" انني في السفر وحده أجد نفسي متكاملا "
بيتر بروك
لاشيء بعد كل شيء.. سوى كتابة المذكرات , وانتظار الموت ..
لكن يبدو ان المخرج المسرحي البريطاني بيتر بروك ( 1925 - ) بعد كل هذه الستين عاما من الابداع المسرحي والسيمي حيث بدأ في منجزه الفني منذ عام 1946م , يحاول ان لا ينتظر سوى المزيد من الابداع المسرحي المتواصل برغم شيخوخته القدرية التي تحتضنه الآن ..
ومع هذا نراه يعمد الى كتابة سيرته الابداعية تلك مثلما يعمد العديد من المبدعين في أخريات ايامهم ..لكن مايميز سيرة بروك هذه عن سير الاخرين انها جاءت متجاورة و لصيقة بتنظيراته المسرحية المهمة التي عهدناه له في اكثر من كتاب .. فهو لم يلجأ هنا الى السيرة الشخصية حسب , بل طوعها الى الكشف عن آرائه التنظيرية وتحليلاته المسرحية ازاء كل هذه الخيوط الزمنية المتعاقبة والمتنقلة عبر محطات مكانية وزمانية عديدة .
في كتابه الجديد والموسوم ( بيتر بروك خيوط الزمن – سيرة شخصية ) الذي قام بترجمته وقدم له ( فاروق عبد القادر) والصادر حديثا عن دار العلوم للنشر والتوزيع- القاهرة- في طبعته الاولى .. يسرد بيتر بروك سيرته الابداعية منذ اهم محطاتها الاولى .. كاشفا عن اهم انبهاراته التي قادته الى عالم الاخراج المسرحي والسيمي على حد سواء .. فعبارة ( ممنوع الدخول ) الذي كان يراها مرفوعة على بعض الابواب والشوارع وغيرها تثيره جدا وتستفز فيه حب الفضول وهو لما يزل طفلا.. فلماذا مُنع الدخول .. فيقول : " وكنت اطور خيالات جامحة حول هذه المداخل مقتنعا بانها لابد تخفي متاهات غامضة تؤدي الى عالم تحت المدينة , وقد تمنيت طويلا ان ارفع مزاليج هذه الابواب الحديدية الممنوعة وانفذ من خلالها ... " كان يوقن ان ثمة عالما اخرا يربض خلف هذه الابواب .. عالم ثان مليء بالدهشة وغني بالاسطورة ويؤدي الى عوالم اخرى جديدة . والانبهار ذاته حينما يذهب مع امه - التي يصفها بانها صاحبة ميول فنية - لمشاهدة مسرحية , فلم يكن لينبهر بالحكاية او بالممثلين بل بالابواب والاجنحة فيقول : " فهي التي تستولي على خيالي ,الى اين تؤدي ؟ ماذا وراءها ؟ ويوما ما ارتفع الستار , ولم تكن الحوائط الثلاثة المعتادة لغرفة المعيشة , بل ظهرت سفينة عابرة محيطات حقيقية ولم يكن مفهوما اين تنتهي هذه السفينة الرائعة في جناحي المسرح . كان علي ان اعرف الى اين تؤدي هذه الممرات بعيدا عن تلك الابواب الحديدية الضخمة , وماذا كان فيما وراء هذه الكوى على جانبيها , اذا لم يكن البحر فهو المجهول . "
واحتلت الموسيقى ايضا مكانها لدى اهتمامات بروك في اوائل حياته ,فراح يتعلم العزف على البيانو على يد معلمته الروسية الاصل ( السيدة بيك ) المؤلفة الموسيقية وعازفة بيانو كانت قد درست في كونسرفتوار موسكو , تعلم منها ان من المبادىء التي يتوجب على العازف مراعاتها قبل بدء عزفه هي الاستعداد و الاسترخاء و الغوص في عمق المعنى المراد ايصاله .. هذه المبادىء وجدها بروك لاحقا تنطبق ذاتها على المخرج المسرحي الذي ينوي اخراج مسرحية ما .
كان التفكير يراوده وبرغم تنوع اهتماماته الفنية ان يصبح مخرجا مسرحيا تارة وسينمائيا تارة اخرى وفعلا كانت بدايته مع الاخراج السيمي ثم المسرحي واحيانا زاوج بين الاثنين في فترات محدودة من حياته .. يقول : " عند نقطة ما غرست في عقلي فكرة ان اكون مخرجا . ربما بدأت حين كنت في العاشرة حين أُرسلِت – بسبب احوالي الصحية – ضيفا مدفوع الاجر عند سيدتين عانستين تقيمان على الشاطيء . وعلى اللسان الممتد داخل البحر كان ثمة ما يسمى قاعة الاحتفالات الموسيقية ويجلس فيها رجال يرتدون حلل البليزر وقد طلوا وجوههم بطلاء من السناج يغنون ويعزفون على قيثارة جزر الهنولولو المعروفة بأسم أوكوليل , ويقدمون نمرا خفيفة , مسلحا بآلة بانجو وشاربين اصهبين ملصقين , اندفعت الى القاعة اسب والعن واجامل الفتاتين اللتين ستبقيان اثناء تقديم عرض المنوعات ,هذا وتذوقت للمرة الاولى النشوة المسكرة لان تكون رئيسا .. "
كانت لفظة انتاج مسرحي هي السائدة ابان تجارب بروك الاولى وليس اخراج مسرحي , حيث كان رؤساء الفرق المسرحية ومديروها يطلبون من المخرج انتاج نص مسرحي كانوا قد اختاروه سلفا ..لكن بعد سنوات راح بروك يؤكد على اهمية اختيار النص من قبل المخرج نفسه لانه المسؤول المباشر عن العمل برمته في النهاية لا مدير الفرقة حسب .. وراح بروك يفكر ومنذ بداياته المسرحية ايضا من حينها بالملل او الضجر الذي يمكن حدوثه اثناء العرض المسرحي :
" ذات يوم استوقفتني امرأة جميلة وقالت لي ( انني استطيع ان امنحك شيئا لايستطيع اي شخص اخر ان يمنحه لك . ) سألت وقد ثار فضولي وماهو ؟ . اجابتني : الملل .. ولم يكن هذا صحيحا لكنني اعجبت بالطريقة التي قدمت بها عرضها . فقد بدا لي الملل قوة من قوى العقل البناءة , واذا كان لي مرشد اعانني المرة بعد المرة في المسرح , خاصة في اخراج الكلاسيكيات والاوبرا , فقد كانت رغبتي العميقة في الا أوقع بالآخرين في تلك التعاسة التي تقبض عليك وتجعلك تتلوى ألما , في ذلك السأم القاتل للعقل , وهذا جوهر تجربتي في سنواتي الأولى من التردد على المسرح . " .. وفعلا بعد السنوات ولأهمية هذا الموضوع الذي شغل بروك سنوات طويلة قاده بعد ذلك الى ان يؤلف كتابا اسماه ( الشيطان هو الضجر ) وهو من مؤلفاته التنظيرية المهة ايضا الذي يستعرض فيه جزءا من تجاربه المسرحية ورحلاته .
كانت – والى الآن – رحلات بروك وسفراته عبر بلدان عديدة وشعوب ذات تقاليد ومورث منوع الأثر الأكبر في اغناء تجاربه واثراءها فكريا وجماليا ..فضلا عن تنوع خيارته لموضوعات شرقية منها وغربية .. وكان للمخزون الشرقي تميزه في نتاج بروك المسرحي التجريبي تحديدا على صعيد نص الاعداد واختيار المكان وبناء سينوغرافيا مناسبة للتجربة.. يقول : " هل كان صحيحاً انني لن اكون ابداً اقرب الى الحقيقة كما كنت في الرابعة عشر مستلقيا على الارض ، استطيع ان احس خفق الارض ؟ الان ، كانت حياتي تتارجح مثل بندول كبير بين البلاد والبشر ، بين السفر والمسرح ، بين طرائق شتى في الحياة . كنت دائما متشككا في اية عقيدة ، في اي اقتناع ، في اي برنامج يتجاهل التناقضات . معنى الفوضى ، الحاجة الى نظام ، الرغبة في الفعل ، قوة اللافعل ، الصمت الذي يهب ، وحده المعنى للصوت ، ضرورة التدخل وفضيلة اللاتدخل ، التوازن بين الحياة الداخلية والخارجية ، معضلة ماذا تمنح وماذا تقبض ، ماذا تاخذ وماذا تترك ، كنت يومها ، كما انا الان ، منجذباً نحو تلك الموضوعات المتحولة . ان تغيير الاساليب والاماكن والايقاعات يخلق طريقة حياة مليئة بالرغبة
والفرح ، لكن الاحساس بانك كرة متارجحة يحمل بداخله رغبة عميقة عند هذه الكرة ان تكون مربوطة بخيط ، خيط يجب ان يكون موجوداً ، على اي نحو ، حتى يحول بين الكرة والتدوين ، دون عودة في الفضاء الخارجي . "
الشعور بمتعة قرائية مع فضاءات بروك الراحلة دوما .. فمن لندن الى باريس .. ومن كابول وقندهار الى الهند ومنها الى المكسيك ثم الى افريقيا وقبلها الى ايران وافغانستان فضلا عن رحلات اخرى وتجارب اخرى ما بين برلين ونيويورك ثم الى الجنوب وغيرها من الامكنة والناس والحضارات الاخرى التي اخذت ايما ماخذ في تجاربه وابحاثه المسرحية . فمثلا نجد وصفه عن رحلته الى افغانستان يقول : " كابول تلك الايام كان فيها سحر . انه ليس السحر الذي يشبه الاحلام , بما فيه من ستر بيض وعطور , الذي نسقطه على الف ليلة وليلة , ولكنه سحر بني خشن . بني بلون جدران الطين والطرق الموحلة سحر ينتمي بقوة لهذا العالم , خشن وقاسٍ , حولته خاصية جلبها هؤلاء الناس انفسهم . ان سحر افغانستان الذي جعلني اعود اليها بعد سنوات لتصوير فلم ( لقاءات مع رجال مرموقين ) يكمن في الناس , في تلك الخاصية غير المرئية الكامنة في علاقاتهم , في احساس مفتوح معترف به بالحضور الديني , وهو امر تحدثنا عنه كثيرا وبحثنا عنه طويلا في بلادنا حتى حسبنا ان العالم قد فقد هذه الخاصية , هنا رايناها موجودة بالفعل , وراينا كيف يمكنها ان تتخلل كل شيء في الح ياة اليومية . " ويضيف في مكان اخر قوله : " وقادتنا رحلتنا اعمق واعمق في افغانستان المصانة ضد الغرباء بفعل الجبال والفقر حتى الهيبيز لم تتجول قوافلهم في ارضها بعد . كنا نبحث عن اديرة الرهبان , او اية تنظيمات او جماعات قامت تلبية للحاجة الى الرهينة . هذه الاماكن , كما اكتشفنا , كانت تسمى ( الخانكار ) حرفيا تعني بيوت العمل , ومعنى العمل هنا الانشطة التعبدية التي يقوم بها اعضاء جماعة صوفية , في اماكن تتوفر لها حراسة دقيقة , ولهذا السبب فلا شيء من الخارج يشير بان هذه الابنية تختلف بشيء عن سواها ... " .
الى جانب خبرة السفر هذه نجد تنوعا في خبرة التعامل مع نجوم المسرح المشهورين ممن تعامل معهم بروك واسند لهم ادوارا تميزوا فيها عبر تاريخهم الشخصي التمثيلي نذكر منهم : لورانس اوليفيه , وجين مورا , ومارجريت دورا , و جون جليجوود , بول سكوفيلد , و ريتشارد بورتون , وغليندا جاكسون .. هذا الى جانب علاقات فنية اخرى جمعته مع جان جينيه و برتولد بريخت و سلفادور دالي وسواهم , الامر الذي اعطى لخبرته تراكما معرفيا في فن التعامل مع الممثل وتطوير قواعد هذا الفن والحال نفسه مع مفهوم التجريب والتواصل العلمي والتطبيقي مع مدياته الابداعية المتواصلة مع النص والممثل الى الجمهور وكيفية جعله الركيزة الاكثر قوة في فضاء العرض بوصفه القوة المستقبلة لدلالات وافكار العرض المسرحي .
كما يفيض الكتاب بمفاهيم ورؤى للكثير من المصطلحات المسرحية يقف في المقدمة منها الاخراج المسرحي وفي اكثر من مكان من الكتاب لانه شغل بروك وقلقه الدائم , فيذكر مثلا ما نصه : " وعلمتنا الخبرة ايضا ان للاخراج جانبين متميزين , يمكن اذا دعت الحاجة فصل احدهما عن الاخر . هناك اولا ( الاخراج بمعنى اعداد المشهد ) , أو الاخراج الخارجي الذي ينتمي بشكل خاص الى الشروط الفيزيقية التي يقدم فيها العرض , هذه الشروط تشمل قاعة العرض , وارتفاع الخشبة وعرضها , وعدد المشاهدين وما الى ذلك . ثم هناك الاخراج الخفي او الخبيء , وهو تلك الشبكة غير المرئية من العلاقات بين الشخصيات والثيمات التي تتطور خلال البروفات , وله وجوده الخاص المستقل عن الشكل الخارجي . " .
يضيء بيتر بروك وعبر خيوطه الزمنية هذه سيرته الشخصية بحسب ما اسماها هو ,لكننا نراها سيرة ابداعية تجمع مابين الشخصي والعام , الذاتي والموضوعي , الثابت والمتحرك , وهي تضيء لنا الكواليس المسرحية المخفية في حياة بروك الابداعية .
كان التفكير يراوده وبرغم تنوع اهتماماته الفنية ان يصبح مخرجا مسرحيا تارة وسينمائيا تارة اخرى وفعلا كانت بدايته مع الاخراج السيمي ثم المسرحي واحيانا زاوج بين الاثنين في فترات محدودة من حياته .. يقول : " عند نقطة ما غرست في عقلي فكرة ان اكون مخرجا . ربما بدأت حين كنت في العاشرة حين أُرسلِت – بسبب احوالي الصحية – ضيفا مدفوع الاجر عند سيدتين عانستين تقيمان على الشاطيء . وعلى اللسان الممتد داخل البحر كان ثمة ما يسمى قاعة الاحتفالات الموسيقية ويجلس فيها رجال يرتدون حلل البليزر وقد طلوا وجوههم بطلاء من السناج يغنون ويعزفون على قيثارة جزر الهنولولو المعروفة بأسم أوكوليل , ويقدمون نمرا خفيفة , مسلحا بآلة بانجو وشاربين اصهبين ملصقين , اندفعت الى القاعة اسب والعن واجامل الفتاتين اللتين ستبقيان اثناء تقديم عرض المنوعات ,هذا وتذوقت للمرة الاولى النشوة المسكرة لان تكون رئيسا .. "
كانت لفظة انتاج مسرحي هي السائدة ابان تجارب بروك الاولى وليس اخراج مسرحي , حيث كان رؤساء الفرق المسرحية ومديروها يطلبون من المخرج انتاج نص مسرحي كانوا قد اختاروه سلفا ..لكن بعد سنوات راح بروك يؤكد على اهمية اختيار النص من قبل المخرج نفسه لانه المسؤول المباشر عن العمل برمته في النهاية لا مدير الفرقة حسب .. وراح بروك يفكر ومنذ بداياته المسرحية ايضا من حينها بالملل او الضجر الذي يمكن حدوثه اثناء العرض المسرحي :
" ذات يوم استوقفتني امرأة جميلة وقالت لي ( انني استطيع ان امنحك شيئا لايستطيع اي شخص اخر ان يمنحه لك . ) سألت وقد ثار فضولي وماهو ؟ . اجابتني : الملل .. ولم يكن هذا صحيحا لكنني اعجبت بالطريقة التي قدمت بها عرضها . فقد بدا لي الملل قوة من قوى العقل البناءة , واذا كان لي مرشد اعانني المرة بعد المرة في المسرح , خاصة في اخراج الكلاسيكيات والاوبرا , فقد كانت رغبتي العميقة في الا أوقع بالآخرين في تلك التعاسة التي تقبض عليك وتجعلك تتلوى ألما , في ذلك السأم القاتل للعقل , وهذا جوهر تجربتي في سنواتي الأولى من التردد على المسرح . " .. وفعلا بعد السنوات ولأهمية هذا الموضوع الذي شغل بروك سنوات طويلة قاده بعد ذلك الى ان يؤلف كتابا اسماه ( الشيطان هو الضجر ) وهو من مؤلفاته التنظيرية المهة ايضا الذي يستعرض فيه جزءا من تجاربه المسرحية ورحلاته .
كانت – والى الآن – رحلات بروك وسفراته عبر بلدان عديدة وشعوب ذات تقاليد ومورث منوع الأثر الأكبر في اغناء تجاربه واثراءها فكريا وجماليا ..فضلا عن تنوع خيارته لموضوعات شرقية منها وغربية .. وكان للمخزون الشرقي تميزه في نتاج بروك المسرحي التجريبي تحديدا على صعيد نص الاعداد واختيار المكان وبناء سينوغرافيا مناسبة للتجربة.. يقول : " هل كان صحيحاً انني لن اكون ابداً اقرب الى الحقيقة كما كنت في الرابعة عشر مستلقيا على الارض ، استطيع ان احس خفق الارض ؟ الان ، كانت حياتي تتارجح مثل بندول كبير بين البلاد والبشر ، بين السفر والمسرح ، بين طرائق شتى في الحياة . كنت دائما متشككا في اية عقيدة ، في اي اقتناع ، في اي برنامج يتجاهل التناقضات . معنى الفوضى ، الحاجة الى نظام ، الرغبة في الفعل ، قوة اللافعل ، الصمت الذي يهب ، وحده المعنى للصوت ، ضرورة التدخل وفضيلة اللاتدخل ، التوازن بين الحياة الداخلية والخارجية ، معضلة ماذا تمنح وماذا تقبض ، ماذا تاخذ وماذا تترك ، كنت يومها ، كما انا الان ، منجذباً نحو تلك الموضوعات المتحولة . ان تغيير الاساليب والاماكن والايقاعات يخلق طريقة حياة مليئة بالرغبة
والفرح ، لكن الاحساس بانك كرة متارجحة يحمل بداخله رغبة عميقة عند هذه الكرة ان تكون مربوطة بخيط ، خيط يجب ان يكون موجوداً ، على اي نحو ، حتى يحول بين الكرة والتدوين ، دون عودة في الفضاء الخارجي . "
الشعور بمتعة قرائية مع فضاءات بروك الراحلة دوما .. فمن لندن الى باريس .. ومن كابول وقندهار الى الهند ومنها الى المكسيك ثم الى افريقيا وقبلها الى ايران وافغانستان فضلا عن رحلات اخرى وتجارب اخرى ما بين برلين ونيويورك ثم الى الجنوب وغيرها من الامكنة والناس والحضارات الاخرى التي اخذت ايما ماخذ في تجاربه وابحاثه المسرحية . فمثلا نجد وصفه عن رحلته الى افغانستان يقول : " كابول تلك الايام كان فيها سحر . انه ليس السحر الذي يشبه الاحلام , بما فيه من ستر بيض وعطور , الذي نسقطه على الف ليلة وليلة , ولكنه سحر بني خشن . بني بلون جدران الطين والطرق الموحلة سحر ينتمي بقوة لهذا العالم , خشن وقاسٍ , حولته خاصية جلبها هؤلاء الناس انفسهم . ان سحر افغانستان الذي جعلني اعود اليها بعد سنوات لتصوير فلم ( لقاءات مع رجال مرموقين ) يكمن في الناس , في تلك الخاصية غير المرئية الكامنة في علاقاتهم , في احساس مفتوح معترف به بالحضور الديني , وهو امر تحدثنا عنه كثيرا وبحثنا عنه طويلا في بلادنا حتى حسبنا ان العالم قد فقد هذه الخاصية , هنا رايناها موجودة بالفعل , وراينا كيف يمكنها ان تتخلل كل شيء في الح ياة اليومية . " ويضيف في مكان اخر قوله : " وقادتنا رحلتنا اعمق واعمق في افغانستان المصانة ضد الغرباء بفعل الجبال والفقر حتى الهيبيز لم تتجول قوافلهم في ارضها بعد . كنا نبحث عن اديرة الرهبان , او اية تنظيمات او جماعات قامت تلبية للحاجة الى الرهينة . هذه الاماكن , كما اكتشفنا , كانت تسمى ( الخانكار ) حرفيا تعني بيوت العمل , ومعنى العمل هنا الانشطة التعبدية التي يقوم بها اعضاء جماعة صوفية , في اماكن تتوفر لها حراسة دقيقة , ولهذا السبب فلا شيء من الخارج يشير بان هذه الابنية تختلف بشيء عن سواها ... " .
الى جانب خبرة السفر هذه نجد تنوعا في خبرة التعامل مع نجوم المسرح المشهورين ممن تعامل معهم بروك واسند لهم ادوارا تميزوا فيها عبر تاريخهم الشخصي التمثيلي نذكر منهم : لورانس اوليفيه , وجين مورا , ومارجريت دورا , و جون جليجوود , بول سكوفيلد , و ريتشارد بورتون , وغليندا جاكسون .. هذا الى جانب علاقات فنية اخرى جمعته مع جان جينيه و برتولد بريخت و سلفادور دالي وسواهم , الامر الذي اعطى لخبرته تراكما معرفيا في فن التعامل مع الممثل وتطوير قواعد هذا الفن والحال نفسه مع مفهوم التجريب والتواصل العلمي والتطبيقي مع مدياته الابداعية المتواصلة مع النص والممثل الى الجمهور وكيفية جعله الركيزة الاكثر قوة في فضاء العرض بوصفه القوة المستقبلة لدلالات وافكار العرض المسرحي .
كما يفيض الكتاب بمفاهيم ورؤى للكثير من المصطلحات المسرحية يقف في المقدمة منها الاخراج المسرحي وفي اكثر من مكان من الكتاب لانه شغل بروك وقلقه الدائم , فيذكر مثلا ما نصه : " وعلمتنا الخبرة ايضا ان للاخراج جانبين متميزين , يمكن اذا دعت الحاجة فصل احدهما عن الاخر . هناك اولا ( الاخراج بمعنى اعداد المشهد ) , أو الاخراج الخارجي الذي ينتمي بشكل خاص الى الشروط الفيزيقية التي يقدم فيها العرض , هذه الشروط تشمل قاعة العرض , وارتفاع الخشبة وعرضها , وعدد المشاهدين وما الى ذلك . ثم هناك الاخراج الخفي او الخبيء , وهو تلك الشبكة غير المرئية من العلاقات بين الشخصيات والثيمات التي تتطور خلال البروفات , وله وجوده الخاص المستقل عن الشكل الخارجي . " .
يضيء بيتر بروك وعبر خيوطه الزمنية هذه سيرته الشخصية بحسب ما اسماها هو ,لكننا نراها سيرة ابداعية تجمع مابين الشخصي والعام , الذاتي والموضوعي , الثابت والمتحرك , وهي تضيء لنا الكواليس المسرحية المخفية في حياة بروك الابداعية .