤيا الشعرية هنا بالتماسك ، والتكاثف ، والرمز ، والقيم الجميلة ، والدلالات المرصوصة ، والشاملة ، والانفتاح ، والمفعول الفني الكبير ، والهزة الجمالية عند المتلقي المهتم ، الذي يعانق القصيدة بأكملها .
ترتبط الصورة الشعرية عند بعض المبدعين الليبيين المعاصرين بالرمز والأسطورة ، واللغة الجديدة المبهمة ، والمجردة ، مما يجعل نظام القريض لديهم عبارة عن رؤيا تتجاوز المألوف ، والقديم للتعبير عن خفايا الأشياء ، والقلق ، والكيان ، والعالم ، وبساطة الدوال والمدلولات ، والتصوير العمودي ، وتقصي الكون الشعري ( poetic universe ) ، حيث تتضافر الصورة مع الرؤيا لبناء عالم حقيقي يساعد الشاعر على تقديم مضامين راقية ، وأدوات فنية جميلة . تقودها الصور الشعرية .
يحاول عمرو النامي تجاوز استعمالات الصور التقليدية المرئية ، التي تعودت عليها العين لينسج دلالات ترتبط بصور جديدة : فالحب والشوق المعششان بين ثنايا روائع الشاعر المتعلقة بمدح الرسول الكريم يجعلانها تتسم بالمهابة ، والإشراق ، مما ينتشر عطرها في الأرجاء ، فتهتز الكواكب ، والسماء ، وتنتفض الأرض ، ويختلج الفضاء من جراء تناسق هذا العمل الشعري العظيم . إنها ألفاظ تصويرية جديدة تبتعد عن بناء أية صورة بالمعنى التقليدي .
تتسم هذه القصيدة ببعض التجديد الفني ، والابتكار في المضمون ، وهو ما يجعل الشاعر يبدع أحسن مما كان ، حيث يقدم من خلال مدحه للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أشياء جديدة ، ورؤى ، وتاريخا ، وسيرة عطرة ، ومساحات واسعة ، وأنواعا من التجاذب( GRAVITATION ) ، كما أنه يستغل بعض تقنيات القريض المعاصر ، التي تتجاوز أساليب القريض العربي القديم .
يوظف الناظم في هذه القصيدة رؤيا شعرية تترجم تجربته الخاصة ، وقيما جميلة ترتبط بوجوده ، وسيرة سيد الأنبياء ، وحبه ، وشوقه ، وحيائه ، وهواجسه ، ومعاناته ، واقتفائه لأثر الشعراء الذين يقفون بباب الرسول . إنها رؤيا تعبر عن الكشف ، والخلق ، والعلاقات الجديدة بين الأشياء ، كما أنها تضيء جوهر الوجود ، والعقيدة ، وأسئلتهما الحارقة ، ومعضلات الكيان ، والفكر ، والقضايا الروحية ، ومستقبل (( الإنسان المسلم )) .
يصور الشاعر قوة الإرادة ، التي انتصرت على شرك قريش ، وأهل الطغيان ، وأصحاب الحبائل ، ومدبري موضوعات القتل ، كما يجسد جوانب مشرقة من سيرة سيد الخلق في حمل الرسالة ، والصبر ، واليتم ، والرضاعة في بني سعد ، وتنقية الملائكة لقلبه ، وتربيته من طرف جده ، ثم عمه ، وكفالته لعلي ، ومسامحته لبني هاشم ، والبر بهم ، والتجارة في رحلة الشتاء والصيف ، والزواج من خديجة ، ومساندة الأنصار والمهاجرين للرسول . يقدم المبدع أيضا صورة صادقة لحبه تجسد معاناته في مدح المصطفى . يقول :
نبي الله إني جئت أشكو * إليك كل أنفاسي رجاء
نبي الله ضقت هنا وإني * ليرهقني بذا الحبس العناء
شكوت إليك من ضنك وضيق * لتغمرني البشاشة والهناء
رسول الله جئتك من بعيد * يرافقني مديحك والثناء
يشكو الشاعر هنا لنبي الله كل ما يدور في نفسه ، فيعبر عن ضيقه ، وإرهاقه ، وحبسه ، وعنائه ، وصعوبة عيشه ، وبحثه عن الفرح ، والاستقرار ، وقطعه للمسافات البعيدة بغية الوصول إلى حمى خاتم الأنبياء ، حاملا بين جوانحه كما فياضا من المدح .
تحرك بعض القيم المجردة ، والكلمات المعجمية المحسوسة الموظفة في القصيدة نفسية الشاعر ، وعقيدته الدينية القوية ، وجوهر إشعاعه الميتافيزيقي النابع من تجربته الشخصية ، التي تترجمها عدة صور واضحة ، وجميلة .
إن الدفق الحسي المرهف الذي يعرضه عمرو النامي على المتلقي المهتم بهذا العمل يهز كيانه ، ويجعله يربط بين أجزاء المعنى ، الكامنة خلف الصور الشعرية بغية تحديد علاقة المسلم المعاصر بنبيه ، وحياته الدينية ، ومحيطه ، وتصرفاته ، ومعاملاته المتنوعة .
يبث الشاعر قصيدته إلى المتلقي المهتم ، الذي يتذوق الشعر ، ويربط بين الصور الموظفة ، ويقدر المسافات بينه ، وبين سيرة المصطفى حتى يستطيع فهم دلالات ، ومقاصد هذا المدح . تترجم الصور الشعرية حب الناظم ، وشوقه ، ورغبته الملحة في المدح ، ومعاناته في ذلك ، كما أنها تفجر مشاعره ، وترسم ذاته ، ووجوده ، وعقيدته ، وهو ما يحدد لنا عمق إيمانه ، وصفاء ممارسته الدينية .
يعتمد المبدع على سيرة النبي الكريم ، وتاريخ الإسلام ، وشريعته ، والتجاذب
النصي لبناء أشكال ، ومضامين قصيدته ، وإثراء رؤياه الشعرية ، وصوره المرتبطة بأحداث الحياة الإسلامية . يتم توظيف بعض الصور لإبراز تماسك عقيدة الناظم ، والتحامه بالرسول ، و (( فيضه )) ، الذي يمنح الأمة الإسلامية الخير ، والنماء في كل الربوع والعصور ، حيث يرسم لنا المعجم الشعري( poetic lexicon) صورا أصيلة تعبر عن تجربة المبدع ، المؤمن ، القوي ، المقتدي بخير الأنام ، والخاضع للقضاء والقدر ، والمنتمي لأمته ، والمعترف بعظمة نبيه .
يمثل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه القصيدة عدة رموز مترابطة ( علو القدر ، الإشراق ، البهاء ، التجلي ، الانتقاء ، الفخر ، الحب ، الإجماع ، الجلال ، الفيض ، الشوق ، الشفاء ، العطاء ، الرخاء ، الطهارة ، الأنس ، الإيمان ، الصداقة ، الكفالة ، الصبر ، التربية الحسنة ، البر ، الزوج الوفي ، الأمانة ، التعاون ، البشرى ، التبليغ ، التقوى ، الحماية ، العزيمة ، الحسم ، الهداية ، الحرص ، الثبات ، الشجاعة ، تنفيذ الرسالة الربانية ، قوة الشخصية ( 13) ، الهداية ، حسن الجيرة ، الكرم ، الفضل ، الإغاثة ، الفرج ، الفوز ، المعاونة ... ) .
يصور عمرو النامي عظمة شخصية خاتم المرسلين باستعمال كلمات معجمية شاملة تبرز مدى الحب ، والالتحام بسيرته العطرة ، وفيضه على الملأ من كل الجوانب ، وعلى كل الأصعدة ، إذ يعم خيره الأمة ، والتابعين في كل الأزمنة ، وهو ما يقوي إيمان الناظم ، ويرسخ عقيدته ، ويعمق تجربته ، ويفتح له باب الأمل لمتابعة رحلة الحياة الدنيا عن طريق العمل الصالح ، الذي يحقق البعث الحسن ، والجزاء الجيد . لذلك فإن المبدع يربط كلمة ( الفيض ) بطريقة معجمية محورية تلتحم بحقل دلالي واسع ( 14) ، تشكله مصطلحات مثل : الأنوار ، الرسول ، الأشواق ، الوحي ، النبوة ، الندى ، كما يبرز ذلك من خلال الرسم التالي :