في عشر مقطوعات قصيرة في قصيدة نثرية، تراوحت كل منها ما بين الشطرتين والخمس شطرات، كان أحمد أيوب يبث لواعج ما بين ألم وفلسفة مخاطباً أفروديت، وأفروديت يقال عنها إنها إلهة الحب، بينما وحسب ما وردت في الأساطير اليونانية فهي إلهة الحب والجمال والشهوة والجنس والبغاء، فهي إذاً إلهة الحب الجسدي وليس الرومانسي كما يفهمه البعض، وفي العبادة الوثنية في معبدها في أثينا كان الجنس جزءاً من العبادة، وأفروديت معروفة عند الرومان تحت مسمى فينوس، وعرف بالأساطير المروية عنها أنها كانت تمارس الخيانة كثيراً، وتنسب اللات لدى العرب في الجاهلية أيضاً أنها نسخة أخرى من أفروديت أو فينوس.
واضح أن النص تم البوح به وكتابته في ظروف الشتاء القارص والثلوج، وربما في الظروف التي مرت بها المنطقة خلال الأيام الماضية حين زارتنا (اليكسا) بكل قسوتها، فالشاعر يبدأ نصه بوصف الشتاء والحال به، فهو يصفه بأنه (عقيمُ الأمنيات)، وهو يصرخ لا (للريح تحمل صمتنا الموبوء)، وحقيقة لفت نظري وصف الشتاء بأنه وحي عقيم الأمنيات، فالشتاء وخاصة بعد طول انتظار الغيث يوصف بالخير، ودوماً يشكر الناس الله على نعمته بالقول: الحمد لله، و(جعلنا من الماء كل شيء حي)، بينما في الشطرة الثانية يصفه بأنه (جدلٌ يدثر خوفنا البريَّ)، وهنا نجد الخير بين طيات الكلمات، فالشتاء هنا يدفئ خوفنا من العطش والمحل والقحط.
يواصل الشاعر ومن خلال هذه المقدمة الشتائية، وصف الحالة التي يمر بها في تلك اللحظات الباردة مع عويل الريح، وهو يشكو هجرتها له حيث لم تترك له إلا احتفاظ (الأنين بشهدها)، وحتى ما يكتبه من بوح يصف حروفه بالقول: (الحروف ملهاة الطريق وبحة الليل المباح ونزعة الحبرِ المسربل في الرصيف)، وهو يصل إلى نتيجة أنه (لا روح في حرف الغياب) وأن الرحيل كما الليل (يهوى الإياب)، ولا يجد في المساء وحين الوحدة سوى البحر يسكنه في استعارة جميلة، فالبحر هائج ومائج عادة، وحين استخدم كلمات (يسكنني البحر)، فقد كانت استعارة موفقة، فالمساء دوماً يشهد الهدوء للإنسان بعد التعب، ولكنه في حالته التي وصفها يصبح كثورة البحر وهيجانه.
بعد كل هذه الشكوى والألم والنـزف الليلي نجد شاعرنا يخاطب أفروديت بالقول: (لا مسار إليكِ أفروديت فاحتملي)، ويكمل ما يجب على أفروديت أن تحتمله بالقول: (انكساري في المرايا متعباً)، وهنا نجد في هذا المقطع لوحة من كناية واستعارة لغوية جميلة، فالانكسار في المرآة هو انكسار وهمي وليس حقيقياً، واستعارة الانكسار في المرآة وإسقاطه على الواقع يحمل صورة جميلة تعبر عن الحالة النفسية، وبعد ذلك يطالب أفروديت أن تنتفض بقوله: (وانتفضي كقبرةٍ يحاصرها المطر)، وهنا كان التشبيه بليغاً، وقد يدركه من شاهد قبرة تساقط عليها المطر فجأة، فانتفضت وطارت أو ركضت لتختبئ من المطر.
والسؤال الذي سيحضر ذهن القارئ هنا: لماذا اختار الشاعر رمز أسطورة أفروديت ليسقطه على التي خاطبها في نصه؟ هل من جانب الجمال وحده مثلاً؟ أم من جانب الخيانة فهي قد رحلت عنه، أم من جانب عشق جسدي أثارته ليالي البرد؟ فلا يوجد في أفروديت رومانسية الحب كي نرى ذلك الخيار، ويتبقى فقط جوانب الجمال والشهوة والخيانة)..
في نهاية النص يصف الحي الذي يسكنه أنه كئيب، وأن هناك عرافة تحدثت إليه عن سوء الطالع وعن (موت قريب)، فنجد بطل النص يستكين لقول هذه العرافة وينام كي يكون في (استقبال موت.. لا تليق به الحياة)، وهنا وضع الموت في صورة تشبيهية قوية، فهنا استقبال للموت والعادة الخوف من الموت وليس الاستقبال، ولو أتيح للإنسان أن يفر من الموت لما انتظره لحظه، فكيف أن يستقبله بكل ما تحمله كلمة الاستقبال من جماليات، وفي هذا المقطع أيضاً نجد استخدام حالة اجتماعية منتشرة في كل الأحياء، فبالكاد يخلو حي من امرأة تجيد قراءة الكف أو قراءة الفنجان، حتى لو اجتمعت النسوة عندها من باب التسلية مع فنجان القهوة.
النص بأكمله حافل بالتشبيهات والاستعارات المختلفة، وحفل بكمّ جميل من إبداع الشاعر باستخدام اللغة وتطويعها، وكان الرمز في أبهى صوره، فحتى يمكن للنص أن يثير التساؤل والبحث، فلا بد من جوانب رمزية تحفل بها الصور بدون الإغراق في الرمزية، فلم يلجأ للمباشرة إلا في بعض المقاطع التي استدعت ذلك، ما جعل النص مفهوماً لمن يقرأ ويتفكر بالصور، وكانت الموسيقى الشعرية متناغمة مع الكلمات، فالجرس الموسيقي مهم جداً في القصيدة وخاصة النثرية، فهو بعض من مكوناتها، فأضاف جمالاً آخر للنص، وكان العنوان موفقاً، وقد أشرت في البداية لاستخدام اسم أفروديت، فالنص كان مجموعة من عشرة رسائل تشكلت في رسالة واحدة، فكان النص قائماً على علاقة جميلة بين عناصر العمل الأدبي الذي حلق به شاعرنا أحمد أيوب.
رسائل إلى افروديت
.............................
(1)
الشتاء وحيٌ عقيمُ الأمنيات
جدلٌ يدثر خوفنا البريَّ يقتات الحياة
(2)
لا قلت لا
للريح تحمل صمتنا الموبوء
للدنيا فنخشى إن يعرينا الحياء
(3)
مجاز
وستستقيل من الشهقة الأولى
وتعرى من مودتها وتهجرني
ليحتفظ الأنين بشهدها
(4)
الحروف ملهاة الطريق وبحة الليل
المباح ونزعة الحبرِ المسربل في الرصيف
(5)
يسكنني البحر في مساءات الغروب
فانتشيها كالنبيذ وأحمل الكفن
العقيم وياسمين البوح في شفتي ينوح
(6)
لا روح في حرف الغياب فالليل
سكنى والرحيل كليلنا يهوى الإياب
(7)
هي يا أناي كلوعتي
من يشعل الفجر القتيل ويحتمي بلظى الشموع
(8)
ومعمداً بالنار في نجوى اليسوع
تسير فوق أحلامي عيون الياسمين
(9)
لا مسار إليكِ أفروديت فاحتملي
انكساري في المرايا متعباً
وانتفضي كقبرةٍ يحاصرها المطر
(10)
وتقولُ لي عرافةُ الحي
الكئيب
عن سوء طالعنا وعن موت قريب
فابتسمت سذاجةً وغفوت في استقبال موت
لا تليق به الحياة