تقديم
لقد كان "أبو بكر السهيلي" ( نحوي أندلسي ت 581هـ) على صلة بالآراء والمجهودات النحوية التي قدمها النحاة المشارقة، غير أن اتصاله بها لم يستقر على مدرسة نحوية بعينها، بل حاول أن يستمد منها ما يتلاءم ويتوافق مع طبيعة تفكيره وتصوره النحوي، مضيفا إلى ذلك ما بلغته اجتهاداته فيما أبداه من آراء، وما قدمه من أفكار شكلت في بعض الأحيان ردا على ما قدمه النحاة من قبله، وتطعيما لمباحث الدرس النحوي.
ويؤكد بعض الدارسين أن "أبا القاسم السهيلي" (ت 581هـ) كان ذا فكر علمي، ونظر نحوي خول له بث تصورات تنم عن سعة معرفته وصفاء قريحته ودقة منهجه، يقول "أبو جعفر النحاس": "كان السهيلي واسع المعرفة غزير العلم نحويا متقدما لغويا عالما بالتفسير وصناعة الحديث... عارفا بعلم الكلام وأصول الفقه... ذكيا نبيها صاحب اختراعات واستنباطات مستغربة"[1].
ولعل هذا الانفتاح على ضروب مختلفة من العلوم ساهم في بناء فكر "السهيلي" وشحذ نظره النحوي فيما يعرضه من فصول ومسائل، إذ يحاول إمعان النظر في دقائقها، وتدقيق البحث في تفاصيلها، محاولا استدراك ما غفل عنه المتقدمون، وإظهار ضعف ما توهمه بعض المستقرئين، داعيا في ذلك إلى استنباط الأسرار الكامنة وراء الصريح من العبارة، والبحث عما خفي واستكان في مضمرها، يقول: "إذا كانت صناعة الإعراب مرقاة إلى علوم الكتاب، لا يتولج فيها إلا من أبوابه، ولا يتوصل إلى اقتطاف زهراتها إلا بأسبابه، فواجب على الشادين البحث عن أسرارها وتعليلها"[2].
ومن ثم فدراسة صناعة الإعراب تخول الإحاطة بما تضمنه الكتاب وبما بثته علومه المختلفة، وفي هذا إشارة إلى موقف "السهيلي" من دراسة النصوص، واشتغاله على تحديد مضامينها، فتفسيره لآي القرآن الكريم رافقته تصنيفات في الأحاديث النبوية الشريفة، وشروح للأبيات الشعرية، وهذا ما قد يساهم في بلورته لآراء لم يسبق إليها، ذلك أن "طبيعة المدرسة الأندلسية المرتبطة بالنصوص، كان لها أثر كبير في أن يخرج النحاة بآراء مبتكرة، فلا شك أن حرصهم على قراءة الدواوين وعنايتهم بالقراءات قد وقفهم على صور جديدة للتراكيب، مما جعلهم يعيدون النظر فيما سبق من آراء"[3].
إن الاشتغال على مجموعة من النصوص، واستقصاء ما قدمه علماء الأصول مكن "أبا القاسم" (ت581ه) من بناء تصور نحوي متميز، تتقاطع فيه التحليلات التداولية والأسس التركيبية مع الأبعاد الدلالية، كلها ضوابط تتآلف لصياغة حكم نحوي وبناء مسألة لغوية .
عناصر التحليل التداولي السهيلي
جنح " السهيلي" في الكثير من نتائجه إلى بناء تحليلات لغوية تراعى فيها مجموعة من المعطيات التي تقع خارج الفعل اللغوي، وغالبا ما ترتبط بمنتجها ومستقبلها والسياق الذي يحضران فيه ، كلها أساسيات في تحديد الحكم النحوي بناء على قصد أو معنى يراعى في عملية الفهم والإفهام، ويمكن أن نتصور كيفية اشتغال هذه المكونات، وتفاعل هذه القرائن الحالية داخل التفكير النحوي لدى "أبي القاسم السهيلي" على الشاكلة الآتية:
المعنى
المتكلم المخاطب
السياق
-1 : المتكلم والمخاطب
شغل الحديث عن المتكلم والمخاطب مواضع كثيرة في كتاب "نتائج الفكر في النحو"، حتى أن صاحبه لا يكاد يعرضا حكما، أو يرصد ظاهرة إلا واستحضر هيئة المتكلم وموضع المخاطب، بل إن العملية الكلامية مبنية على قيمة كل طرف منهما، يقول السهيلي: " ثم لما كان المخاطب مشاركا للمتكلم في معنى الكلام، إذ الكلام مبدؤه من المتكلم ومنتهاه إلى المخاطب، ولولا المخاطب ما كان الكلام لفظا مسموعا، ولا احتاج إلى التعبير عنه ..."[4] .
بهذا يتبن أن العملية الكلامية تقوم بوجود طرفين أساسين :الأول يتمثل في حضور المتكلم داخل البنية الخطابية باعتباره منتجا للكلام، وعنه تصدر العبارات اللغوية بعد أن تتألف وحداتها في ذهنه، وينسجم بعضها مع بعض حتى لا يصاحبها لبس على المخاطب أو غموض يعتري فهمه، ذلك أن هدفه من إحداث تغيير يطرأ على مكونات العبارات اللغوية هو إفهام المتكلم المخاطب، وهذا ضابط يلزم الأول فيما ينتج.
وهذه الصورة تتبدى بشكل أوضح من خلال حديث صاحبنا عن مسألة تقديم المفعول وتأخير الفاعل، حيث يقول:" ... وقسم يكون فيه تقديم المفعول أحسن، نحو: أعجب زيدا ما كره عمرو، لان الفاعل لا يظهر فيه الإعراب، فكان تقديم المفعول الذي يظهر فيه الإعراب أولى حرصا على إفهام المخاطب ..."[5].
فالغرض من بناء العبارة اللغوية هو توصيل الفهم إلى المخاطب وتبليغه إياه، وما لم تتحقق هذه المعادلة، ولم يراع هذا الحرص إلا والتبس الفهم على المخاطب وأغلقت عليه مناقب الإدراك، وتعطلت العملية الخطابية التي يعد فيها المخاطب طرفا ثانيا لا بد من استحضاره فيما ينتج، ومراعاة فهمه فيما يصاغ .
ويشغل المخاطب مركزا أساسا داخل البنية الفكرية لدى "السهيلي"، ومكانته لا تقل شأنا عن مكانة المتكلم مصدر الكلام، بل قد عده "السهيلي" منتهى العبارة اللغوية بعدما أن تنتج من قبل الطرف الأول ، فلولا قيمة المخاطب وهيئته ما نسج التعبير عن شيء تراعى فيه ضوابط الصيغة وقواعد التركيب ، يقول السهيلي: "اعلم أن الكلام صفة قائمة في نفس المتكلم يعبر للمخاطب عنه بلفظ أو بخط، ولولا المخاطب ما احتيج إلى التعبير عما في نفس المتكلم"[6].
بهذا يتبين أن الكلام عند السهيلي صفة قائمة في نفس المتكلم، فهو بنية داخلية تتعلق بقصده، وتخضع لما يود تبليغه للمخاطب، غير أن هذا التبليغ ينضبط لرسم خطي أو يصدر في كلام ملفوظ، بمعنى أن الكلام موضعه وتشكله في ذهن المتكلم لكن التعبير عنه مرتبط بوجود المخاطب الذي لولاه ما أخذت صفة الكلام المجردة شكلا ملفوظا، وما صيغت في تعبير ملحوظ رسما كان أو لفظا .
فالمتكلم والمخاطب إذن عنصران أساسيان في إنتاج العبارة الكلامية، حيث يكمل أحدهما الآخر من دون ترجيح لمكانة الأول عن الثاني، لذلك ينبغي استحضارهما في أي تعليل لغوي أو تفسير نحوي، فمتى أخلت العناية بأحدهما كانت النتيجة بناء أحكام وقواعد لا تراعى فيها كل جوانب القصد أو المعنى الذي يصدره المتكلم بغية إفهامه وتبليغه للمخاطب .
1-2 :المعنى أو القصد
اهتمت مجموعة من العلوم المختلفة بالمعنى وحاولت صياغة إطارها النظري والمنهجي بناء على تصورها لهذه المسألة، وكيفية تمثلها فيما تقدمه من نماذج، ومن ثم تباينت فيه تصورات عدة، واختلفت بصدده رؤى واليات اشتغال متنوعة، ذلك أن المعنى كثيرا ما يتباين في تصوره ويختلف في تحديده من ذهن إلى آخر .
ولا يسعنا المقال في هذا الصدد لاستحضار أهم الجوانب التي تناولها علماء الأصول، واستقصاء أهم تحديداتهم في مقدمات لغوية متصلة بالمعنى أفاد منها "أبو القاسم السهيلي"، لكن ما ينبغي الإشارة إليه هو أن القصد في علم الأصول قد شكل محور أبحاثهم، ومحط اهتماماتهم ،فهو :"علم- كما يشير "أبو زهرة في كتابه أصول الفقه - يبين المناهج التي انتهجها الأئمة المجتهدون في استنباطهم، وتعرف الأحكام الشرعية من النصوص والبناء عليها، باستخراج العلل التي تبنى عليها الأحكام، وتلمس المصالح التي قصد إليها الشرع الحكيم وأشار إليها القرآن الكريم ... " .
بهذا فتحديد قصد الشارع، وتبين معنى ورود كلامه مسألة أساسية في علم الأصول ألقت بضلاله على فكر "أبي القاسم السهيلي" الذي انشغل بدوره بالمعنى، وحاول تسخير آليات عدة لبلوغه واستحضاره في جل الجوانب المتعلقة بالتحليل النحوي مما تضمنه كتاب النتائج
غير أن حديث السهيلي ( ت 581 ه) عن المعنى غالبا ما يحضر إلا جانبه اللفظ، ذلك أن المتكلم المعبر عن القصد يلزمه استعمال لفظ لذلك، ولعل هذا ما يفسر ارتباط اللفظ بالمعنى[7]عند "أبي القاسم"، وهي ثنائية تحضر بشكل قوي في معظم تعليلاته اللغوية والنحوية، يقول ،على سبيل المثال لا الحصر ، : " الاسم الذي هو السين والميم ،عبارة عن اللفظ الذي وضع دلالة على المعنى، والمعنى هو الشيء الموجود في العيان – إن كان من المحسوسات – كزيد وعمرو، وفي الأذهان- إن كان من المعقولات –كالعلو والإرادة ... " 2، ويضيف في موضع آخر :"كل محسوس يعبر به عن معقول فينبغي أن يكون مشاكلا له، فما خلق الله الأجساد في صفاتها المحسوسة إلا مطابقة للأرواح في صفاتها المعقولة، ولا وضع الألفاظ في لسان ادم عليه السلام إلا موازنة للمعاني التي هي أرواحها " [8] .
ويتضح أن المعنى عند السهيلي يرتبط ارتباطا وثيقا باللفظ الذي يخرجه من صفة نفس قائمة في ذهن المتكلم ليعكسه فيما ينتج من عبارات لغوية، وتعبيرات خطية ولفظية، فعلاقتهما ( أي اللفظ والمعنى ) تحكم الصلة بين المتكلم والمخاطب، إذ الأول يصدر عبارة لغوية بعد أن تأتلف في ذهنه بشكل تراعى فيه شروط الفهم لدى المخاطب، الذي يسعى المتكلم تبليغه معنى لا يشوبه اللبس ولا يعتريه الغموض، لذلك يرصد لفظا يكون صورة للمعنى داخل نفس المتكلم وخلده حتى يستهدف إدراك المخاطب وفهمه من خلاله .
وقد شبه السهيلي ثنائية اللفظ والمعنى بثنائية الجسد والروح، ذلك أن الجسد الذي يمثل الجانب المادي والمحسوس يكون مشاكلا ومنطبقا مع الجانب المعنوي الذي تتحدد فيه المعقولات المجردة التي تشكل الروح في مقابل الجسد، فإذا كانت الروح ( جانب المعقولات ) بموجبها يتشكل الجسد ( الجانب المادي والمحسوس )، فإن اللفظ هو الجانب الصوري المحسوس المشاكل للمعنى الذي يمثل الجانب الداخلي والمعنوي للمتكلم، ولا يجوز الفصل بين الطرفين ما دام هذا الأخير(المعنى) دليل وجود الأول (اللفظ)، ولا يجوز للعبارة ، ملفوظة كانت أو خطية ،أن تتجرد عن المستوى المعنوي الذي يحدد مواضع وحداتها ، ودلالالتها المتباينة بشكل يتناسب (ويتشاكل) مع صيغة نظمه في خلد المتكلم ونواميس فكره ، ومتى وقعت زيادة أو نقصان في المعنى إلا وانعكس ذلك في اللفظ بزيادة تطرأ عليه أو بنقص يعتريه.
فالمعنى يرتبط بالمتكلم وقصده الذي يبرزه في العبارة المنتجة التي لولا المخاطب ما كان لها أن تصدر، وما احتاج الأول إلى تحريك آليات اشتغال النظر لتأليف الوحدات الكلامية، بمعنى أن المخاطب – إلى جانب المتكلم – يؤثر على نسج خطوط المعاني التي ينبغي أن تنسجم مع قوة فهمه أو ضعفها عبر ما يجسد في الألفاظ الموجهة إليه، والمعبرة عن كل جوانب قصد المتكلم ومبتغاه، أي أن المعنى لا يتحدد بظاهر العبارة ولكن باستحضار معطيات أخرى يضمها السياق.
1-3 : السياق الكلامي
لما كان المعنى الذي يود المتكلم تبليغه للمخاطب، لا يرتبط بالظاهر من العبارة بل يحاول استيعاب جوانب أخرى ينبغي مراعاتها في هذه العملية التبليغية التي تصدر عن المتكلم وتنتهي عند المخاطب، وهذا ما يتطلب استحضار السياق الكلامي الذي يساعد على تحديد المعنى الذي يقصده المتكلم، بالشكل الذي لا يترك لبسا ولا يحدث غموضا أو شكا فيما يعرض لدى مستقبل الخطاب .
ومن مقومات السياق في التفكير النحوي لدى السهيلي اعتماده التحليل اللغوي، بالإضافة إلى عناصر الموقف الكلامي، وكلها عناصر لها دورها في تحديد المعنى الذي ينتجه المتكلم، ويتعرض له المخاطب، ومثال عن التحليل الأول ما ذكره "أبو القاسم السهيلي" (ت581 ه ) في معرض حديثه عن الإعراب، حيث يقول : " ... والحكمة عندي أن الإعراب دليل على المعاني التي تلحق الاسم نحو كونه فاعلا أو مفعولا وغير ذلك، وتلك المعاني لا تلحق الاسم إلا بعد حصوله بحقيقته ومعناه، فوجب أن لا يتقدم الإعراب الاسم ولا يتوسطه في الوجود، وأن يترتب بعده كما ترتب مدلوله..."[9].
فلما كان الإعراب دليلا على المعاني التي يلبسها المتكلم للاسم المعبر به عما اتلف في الذهن، فهو – أي الإعراب – يلحق الاسم ولا يسبقه، بل إن ظهوره فيه تم بعد أن حصل اللفظ (الاسم)، واستقر بذاته قبل أن تلحقه علامة الإعراب، وتظهر في آخره بعد أن وردت بعده في الوجود ( أي الوجود الفزيائي الذي كان فيه سبق للاسم عن الإعراب)، لذلك لا يجوز للإعراب أن يرد وسط اللفظة ( الاسم ) ولا قبلها ما دام وجوده غير سابق لوجود الاسم ولا متزامن معه .
وهذه إشارة بسيطة تنبئ عن أهمية مراعاة السياق الذي تتألف فيه الألفاظ بالمعاني، بناء على ضوابط لغوية تقضي بألا يقدم المعبر عنه عن المعبر به، خاصة وأن هذا الأخير له وجود (الوجود الحسي وليس الوجود المعنوي) قبلي عن الأول.
وحاصل القول إن المعنى والمتكلم والمخاطب وسياق ورودهما، كلها عناصر متلازمة في التعبير اللفظي والخطي المتضمن لمعنى يقصده المتكلم ويدركه المخاطب، ولعل هذا التصور كان واضحا بشكل كبير لدى "السهيلي"، ومؤثرا في تفكيره النحوي، وهذا ما نلمسه في معالجته لمجموعة من الظواهر اللغوية والنحوية، كل ذلك انطلاقا من علاقات لا تحكمها عناصر لغوية مستقلة تخضع للتحليل اللغوي الصوري، بل الأمر في نظر السهيلي – يتجاوز ذلك، ويتعدى تحديد المعنى بمجرد النظر في العبارة أو عن طريق تحليلها لغويا، إلى استصحاب الموقف الكلامي بعناصره المختلفة سواء أتعلق الأمر بالأبعاد التداولية المحدد للخطاب، أم بالضوابط التركيبية والاعتبارات الدلالية التي حاول "السهيلي" أن يراعيها في تفسيراته وتعليلاته لمجموعة من القضايا المعالجة ببداهة العارف لأصول الكلام في نتائجه.
فما موقع التصور التداولي، كما صاغه " السهيلي"، من ديداكتيك علوم العربية ( خاصة بالتعليم الثانوي التأهيلي)؟ ما دور النظريات اللسانية في تدريس العربية؟ ما مدى نجاعة النظرية النحوية العربية في تدريس اللغة العربية؟ هل تدريس علوم العربية ينطلق من تصور تداولي يموقع المتعلم داخل العملية الكلامية أم أن الأمر اكثر صلة بالصوري في هذه العملية؟...
[1] - مقدمة نتائج الفكر في النحو، ص 21.
[2] - نتائج الفكر في النحو، ص 26.
[3] - د. إبراهيم البنا، السهيلي ومنهجه النحوي، ص 248.
- نتائج الفكر في النحو .172[4]
- المصدر نفسه .ص.:174 .[5]
[6] - أبو القاسم السهيلي، نتائج الفكر في النحو، ص 170.
[7]- يمكن النظر إلى المعنى من جانبين: الأول: يتعلق بكيفية تشكله في ذهن المتكلم وانعكاسه في الكلام، ومثل هذا ما تأصل في مؤلفات عبد القاهر الجرجاني، الثاني: ويتعلق بكيفية تشكله عند المتلقي الذي ينتهي عنده الكلام، وهذا الطرب هو ما نزعم أنه كان حاضرا بشكل قوي في تصور السهيلي.
2- نتائج الفكر في النحو ،ص.30 .
- نتائج الفكر في النحو :108 .[8]
[9] - ينظر باب الإعراب من نتائج الفكر في النحو.ص .:66 .