كلما قرأنا قصيدة من القصائد الشعرية، يداهمنا سؤال إشكالي تستثيره لدينا جدلية تقريرية اللغة وإيحائيتها:
هل دلالة الشعري تحد بما تدل عليه دوال هاته القصائد، أم بما تكتمنه وتومئ إليه؟
يبعثنا هذا السؤال على القول: إن دلالة الشعري دلالة متعدية غير لازمة، تتجاوز في سياق تلقياتها المعنى الحرفي، لتغدو حسب المصطلح النقدي المأثور "معنى المعنى"، فهي تدل بدوالها اللغوية على معان مباشرة، فلا تلبث أن تدل هاته المعاني أثناء القراءة على ما يتعداها إلى ما سواها من المعاني، في دفق حركي خصيب يستمد شحنته المحفزة على التعدي الدلالي من كفاءة تأويل شفرتها النصية(1).
من ثم فالشاعر في مساق صوغه الكيمياء الشعرية، تستحيل لديه اللغة الشعرية دوالا، تدل على نظام لغوي إبلاغي، يخالف النظام اللغوي التداولي المألوف، فإذا كان هذا النظام ترتهن لديه الدلالة بما أودع في الدوال من مداليل تقريرية مباشرة، فإن ذاك ترتهن لديه بما أودع في المداليل المباشرة من مداليل إيحائية غير مباشرة، تستشف بقدر ما تستثار من اللغة طاقتها التضمينية، هاته الطاقة التي توقع في الرؤية الشعرية حركة السؤال المتوهج ، الذي يوسم بوسم "السؤال الحركي"، المتحرك في ما لا ينفذ من أجوبة التأويلات.
بهذا تصبح دلالة الشعري وقفا على ما تحتمله دوال الكتابة من مداليل، أي وقفا على الاحتمالات الدلالية التي تحتملها في سياق جدلية التلقي دوال الصور الشعرية، التي تعبر بها القصائد عن حركيتها الدلالية ضمن تركيبة لغوية أدبية متظافرة العناصر اللغوية.
إن هاته الحركية التي تتيحها الكتابة الشعرية، حتى تسترسل في التلقيات المتواترة تكشف التجربة الشعرية، باعتبارها تجربة ذاتية لا تلبث أن تتذاوت مع الذوات المتلقية، من خلال كتابتها التي تتنزل منزلة السؤال المفتوح على أجوبة القراءات، التي تتناسل حولها باحتمالاتها دون أن تحدها بإجابة قطعية أو بصيغة نهائية.
فالتجربة من خلال هاته الكتابة تدل على أن الشعر فضاء مشرع على الحوار الرحب، الذي لا تحده ضفاف، فهو فضاء تتوهج فيه الرغبة في استكشاف الكتابة المغايرة، التي لا تلبث في صيرورتها أن تنزاح بالكتابات والقراءات عن طقسية النموذجي.
بهذا المعنى يبدو الشعر كتابة لا تبدأ لتنتهي، ولكنها تنتهي لتبدأ، باعتبارها فعلا خلاقا، دائم البحث عن سؤاله وانفتاحه، أي توقا إلى اللانهائي واللامحدود(2).
إن هذا المعنى المستحصل الذي أضحى الشعر العربي يهجس به في شتى المحافل الشعرية، لما له من مفاعيل وآثار في ما يكتب منه، تتبين ملامحه بجلاء في المساعي التالية:
أولا، تحطيم إطلاقية النص الجاهز، وجعل شعرية القصيدة كامنة في قدرتها على التحاور مع التراث الإنساني، بغية تحيينه في طرائق تعبيرية مغايرة متفاعلة مع الصيرورة المجتمعية.
ثانيا، ترميز دوال الكتابة بالألسني والأيقوني، وتضمينها "البياض الدلالي"، الذي يتيح للمتلقي احتمالات دلالية ومسارات تأويلية، ويستثير لديه رغبة في تفعيل جدلية القراءة والكتابة.
ثالثا، استبدال النظام التقريري الإحالي، بالنظام الإيحائي الأدبي، الذي ما فتئ يشعرن الواقعي ويِؤسطره ويرضخه إلى علاقات إبداعية، تبتدع منه - تبعا لجدلية القراء والكتابة - واقعا افتراضيا بديلا.
رابعا، تحريك النص على مستويات مختلفة من الواقع(واقع الحياة، واقع النص، واقع المتلقي، الواقع االمترتب عن التفاعل بين المتلقي والنص)، والتأكيد على أن الواقع ليس واحدا، إنه متعدد، ومتفاعل مع جدلية الصيرورة المجتمعية تفاعلا يحتم تغيير أفق الكتابة وأفق القراءة باستمرار.
بهذا وذاك تغدو الكتابة الشعرية، تنتظم تبعا لثلاثة مبادئ تنظيمية، تختزل في الانفتاح والحرية والحوار(3).
فبفضل هاته المبادئ تتحرر الكتابة من النموذجي -الذي طالما ودعها مقفلة على ودائعها-، وتنفتح على شتى الأجناس الإبداعية، لتتجانس معها تبعا لحوار، لا تلبث أن تستثيره مع الذوات المتلقية، التي تخرجها من حيز الكمون إلى حيز التحقق الفعلي، وتكشفها باعتبارها وجودا افتراضيا في ذاتها، وعلة وجود لغيرها في سيرورة زمانية.
إزاء هاته المبادئ، التي تبدي الكتابة الشعرية دائمة التخلق في صيررة إبداعية لايقر لها قرار، يتعين التساؤل عن طبيعة المرجع الشعري، وبالتالي المرجع الواقعي، الذي ترجع إليه هاته الكتابة في سياق استرسالها النصي.
اترجع هاته الكتابة إلى مرجع أحادي البعد الدلالي، أم ترجع إلى مرجع متعدد الأبعاد الدلالية؟
كيف تبدع مرجعها الشعري وتحيل إلى مرجعها الواقعي؟
تنحو الكتابات في دلالتها على المرجع الذي تحتفي به منحيين متعارضين:
أولهما، منحى تطابق فيه الدلالة ذاتها النصية، فتظل قيد المدلول المباشر للدوال اللغوية:
هنا تعتمد الكتابة في إرجاعها إلى الواقعي على لغة إبلاغية تقريرية أحادية البعد الدلالي، تنشد وصف الواقع والتحدث عنه دون ابتداعه في صور شعرية متعالية، لذا فهي كتابة تنحرف عن السوية الشعرية، ولعل هذا الانحراف ينكشف بجلاء، إذ تتوهم محاكاة مرجعها محاكاة حرفية، بينما هو مرجع دائم التجدد في وجوده الواقعي، أي صيرورة مسترسلة لا تني في استرسالها تبدد محاكاته تبديدا يجلوها عديمة الجدوى فاقدة نبض حياته(4).
مع هذا المنحى - حيث التقريري يلابس الواقعي - ترتهن الكتابة في وجودها المنجز فعليا بالبعد المكاني، ذلك أنها بتقريراتها تتنزل منزلة الوجود القار المغلق على ذاته، التي لا تفسح المجال لتأويلات الذوات المتلقية لتنفث في مرجعها معالم الوجود الحركي الزمني.
ثانيهما، منحى تخالف الدلالة مع ذاتها النصية، وانشراعها على المداليل غير المباشرة للدوال اللغوية:
هنا تعتمد الكتابة في إرجاعها إلى الواقعي على لغة إبداعية إيحائية متعددة الأبعاد الدلالية، تنشد محاورة الواقع والتحدث معه في سياق تلقيات متواترة تفترضها، لذا تضفي عليه أبعادا شعرية بالغة الغنى والتنوع، وترسم له مسارات تأويلات لا يمكن للذوات المتلقية المؤولة أن تتجاهلها.
مع هذا المنحى - حيث الإيحائي يلابس الواقعي - ترتهن الكتابة في وجودها المنجز افتراضيا بالبعد الزمني، ذلك أنها بإيحاءاتها تتنزل منزلة الوجود الحركي المنفتح على تأويلات الذوات المتلقية، التي تجعل مرجعها علة وجود لغيره.
إن المرجع الشعري مع هاته الكتابة، يتنزل منزلة المعادل الجمالي لصنوه الواقعي الزمني، إذ يغدو صيرورة إبداعية دلالية تداوم الاسترسال مداومة تدعونا إلى نعته بنعت المرجع المؤجل ، المنفتح باستمرار على الآتي من التأويلات انفتاحا يحدو به إلى مبارحة ذاته باستمرار، ما أن تلوح منها بارقة، حتى أنه يبدو الآتي دوما بحلة جديدة.
لهذا وذاك نرى ذاك التلقي التداولي الأحادي البعد الذي يقصره على المعنى المطلق النهائي، المتحقق بذاته، أوعلى تصور قبلي قار، يجني من جهة على شعريته ودلالته، ومن جهة أخرى يجني على خطابه التأويلي، الذي يتشرنق في شرنقة مونولوج ذاتي، يبعد عنه إمكانية الحوار والتخاصب، وينفي كل ما عداه من تلقيات.
إنه تلق يؤول أمام ذاك المرجع إلى لحظة عديمة الكفاءة التأويلية، إذ يفسر حركته الزمنية بالسكون، ويستذكر ماضيها، بدل تنشيطها بكفاءة التأويل، التي ما فتئت تدفع الدلالات اللغوية بما تتيحه من فراغات دلالية إلى أمدائها المتمادية، حيث تتيح الحركة المجازية التأويلية للمرجع الواقعي في تجليه الشعري قابلية التخلق المستمر،ومرادفة تلك الحركة الزمنية.
فما ينبغي أن لا نتغافله في سياق تقصي دلالة اللغة الشعرية على مرجعها، هو أن الدلالة الشعرية تتحرك دوما في مدار الانزياح عن مبدإ الهوية الثابتة، أي تتحرك في مدار "الاختلاف"، حيث تعيش حركة الاحتمالات، والافتراضات التأويلية، بل تعيش حركة اختلافها الدائم عن ذاتها بقدر ما تنشرع على القراءات.
إن الهوية الثابتة لا تهب الشعرية للمرجع، وإنما يهبها له "الاختلاف" أي اختلافه عن ذاته باختلاف قراءاته، فهذا "الاختلاف" بخلاف تلك الهوية لا يفردن الدلالة، ويعلبها في علبة المعنى النصي الحرفي، وإنما يحررها تحررا ترود إثره آفاق ما تستشرفه من "معنى المعنى" ، بحيث تخرج في مدار جدلية التلقي من حيز الوجود الفردي إلى حيز الوجود الجماعي، حيث تأخذ بعدا تاريخيا زمنيا تغدو به جماع تأويلات منفتحة على تباين أسئلتها بتباين أزمنة تلقيها وأمكنتها.
على أن حرية الدلالة وانشراعها يحد من رحابتهما -كتابة وتأويلا- الإيديولوجي، بل إن هذا الإيديولوجي قد يعدمهما ويوقع المعنى في شراكه، فيظل مراوحا عند المستوى التقريري، منشدا إلى حرفيته، فلا يرقى إلى مرقى الدلالة الشعرية.
إن الدلالة قمينة بما أودع فيها من دفق شعري باستثارة أسئلة المعيش، فهي تنداح إلى الأبعد منه، على مهاد جدلية السؤال والجواب، التي ما فتئت تحرك دلالات-أسئلة منشرعة على أخرى انشراعا يبدع الواقعي.
إلا أن هاته الأهمية التي تحظى بها الدلالة، ليست مبررا كافيا لوجود الشعري، ذلك أن هذا الشعري مزاوجة بين التلفظ والملفوظ.
فلئن كان هذا الملفوظ يتمثل في المقول، أي في ما احتواه من دلالات، فإن التلفظ يتمثل في المقول الدلالي وفي كيفية قول هذا المقول، أي في كيفية شعرنته وتشكيله تركيبيا وإيقاعيا.
وتبقى الدلالة في صميم العلاقة القائمة بين هذا وذاك قطب الرحى أو"المبدأ التنظيمي" الذي تنتظم وفقه المستويات اللغوية للقصيدة الشعرية.
بعد ما استحصلناه من محصلات، يحلو لنا أن نختم بالأسئلة الافتراضية، التي بعثتنا على كتابة هذا الموضوع، لأننا نراها أسئلة قد تعبث القراء كذلك على كتابة مواضيع أخرى تستضمرها، فما هي هاته الأسئلة؟
سنحاول التدرج على هاته الأسئلة التي انتظم وفقها تصورنا السالف في ما يلي:
هل الدلالة الشعرية تحد بما تقوله العلامات اللغوية أم بما تسكت عنه؟(5)
ايهما يحدها: الكتابة أم هامش صمتها؟
سواد العلامات اللغوية أم بياضها الدال؟
أ تذعن للمكتوب أم تنزاح عنه، فلا يعتبر لها وجود إلا في سيرورة تلقياتها؟
أتستقر على تجل تقريري قار، أم تتحرك على تجليات إيحائية حركية مشرعة على احتمالات تأويلية؟
أليست هاته الدلالة علاقة جدلية بين الكتابة والقراءات المتواترة؟
هل الدلالة مطلقة ترتهن بلغة موجودة بالفعل، أم نسبية ترتهن بلغة موجودة بالقوة؟
أتشترط وجودها بذاتها أم تشترطه بالذوات المتلقية؟
أهي حصيلة العلاقات التي تنشأ بين المستويات اللغوية للقصيدة الشعرية، أم حصيلة الاحتمالات الدلالية التي تستثار في سيرورة تلقياتها؟
ألا يدل "شكل" الشعري أو تمفصلات جماع المستويات اللغوية، وتراكبها تركيبيا وإيقاعيا على الدلالة، أو على تجل تلفظي من تجلياتها؟
هل الدلالة المتعددة الأبعاد تعد مبررا كافيا لوجود الشعري؟
أي واقع تدل عليه؟
أتدل على الواقع الحقيقي أم تدل على الواقع الحلمي الافتراضي؟
كيف تدل على هذا الواقع؟
أتدل عليه بالحقيقة أم بالمجاز؟
إلى أي مدى تبدعه؟
إنها أسئلة تتوق إلى ما يشرع الكتابة على الاحتمالي، الذي يهبها قابلية للتعدد والتنوع والاختلاف، ويجعلها تعيش في فضاء الحرية والانفتاح والحوار.
الهوامش :
(1) لذا فهي دلالة لا تذعن للتلقي التداولي الأحادي البعد، الذي يقصرها على معنى مطلق ونهائي، متحقق بذاته، وإنما تذعن للتلقي الأدبي، الذي يقر بتعدديتها الدلالية، ويعتبرها مجرد دلالة احتمالية نسبية.
(2) محمد بنيس: حداثة السؤال (بخصوص الحداثة العربية في الشعر والثقافة)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1985، ص:19.
(3) ولعل هذا الحوار يشف عن المبدأين المقترنين به إذ يستشف وفق ما هو وارد لدى جابر عصفور أي باعتباره " الفعل الذي لا يعرف النهايات المغلقة ولا ينتج الإجابات الجاهزة، ويرفض المسلمات المطلقة، إنه الفعل الذي ينطوي على تحول مستمر صاعد لا يكف عن توليد السؤال من الإجابة والانتقال من جمود التقليد إلى توهج الرغبة في الاكتشاف" المرجع: جابر عصفور، دعوة إلى الحوار، مجلة إبداع، ع: 8، أغسطس 1991، ص: 5.
(4) يقول الناقد صلاح فضل ما قاله ناقد غربي: "إن المحاكاة الفنية في حقيقة الأمر تتضمن فكرة متناقضة، إنها تختفي في نفس اللحظة التي تدرك فيها غايتها التامة، إذ لا تصبح عندئذ محاكاة" المرجع: بلاغة الخطاب وعلم النص، سلسلة: عالم المعرفة، ع: 164، آب 1992، ص:44.
(5) نظير هذا السؤال الإشكالي نجده لدى عبد السلام المسدي الذي ينعته بنعت السؤال الأبدي للأدب، يقول: " هل تكمن نوعية الحدث الأدبي فيما يعبر عنه الأثر أم فيما يوحي به دون أن يعبر؟ أي هل الأدب كامن فيما يقول أم فيما لا يقول؟ أفلا يكون الأدب تعبيرا صامتا ووجودا مائعا؟" انظر كتابه المعنون: الأسلوبية والأسلوب، الدار العربية للكتاب، الطبعة الثانية، طرابلس،1982، ص: 1982.
ثالثا، استبدال النظام التقريري الإحالي، بالنظام الإيحائي الأدبي، الذي ما فتئ يشعرن الواقعي ويِؤسطره ويرضخه إلى علاقات إبداعية، تبتدع منه - تبعا لجدلية القراء والكتابة - واقعا افتراضيا بديلا.
رابعا، تحريك النص على مستويات مختلفة من الواقع(واقع الحياة، واقع النص، واقع المتلقي، الواقع االمترتب عن التفاعل بين المتلقي والنص)، والتأكيد على أن الواقع ليس واحدا، إنه متعدد، ومتفاعل مع جدلية الصيرورة المجتمعية تفاعلا يحتم تغيير أفق الكتابة وأفق القراءة باستمرار.
بهذا وذاك تغدو الكتابة الشعرية، تنتظم تبعا لثلاثة مبادئ تنظيمية، تختزل في الانفتاح والحرية والحوار(3).
فبفضل هاته المبادئ تتحرر الكتابة من النموذجي -الذي طالما ودعها مقفلة على ودائعها-، وتنفتح على شتى الأجناس الإبداعية، لتتجانس معها تبعا لحوار، لا تلبث أن تستثيره مع الذوات المتلقية، التي تخرجها من حيز الكمون إلى حيز التحقق الفعلي، وتكشفها باعتبارها وجودا افتراضيا في ذاتها، وعلة وجود لغيرها في سيرورة زمانية.
إزاء هاته المبادئ، التي تبدي الكتابة الشعرية دائمة التخلق في صيررة إبداعية لايقر لها قرار، يتعين التساؤل عن طبيعة المرجع الشعري، وبالتالي المرجع الواقعي، الذي ترجع إليه هاته الكتابة في سياق استرسالها النصي.
اترجع هاته الكتابة إلى مرجع أحادي البعد الدلالي، أم ترجع إلى مرجع متعدد الأبعاد الدلالية؟
كيف تبدع مرجعها الشعري وتحيل إلى مرجعها الواقعي؟
تنحو الكتابات في دلالتها على المرجع الذي تحتفي به منحيين متعارضين:
أولهما، منحى تطابق فيه الدلالة ذاتها النصية، فتظل قيد المدلول المباشر للدوال اللغوية:
هنا تعتمد الكتابة في إرجاعها إلى الواقعي على لغة إبلاغية تقريرية أحادية البعد الدلالي، تنشد وصف الواقع والتحدث عنه دون ابتداعه في صور شعرية متعالية، لذا فهي كتابة تنحرف عن السوية الشعرية، ولعل هذا الانحراف ينكشف بجلاء، إذ تتوهم محاكاة مرجعها محاكاة حرفية، بينما هو مرجع دائم التجدد في وجوده الواقعي، أي صيرورة مسترسلة لا تني في استرسالها تبدد محاكاته تبديدا يجلوها عديمة الجدوى فاقدة نبض حياته(4).
مع هذا المنحى - حيث التقريري يلابس الواقعي - ترتهن الكتابة في وجودها المنجز فعليا بالبعد المكاني، ذلك أنها بتقريراتها تتنزل منزلة الوجود القار المغلق على ذاته، التي لا تفسح المجال لتأويلات الذوات المتلقية لتنفث في مرجعها معالم الوجود الحركي الزمني.
ثانيهما، منحى تخالف الدلالة مع ذاتها النصية، وانشراعها على المداليل غير المباشرة للدوال اللغوية:
هنا تعتمد الكتابة في إرجاعها إلى الواقعي على لغة إبداعية إيحائية متعددة الأبعاد الدلالية، تنشد محاورة الواقع والتحدث معه في سياق تلقيات متواترة تفترضها، لذا تضفي عليه أبعادا شعرية بالغة الغنى والتنوع، وترسم له مسارات تأويلات لا يمكن للذوات المتلقية المؤولة أن تتجاهلها.
مع هذا المنحى - حيث الإيحائي يلابس الواقعي - ترتهن الكتابة في وجودها المنجز افتراضيا بالبعد الزمني، ذلك أنها بإيحاءاتها تتنزل منزلة الوجود الحركي المنفتح على تأويلات الذوات المتلقية، التي تجعل مرجعها علة وجود لغيره.
إن المرجع الشعري مع هاته الكتابة، يتنزل منزلة المعادل الجمالي لصنوه الواقعي الزمني، إذ يغدو صيرورة إبداعية دلالية تداوم الاسترسال مداومة تدعونا إلى نعته بنعت المرجع المؤجل ، المنفتح باستمرار على الآتي من التأويلات انفتاحا يحدو به إلى مبارحة ذاته باستمرار، ما أن تلوح منها بارقة، حتى أنه يبدو الآتي دوما بحلة جديدة.
لهذا وذاك نرى ذاك التلقي التداولي الأحادي البعد الذي يقصره على المعنى المطلق النهائي، المتحقق بذاته، أوعلى تصور قبلي قار، يجني من جهة على شعريته ودلالته، ومن جهة أخرى يجني على خطابه التأويلي، الذي يتشرنق في شرنقة مونولوج ذاتي، يبعد عنه إمكانية الحوار والتخاصب، وينفي كل ما عداه من تلقيات.
إنه تلق يؤول أمام ذاك المرجع إلى لحظة عديمة الكفاءة التأويلية، إذ يفسر حركته الزمنية بالسكون، ويستذكر ماضيها، بدل تنشيطها بكفاءة التأويل، التي ما فتئت تدفع الدلالات اللغوية بما تتيحه من فراغات دلالية إلى أمدائها المتمادية، حيث تتيح الحركة المجازية التأويلية للمرجع الواقعي في تجليه الشعري قابلية التخلق المستمر،ومرادفة تلك الحركة الزمنية.
فما ينبغي أن لا نتغافله في سياق تقصي دلالة اللغة الشعرية على مرجعها، هو أن الدلالة الشعرية تتحرك دوما في مدار الانزياح عن مبدإ الهوية الثابتة، أي تتحرك في مدار "الاختلاف"، حيث تعيش حركة الاحتمالات، والافتراضات التأويلية، بل تعيش حركة اختلافها الدائم عن ذاتها بقدر ما تنشرع على القراءات.
إن الهوية الثابتة لا تهب الشعرية للمرجع، وإنما يهبها له "الاختلاف" أي اختلافه عن ذاته باختلاف قراءاته، فهذا "الاختلاف" بخلاف تلك الهوية لا يفردن الدلالة، ويعلبها في علبة المعنى النصي الحرفي، وإنما يحررها تحررا ترود إثره آفاق ما تستشرفه من "معنى المعنى" ، بحيث تخرج في مدار جدلية التلقي من حيز الوجود الفردي إلى حيز الوجود الجماعي، حيث تأخذ بعدا تاريخيا زمنيا تغدو به جماع تأويلات منفتحة على تباين أسئلتها بتباين أزمنة تلقيها وأمكنتها.
على أن حرية الدلالة وانشراعها يحد من رحابتهما -كتابة وتأويلا- الإيديولوجي، بل إن هذا الإيديولوجي قد يعدمهما ويوقع المعنى في شراكه، فيظل مراوحا عند المستوى التقريري، منشدا إلى حرفيته، فلا يرقى إلى مرقى الدلالة الشعرية.
إن الدلالة قمينة بما أودع فيها من دفق شعري باستثارة أسئلة المعيش، فهي تنداح إلى الأبعد منه، على مهاد جدلية السؤال والجواب، التي ما فتئت تحرك دلالات-أسئلة منشرعة على أخرى انشراعا يبدع الواقعي.
إلا أن هاته الأهمية التي تحظى بها الدلالة، ليست مبررا كافيا لوجود الشعري، ذلك أن هذا الشعري مزاوجة بين التلفظ والملفوظ.
فلئن كان هذا الملفوظ يتمثل في المقول، أي في ما احتواه من دلالات، فإن التلفظ يتمثل في المقول الدلالي وفي كيفية قول هذا المقول، أي في كيفية شعرنته وتشكيله تركيبيا وإيقاعيا.
وتبقى الدلالة في صميم العلاقة القائمة بين هذا وذاك قطب الرحى أو"المبدأ التنظيمي" الذي تنتظم وفقه المستويات اللغوية للقصيدة الشعرية.
بعد ما استحصلناه من محصلات، يحلو لنا أن نختم بالأسئلة الافتراضية، التي بعثتنا على كتابة هذا الموضوع، لأننا نراها أسئلة قد تعبث القراء كذلك على كتابة مواضيع أخرى تستضمرها، فما هي هاته الأسئلة؟
سنحاول التدرج على هاته الأسئلة التي انتظم وفقها تصورنا السالف في ما يلي:
هل الدلالة الشعرية تحد بما تقوله العلامات اللغوية أم بما تسكت عنه؟(5)
ايهما يحدها: الكتابة أم هامش صمتها؟
سواد العلامات اللغوية أم بياضها الدال؟
أ تذعن للمكتوب أم تنزاح عنه، فلا يعتبر لها وجود إلا في سيرورة تلقياتها؟
أتستقر على تجل تقريري قار، أم تتحرك على تجليات إيحائية حركية مشرعة على احتمالات تأويلية؟
أليست هاته الدلالة علاقة جدلية بين الكتابة والقراءات المتواترة؟
هل الدلالة مطلقة ترتهن بلغة موجودة بالفعل، أم نسبية ترتهن بلغة موجودة بالقوة؟
أتشترط وجودها بذاتها أم تشترطه بالذوات المتلقية؟
أهي حصيلة العلاقات التي تنشأ بين المستويات اللغوية للقصيدة الشعرية، أم حصيلة الاحتمالات الدلالية التي تستثار في سيرورة تلقياتها؟
ألا يدل "شكل" الشعري أو تمفصلات جماع المستويات اللغوية، وتراكبها تركيبيا وإيقاعيا على الدلالة، أو على تجل تلفظي من تجلياتها؟
هل الدلالة المتعددة الأبعاد تعد مبررا كافيا لوجود الشعري؟
أي واقع تدل عليه؟
أتدل على الواقع الحقيقي أم تدل على الواقع الحلمي الافتراضي؟
كيف تدل على هذا الواقع؟
أتدل عليه بالحقيقة أم بالمجاز؟
إلى أي مدى تبدعه؟
إنها أسئلة تتوق إلى ما يشرع الكتابة على الاحتمالي، الذي يهبها قابلية للتعدد والتنوع والاختلاف، ويجعلها تعيش في فضاء الحرية والانفتاح والحوار.
الهوامش :
(1) لذا فهي دلالة لا تذعن للتلقي التداولي الأحادي البعد، الذي يقصرها على معنى مطلق ونهائي، متحقق بذاته، وإنما تذعن للتلقي الأدبي، الذي يقر بتعدديتها الدلالية، ويعتبرها مجرد دلالة احتمالية نسبية.
(2) محمد بنيس: حداثة السؤال (بخصوص الحداثة العربية في الشعر والثقافة)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1985، ص:19.
(3) ولعل هذا الحوار يشف عن المبدأين المقترنين به إذ يستشف وفق ما هو وارد لدى جابر عصفور أي باعتباره " الفعل الذي لا يعرف النهايات المغلقة ولا ينتج الإجابات الجاهزة، ويرفض المسلمات المطلقة، إنه الفعل الذي ينطوي على تحول مستمر صاعد لا يكف عن توليد السؤال من الإجابة والانتقال من جمود التقليد إلى توهج الرغبة في الاكتشاف" المرجع: جابر عصفور، دعوة إلى الحوار، مجلة إبداع، ع: 8، أغسطس 1991، ص: 5.
(4) يقول الناقد صلاح فضل ما قاله ناقد غربي: "إن المحاكاة الفنية في حقيقة الأمر تتضمن فكرة متناقضة، إنها تختفي في نفس اللحظة التي تدرك فيها غايتها التامة، إذ لا تصبح عندئذ محاكاة" المرجع: بلاغة الخطاب وعلم النص، سلسلة: عالم المعرفة، ع: 164، آب 1992، ص:44.
(5) نظير هذا السؤال الإشكالي نجده لدى عبد السلام المسدي الذي ينعته بنعت السؤال الأبدي للأدب، يقول: " هل تكمن نوعية الحدث الأدبي فيما يعبر عنه الأثر أم فيما يوحي به دون أن يعبر؟ أي هل الأدب كامن فيما يقول أم فيما لا يقول؟ أفلا يكون الأدب تعبيرا صامتا ووجودا مائعا؟" انظر كتابه المعنون: الأسلوبية والأسلوب، الدار العربية للكتاب، الطبعة الثانية، طرابلس،1982، ص: 1982.