إن ما خلفته الحضارات الغابرة من فنون مختلفة انطلاقا من الآنية الفخارية وصولا إلى الشواهد المعمارية التي مازالت تزامننا حتى الآن يمثل في جوهره حلقة من حلقات تطور الإنسانية منذ عصر المغارات وما قبله إلى يومنا هذا وقد وقع التدليل على هذه الفترات بمجموع اللقى المتناثرة هنا وهناك ثم جاءت النصوص بعد ذلك لتصف الإبداعات وتؤرخ لها وقد احتجنا العودة إلى هذه النصوص لما تمثله من ثقل معرفي ـ معلوماتي في غياب اللقى الأثرية أولا أما ثانيا فنحتاج النص المكتوب لكي نشكل تاريخ البشرية اجتماعا، صناعة فحضارة ومن ضمن هذه النصوص كتب التاريخ ، نصوص الملاحم والأساطير التي كتبت بالمحاولات الأولى للرسم والكتابة كالمسمارية التي خلفت لنا ملحمة جلجامش، الهيروغليفية المصرية المرسومة على جدران المعابد أو على ورق البردى وهاهو الشعر العربي إلى جانب جماليته وتدوينه لنمط حياة العرب خلف لنا نصوصا تعد وصفا دقيقا للمعالم الفنية القائمة من ذلك وصف التحف فخارية كانت أو زجاجية أوستائر قصور أو وصفا لخيام العرب الرحل أو خيام الأمراء.
فهذا أبو نواس يتفنن في وصف الخمرة والخمار والجارية ولكنه لا يبخل علينا بوصف الآنية التي يسقي فيها خمرته وما رسم عليها من صورالفوارس وخيولهم إذ يقول :
أغمام ما يدريك ما أفعالنـــا
والخيل تحت النقـع كالأشبــاح
تطفو وترسب في الدماء كأنها
صور الفوارس في كؤوس الراح
كما تنوعـت هذه الرسـوم لنرى صـورا لأباطـرة وملوك الفـرس ونحـن نقرأ أبيـات أبي نـواس :
بنينا على كسرى سماء مدامـــة
جوانبها محفوفة بنجـــــــوم
أو عند قولــــــه :
تـــزوج الخمــر من المــاء فـــــي
طاسات تبر خمرها يفهــــق
منطقـــات بتصاويــــــــــــر لا
تسمـــع للداعي ولا تنطـــق
علـــــى تماثــيل بــــنى بابـــك
مخنفر مــا بينهـــم خنــدق
في هذه الأبيات يصف شاعرنا التصاوير التي تحتوي على تماثيل بني بابك شاهدا بذلك على اتقان الصنعة والإبداع ومعبرا عن ثبات الصورة رغم نطق بعض التحف كالكأس الذي تحدث عنه سديد الدين الشيباني في وسطها صورة طائر على قبة مخرمة إذا وضع الماء في الكأس دار وصفر بحيطة محركة ومن وقف بإزائه حكم عليه بالشرب فإذا شرب وترك شيئا صفر الطائر ولاينقطع صفيره إلا إذا لم يبق في الكأس شيء (1).
أنا طائــر فــي هيئــة الزر زور
مستحسن التكوين والتصــوير
فالشرب على نغمي سلاف مدامـــــة
صرفا تنير حنادس الديجــور
صفراء تلمع في الكـــؤوس كأنهـــا
نار الكليم بدت بأعلى الطــور
وإذا تخلف مــــن شرابـــك درهم
في الكأس نم به عليك صفيري
وعن الأقداح وكؤوس الخمر ذات الصور البديعة للحيوانات كالأسد يقول ابن المعتز:
بدا والصبح تحت الليل بــــارد
كطرف أبلق مرخى الجـــــلال
بكأس من زجاج فيه أســـــد
فرائسهن ألباب الرجـــــــال
كما تعرض المجد بن قلاقس إلى حياة الملوك وقصورهم فهذا كسرى انوشروان في ايوانه:
دارت زجاجتها وفـــــي جنباتهــا
كسرى انوشروان في إيوانـــــه
وهذا القيصر في قصره تصوره يد الفنان على زجاجة خمر يقول عنها ابن قلاقس :
وزجاجة حياك منهـــا قيصـــر
وكأنما هو في جــــوانب قصـــــره
ما ألبسته الراح ثوبــــا مذهبــا
إلا وقلـــــــده الـــحباب بـــدره
كما وصلت الحالة بابن سناء الملك أن يتصور نفسه موضوع رسم على أحد هذه الكؤوس إذ قال :
فيا ليت أني مثل كسرى مصــــور
فليس يزال الدهر في يده كأس
أو في حديثه عن سلطانهم :
منــت عليك ولاكمـــــا
منت على أشلاء كســـــــرى
الحلـــق لمـــا عاش قد
سجـدوا لـه طوعـا وقســــرا
والكــل لما مات قـــــد
سجدوا له في الكأس شكـــــرا
ونظرا لأن العرب قد أولوا اهتماما عظيما بالحمامات ولنا في رحلة ابن جبير وابن بطوطة خير مثال إذ أورد كلاهما العديد منها وما تمتاز به من أحواض وزينة وزخرفا عجيبا حتى أن حيطان الحمامات زينوها بالصور البديعة فقد وقف أحد الشعراء ليصف صوره بحمام الشطارة بإشبيلية حيث قال :
ودميــة مرمـر تزهـو بجيــد
تناهــى في التــورد والبيــــــاض
لها ولد ولم تعرف حليــــــلا
ولا ألمت بأوجـــــاع المخـــــاض
ونعلم أنها حجر ولكـــــــن
تتيمنـــا بألحـــــاظ مـــــراض
كما أن التصوير شمل الستور وقد أبدع أبو العلاء المعري في وصف أحدها وقد كان الحيوان هنا موضوع الرسم :
الحسن يعلم أن من واريتــــــه
قمر تستر في غمـام أبيـــــــض
غشى الطيور غوافلا فتحيــــرت
منه فلــم تبرح ولــم تتنفـــــض
إذا وقف المعري عند ذكر ستيرة غطاها العصفور فإن عمارة اليمني تعرض من قصيدته إلى الزرافات، السباع،الليث، الظبي التي تغطي أحد الستور في لوحة أتقن رسمها حتى فاقت في شعره ما يمكن أن تقدمه الطبيعة من مشاهد خلابة :
فيها حدائـق لـم تجدهــا ديمــــة
أبدا ولا نبتـت على وجـه الثـرى
لم يبـــــد فيها الروض إلا مزهرا
والنخل والرمان إلا مثمـــــرا
والطير مذ وقعــــت على أغصانها
وثمارها لم تستطع أن تنفــــرا
وبها من الحيــوان كل مشهـــــر
لبس الوشيج العبقري مشهـــرا
حاول فن التصوير أن يتخذ من أي رقعة بيضاء مساحة له للإبداع والرسم مهما تنوعت فبعد الأقداح والستائر يلامس شعراءنا ميدانا اخر احسوا فيه بالإبداع ألا وهو الخيام فقد وقف المتنبي معجبا بفازة لسيف الدولة حتى قال :
وأحسن من ماء الشبيبة كلـــــه
حيا بارق في فازة أنا شائمـــــة
عليها رياض لم تحكها سحابــــة
وأغصان روح لم تغن حمائمــــه
وفوق حاوش كل ثوب موجــــه
من الدر سمط لم يثقبه ناظمـــــه
ترى حيوان البر مصطحبا بهـــا
يحارب ضد ضده ويسالمـــــــه
إذا ضربته الريح ماج كأنـــــه
تجول مذاكيه وتـــدأى ضراغمــه
وهذه الثياب التي استطاع بها النوع البشري أن يتميز عن الحيوان مازال يطورها جيلا بعد جيل فمن الخرقة إلى الحرير وما شابهه في الصنعة أو زاد عليه ولنا في بيت امرئ القيس دليلا على ارتداء تلك الأقوام الثياب المصورة إذ يقول :
خرجت بها تمشـــــي تجر وراءنـا
على إثرينا ذيل مرط مرحــــــل
وهذا السلامي يصف معركة لعضد الدولة مشبها ما فيها من خيل وطير بثوب عليه هذه الصور
والجو ثوب بالنسور مطيــــــر
والأرض فرش بالجياد مخيـــــل
يقع العقاب على العقاب ويلتقــــي
تحت السنابك أجدل ومجــــــدل
فكل هذه الدلائل تمثل إلى جانب شاعريتها واحساس صاحبها بكل ما هو جميل وبديع ليزيده بهاءا على بهاء وثائق أدبية تغني الدراسات الأثرية والتاريخية الباحثة في مثل هذه الإشكاليات كاللباس، الفخار وفن الزجاج بعد تجريد ما قيل من أساليب البلاغة وحسن التعبير والوقوف لإخراج المعلومة الصرفة كأن نقول أن فن التصوير موجود في اللباس وأقداح الخمر في الحقب الماضية وإقامة الأسئلة وطرح الإشكاليات لمزيد فهم تلك المراحل التاريخية.
كيف يرسم مثلا قيصر أو كسرى على فضاءات الأقداح والزجاج في دولة تعتبرهما من الأعداء؟.
ماهي حدود تأثير الصناعة والفنون الفارسية على الأراضي العربية؟ وغيرها من الأسئلة التي كانت في المتناول وغير المعقدة في باقي الحضارات لأن المقابروالتصورات الكهنوتية التي انتجت فكرة الأثاث الجنائزي المصاحب للميت في رحلته قدمت لنا الكثير فكل قبر هو بمثابة كنز أثري حافظ على انتاجات تلك الحقب مما سهل نوعا من البحث في البرونزيات الصينية أو الفخاريات بأرض مصر الفرعونية.
المراجع:
(1)التصوير عند العرب : أحمد تيمور باشا ـ مطبعة لجنة التأليف والترجمـة والنشـــر 1942 ص 75.
طارق العمراوي : كاتب ـ تونس
رئيس فرع اتحاد الكتاب التونسيين بولاية جندوبة