( نداءُ الرّيح الأوّل )
النساء بهاءٌ من الحياة القاتل ، إكسيرُ الدُّنيا المعتَّق بالزّهر والمطر والرّياح !!
المرأة ككلّ كائن سحريّ ....لا تنحتُه سوى الذكريات ...لا ترسمه إلا التفاصيلْ ....
تلك التفاصيل الصغيرة التي تنفذ إليك كبداية الموت أو بقايا الحريقْ !
تلك التفاصيل العذبة : رقصةُ الأهداب....ارتعاشُ الأصابع ...حركة امتعاضٍ على الشفتيْن ...التفاتةٌ عجْلى على الرصيف ....يدٌ أتلفها الصقيع فمضت تبحث عن قبلةٍ في ثنايا المعاطفْ .....خاتمٌ شامخٌ يحيط إصبعا من كبرياء .....أناملٌ من عاج تُسوِّي خصلة شعْرٍ تُهرول في خِفّة لتعانق نسائم الصباح ......نظرةٌ مبتلَّة كالشتاء ، مُعلَّقةٌ بشبّاك قِطارٍ ، سيَرْحل ويحْملُ صخَب أحزانه بعيدا ، بعيدا .....كعبٌ صينيٌّ شامخٌ يحْتسي جراح طريقٍ أنهكه انتظارُ العاشقينْ ...!!!!!!!!
تاجر الحبّ أنا ، و في شوارع مدينة " أجاكْسِيُو" أدمنتُ قراءة عيون النساء ، مرآة المرأة عيونها ...و قاعُها قلبُها الراقص في دلالٍ مع المطر .....والقيظ ....والرّيح......
و مساءات الخريفْ ..!
تاجر الحبّ أنا و ما كنت أدرك أنني ظهر ذلك اليوم العجيب سأصبح قتيل الذكريات ......و نخّاس الأمنيات ..!!
أفعى من الحقد هي ، شبه عارية كانت ، أمسكتُها من شعرها بعنف و رميتُها على الأرض ، كان لابد أن أقضي عليها و أنفث فيها رغبتي وجنوني بأي شكل ، تلبّسني ثعبان الذكورة الشرس و خلتُني أراها بضاعة من اللحم الحي ، بدا صدرها عظيما تحت الغلالة الرقيقة ، كانت أول مرة أراها فيها و أتثبّت في ملامحها ، حين ركلتها بساقي أنّتْ في توجّع ، فلمحتُ عندما استدارت على بطنها عظم مؤخرتها المترجرجة ، لابد أن أتم مهمتي اليوم بل الان ، و دون تردد سترضخ لي بأي طريقة هذه الكلبة البضاعة ليست سوى سلعة متعة ...هي كلبة مرمية على السجاد الأحمر كتلة من اللحم الأسمر ، لم أنتبه إلى أنني قد أصبتها في فمها فحين استدارت تلك الكلبة و انتبهت إلى فمها الذي انطبعت عليه بقع حمراء ...اختلط المشهد علي بين السجاد الأحمر وجسدها الأبيض شبه العاري و رائحة الدم وجوع الانتقام ....كسا وجهها الدم الأحمر العنيد ...اختلطت سمرتها بحمرة ، تحوّل الدم إلى طوفان جعلني أتراجع خوفا ورعبا ..أحسست ظلال الدماء تفور من فمها لتستقر في جوفي وباء من الثأر ، استحلتُ إلى ضحية أمام أفعى تنفث السموم ، رائحة السموم لا تختلف عن رياح الغرب في بلادي تلك الرياح التي تهب كالموت أو أشد ، كانت تتلوى مثل أفعى دماء ، أصبح السجاد جزءا منها ، تحولت الحمرة إلى قرمزية لعينة ، خليط من السم يتلفح بأحمر الشفاه و حمرة الخيوط ودبيب الثأر ونقمة من لا حيلة ....وقفت حائرا لا أدري ما أفعل !...اختلطت الدماء بالدموع حين سمعت شهيقها المكتوم ...في تلك اللحظة المظلمة شق سكينة الحيرة ضحكة مجنونة خليعة زادت في رهبتي و غرست في باطني ارتعاشة عاتية ، شعرت رغم قوتي الكاذبة بجرذ يستنزفني يتحولني و يجعلني أشم رائحة الخذلان فأبدو متوترا أمام سطوة الأفعى المتمايلة و المتطاولة أمامي ، يزينها دم وسمٌّ وضحكات مخيفة ، ظل خليطها ثابتا و أصبحت أدور في الغرفة كالمجنون بل أقفز و أدور و ألحس شعري جرذا من المهانة ورائحة من المياه الآسنة ...أدور و أدور لا أدري من كان الضحية و أيّنا الفريسة ؟؟
كل ذلك ضاع في ظلمة الضحكات و تلابيب الدم ....توجهت إلى غرفة الحمام غسلت وجهي الملتهب حيرة ثم عدت ، وجدتها على نفس الوضعية خليطا من النقمة و ضحكا مسعورا من الدماء ...غير أني تماسكت و ظللت أفكر بكل حدة ...غامت الضحكات أمامي و رغم ذلك كان لابد أن أنهش هدفي كذئب بري ...عدت إليها كانت تتنفس بصعوبة من أثر الضرب و قد خمدت حركاتها و ابتلعت الأفعى ضحكاتها المجنونة و دموعها الخانعة في تلك اللحظة كان لابد أن أتثبت من شيء ...لقد شككت في كلام ألكسندر ..بدت المهمة و كأنها فخ ،" الثقة كذبة لعينة "هكذا قال لي روبرتو Roberto مذ كنا نراجع حسابات محصول العنب الأبيض في ضواحي أجاكسيو بجزيرة كورسيكا ....أشك في أمر ما...بل في أمور كثيرة لاحصر لها ..لماذا ترفض العمل بكل هذه الحدة و لماذا لا تفكر في ما يمكن أن يحصل لها إن رفضت العمل ، كنت أدرك أن البراتفا بوحشيتها كانت تقدم لها فرصتها الأخيرة للنجاة وهي جاهلة بما ينتظرها ......تداخلت الأفكار في ذهني و افترستني الحيرة و لم أعد أدري كيف أتصرف ...ما يهمني هو عدم جلب الانتباه ...أهم شيء هو سرية القذارة و رائحة اللحم المتلحف بالمال ....لابد أن أـتأكد من أمر ما ...نظرت إليها مرة أخرى ..ركزت سهام نظري عليها ..مازالت تزدرد دموعها أفعى من الحرام ....ولكني كبرق خاطف هجمت عليها ، و أفسحتُ بين قدميّ ثم ثبتُّها بسرعة بينهما وأحكمت رأسها بين ساقيّ ، أحسست بها تركل مؤخرتي من الخلف و تدفعني في عنف ...كلبة عاهرة ، صفعتها بقوة و ما إن أحسست بانفراجة بين شفتيها حتى أولجت إبهاميّ الآثنين في فمها المشوّه بالدماء و فتحتُه في عنف لأرى أضراسها و ما إن لمحت طاحونتها الأخيرة مغلفةً بالفضة تلتمع داخل ظلمة فمها حتى شعرت بالراحة بردًا يغسلني بل تخللتني جذوة الانتصار .....اللعنة على روبرتو كان يقول دائما إن الثقة كذبة و بضاعة تُشترى بالمال .....!!
هذا الصباح وقفت عند ذلك الشارع الصاخب في مدينة اسطنبول ، ذلك الشارع الذي استنزف فترة من عمري ، فهو الذي يربط بين جامع السلطان أحمد و ساحة مرمرة ، جلستُ إلى طاولة من الطاولات المتناثرة على طول الرصيف ، مقهى متواضع ،عجّل النادل بقهوتي التي يعرفها جيدا في حين أخذت أتأمل حركة المارين ناظرا إلى زبائن المطعم الذي كان يحاذي المقهى و يشاركه بنفس الطاولات ، كنت أدخن سيجارتي حين رأيته بجسمه الضخم ووجهه الأبيض بلون الثلج ، يرمي بثقله على الكرسي قبالتي بعد أن صافحني راسما ابتسامة لا معنى لها ، أخرج من معطفه جريدته ووضعها على الطاولة حدّق فيّ بتمعن ، بعد دقائق حمل النادل طبقه الصباحي المفضل فانهمك في نهش أجنحة الدجاج المشوية على الفحم يأكلها بنهم قطّ سمين جائع ، و بين الفينة والأخرى يغرق جوفه بجرعات من البيرة الباردة ، مسح يديه بمناديل الورق الموضوعة على الطاولة ثم أشعل لفافة و ظل ينفث دخانها في شراهة ، و حين كان يهمّ بإخراج الأوراق النقدية ليضعها على الطاولة قال لي بأنجليزية تتلفح بثلوج سيبريا :
-take the chiken to the Vinci ressorts Hotel
- خذ الدجاجة إلى فندق فنشي رسورتس .
ما إن أتم كلامه و نقد النادل حتى انفلت بتمهل فابتلعه الزقاق ..العمل مع البراتفا يجعلك ترمي كلمة الثقة في سلة المهملات من اليوم الأول ، كم مرة قلت له سلمني المهمات في الملهى أو في أي فندق تحت سيطرتنا ولكن بلا جدوى ، كنت أعرف أن ذلك أمر يدخل في إطار طريقتهم في العمل و لا يمكن له تغييره إذ لابد أن نكون دوما تحت مراقبة رجال البراتفا الأشبه بالأشباح !
تناولتُ جريدته التي تركها قريبة مني على الطاولة و قمت إلى النادل ، توجهتُ من توّي الى داخل المقهى و دلفت إلى الحمام ، أغلقته ، فتحت الجريدة كان بداخلها مغلف أبيض ، قمت بفضّه ، عددت المال كان به خمسمائة دولار كاملة ، كلها من فئة ورقة الخمسين و داخل المبلغ وجدت بطاقتين هما عبارة عن مفتاحين اوتوماتيكيين لشقتيْن ، و كل واحدة عليها اسم فندق ، عرفت مهمتي ، وضعت كل شيء في جيب معطفي الداخلي واحتفظت بالبطاقة الأولى في جيب بنطالي الخلفي , خرجت و توجهت من توّي إلى الفندق الأول لقد كان غير بعيد ،استنشقتالهواء البارد الهادئ ، و رميت نفسي في لجّة العابرين …..
لمدينة إسطنبول نكهة خاصة ومشاعر من بردْ ، يمتزج فيها شعور الرهبة بظلال وجوه راقصة بلا لون ....على وقع الأقدام المتسارعة على الأرضية الصخرية المعتقة تحتشد المعاطف بقتامة مجنونة تصعد إلى السماء الفارغة كالأمنيات !!!
عند مكتبه الرخامي في باحة الفندق الداخلية نقدتُ موظف الاستقبال عشرة دولارات ، كانت كافية ليسرّ لي بطابق الشقة التي سأتوجّه إليها و ذلك بعد أن استظهرت له بالبطاقة ...في المصعد سويت ياقة معطفي و نظرت لنفسي في المرآة : تونسي خليط أنا من سمرة أبي في الجنوب و عيني أمي الكورسيكية ، أفتح ساقي على طول المتوسط كعاهرة عجوز ...لم أرث عن أبي سوى قوة البنية و تخمة من الحنين النائم إلى شاطئ البحر و ظلال من الذكريات اللقيطة ...
دفعتْني في عنف فلبسني الوحش و استيقظ الجنون في باطني و حين أردت أن أجرّها إلى غرفة نومها ، صرختْ بصوت مفجع :
- سَيّبْنِي .. سَيّبْنِي ..يلعن بوك الكلب الحلّوف..!!
ما إن سمعت تلك الكلمات حتى شعرت بدوار يعصف بي ..تراختْ يداي ، أحسست المرارة تكنس حلقي و بنبضي يتسارع كبرد تائه في أزقة الشتاء ...لمحتُ رجفات خفيفة تفتّت أصابعي الغافية ، فانهرت على أقرب أريكة كتلة من الحيرة و الذهول و شتّى من الأسئلة ... وقفت هي أمامي كقطة جريحة دامية ، لم تفهم الذي حصل و لم تستوعب سبب انهياري المفاجئ ولكني أحسست أن نظرتها إليّ قد شابها غموض هادئ غريب ، تأملتُها ، طفتُ بنظراتي صفحات وجهها كانت بعينين سوداوين عميقتين و بشرة حنطية لذيذة و شعر أسود قصير مهمل في شكل دوائر متناسقة ...ظلتْ هي تنظر إليّ في استغراب ، أحست كأنني قد فهمت ما قالته لي ...في لحظة تذكرت شيئا... بحثت في جيب معطفي عن المغلف الأصفر في ارتعاش واضطراب بحثت ...و أخيرا وجدته في جيبي الداخلي ...كانت هي قد جلست على الأريكة المقابلة في ذهول هادئ...أخذت المغلف الأصفر و طفقت أفتحه في تردد ...باحثا عن جواز سفرها ....خنقني الإغماء تماما ...فقدتُ صلتي بالكون والعالم ..أحسست كأني أدور في دوامة تفتّتُني إلى صورة بلا ملامح و روحٍ تائهة بلا جسد و لا تاريخْ !!! ..أحسستُني شجرة بلا جذور تطير يتيمة بلا وجه و لامصير ....شعرت كأني أغرق في واد سحيق من المرارة و العبث ......قلبتُ ما بين يديّ في ارتعاش عاصف :
- إنه جواز سفر تونسي .....إنها تونسية !!!!
وضعتُ راحتيّ على وجهي و غرقت في الظلام .....ساحت نظراتي وأخذتني الذكريات إلى بلادي البعيدة ...كم بدا ذلك حزينا !!...كنت رجلاً في مهبّ الذكريات .....تقتله الرياح و يخنقه الخزي ...!!!
- ماذا عساي أفعل الآن ؟؟؟؟
تذكرتُ ألكسندر براتفا Bratva Alexander الخنزير الروسي بشفتيه الجافتيْن ورائحة الماريخوانا القوية التي تنبعث من فمه دائما مما جعل عطشه مزمنا فكانت زجاجة الماء لا تفارقه ، بأوشامه التي تغطي ذراعيه على نحو غريب و ترهاته التي ذكرها لي في المرات التي التقينا فيها ، كان كل كلامه يُلخَّص في عبارة واحدة هي كلمة السر بالنسبة إليه و هي محور عملنا :
" one idea…..much money prostutition :" الدعارة : فكرة واحدة ....الكثير من المال " ..لا شك أنه ينتظرني الآن لأحمل له البضاعة وينقدني القسم الثاني من المبلغ .....
- ماذا عساي أفعل الآن ؟؟؟؟
ألكسندر براتفا الرجل الذي لا يرحم ، لا يتنفس سوى المال ، أوشامه التي على جسمه تتحدث عن تاريخه في شوارع موسكو الخلفية ، الحقيقة أني لم أنفذ إلى عقله الذي أثخنه المال إلا حين وقفت بيننا " لوسن " Lawsen الفتاة الشيشانية ، كان ذلك في أول تعامل بين منظمتينا حين وقفنا جنبا إلى جنب في مطار إسطنبول و أراني صورتها ، كانت الطائرة قادمة من موسكو ، عند الرواق المخصص للانتظار بدأت عيناه تنهش القادمين و خاصة النساء ، بعد لحظات قليلة اقترب منا رجل أشقر ضخم الجثة سلّم عليه و ناوله مغلفا أصفر سرعان ما وضعه ألكسندر في جيب معطفه الداخلي ، لم تمض سوى دقائق معدودة حتى لمحناها قادمة تدفع عربة عليها حقيبة متواضعة ، انتظرها حتى وصلت حيث كنا نقف ، ثم استدار قليلا و قرّب منه العربة وأخذ يدفعها في خطوات حثيثة بينما كانت هي قد أسلمت نفسها لقدرها فأصبحت تتبعنا بخطوات متعثرة و نظرات تائهة تجول بهو المطار الفسيح المكتظ في ذعر دفين .
غير بعيد عن طريق الجامعة التركية باسطنبول ، في فندق أركاديا Arcadia و الذي طالما كان مسرحا لعملنا ، فهو في شارع فرعي ضيق و بعيد عن الشبهات ، إضافة إلى أنه دائما مليء بالتجار و السواح الأفارقة حتى أصبح و كأنه مخصص لهم ، و الأفارقة أكثر الناس إنفاقا على متعهم ، هم كذلك يعشقون اللحم الأبيض اللذيذ لأنه نادر في بلادهم ، بدا مدخل الفندق الضيق المتواضع كعادته مزدحما بأكياس كبيرة قد أتخمت بأدباش معدة للشحن ، عند الدرج ساعدتها على حمل حقيبتها الرثة الصغيرة و حين التقت نظراتنا لأول مرة شعرت في عينيها الواسعتين حزنا جميلا و رقة صامتة لطفلة صغيرة ، شممت رائحتها الجبلية الباردة ، دلف الكسندر الشقة و ما إن أغلق الباب حتى دخل غرفتها أفرغ حقيبتها من أغراضها كلها ، أمسك بهاتفها النقال الذي وجده في الجيب الخارجي ، فكّه ، الظاهر أنه لم يجد فيه بطاقة ذكية فأرجعه إلى مكانه ، رفع رأسه و رماها بنظرة نتنة كلها كراهية ثم هجم عليها و جرّها من شعرها ، مزّق فستانها الرخيص وظل يتأملها، لم يُبقِ عليها شيئا سوى ملابسها الداخلية ، بدا جسدها من بعيد بريقا من بياض اللذة و تمثالا رخاميا لجمال جريح ، أمسكها من يدها وجعل يديرها وكأنه يقلّب بضاعة ثم دفعها بقوة إلى الأمام لتنطرح على بطنها فوق الفراش ، نزع عنها ما بقي عليها ، كانت هي مستسلمة له في طاعة غريبة ، أدخل يده بين ساقيها في شيئها و كأنه يبحث عن شيء ، ثم فتح فمها ، نظر مليا في أضراسها ، ثم ألقاها على الفراش و كأنه يتخلص من ممسحة نتنة ، تناول منديلا ورقيا من على الطاولة مسح يديه ، التفت إليّ وقال مبتسما :
-khorosho moy drug
- كل شيء على ما يرام صديقي ….
جلس قبالتي و وقد ازدادت رائحة الماريخوانا قوة في الغرفة ، كان يتهيّأ لي في كثير من الأحيان أن ألكسندر لا يختلف في شيء عن نبات الماريخوانا فهو معوجّ و مشقَق و حين يحترق يصبح نتنا ، بل إنه أحيانا يتهيأ لي أن الشقوق التي تنهك شفتيه ستمتد لتحرث جسده وتوقظ أوشامه النائمة ، أغمض عينيه و جذب نفسا من لفافته المتخمة ثم فتحهما و قد شابهما خدر كسول ، رفع رأسه و سألني وهو يشير إليها في خبث :
- أتريدها ؟ إنها مازالت عارية ...
و انطلق في ضحكة ماجنة انتهت بسعال غليظ ثم واصل :
- لا تخف، في موسكو رجال البراتفا مع الجبليات لا يرحمون ...رأيتَها كيف تبدو مطيعة ؟! أنظر إليها إنها تنتظر عارية ..تنتظر مني إشارة لأقول لها البسي ملابسك ....أكيد أنهم هناك قد أغلقوا كل منافذها ....!!
و عاد يضحك بصوت عال ماجن و هو يكاد يختنق بدخان لفافته ، كنت أعرف أنه يستغرب إطالة مكوثي في الغرفة و لذلك اكتنف وجهه مسحة من الجد ثم قال لي :
- أنا أمقت القوقازيات رائحة الجبل والمواشي تقززني ، إن كنت تريدها اذهب وأدِّبْها ..
- ليس لي رغبة بها في الوقت الحالي ..
- سأنزل الان ، سأطلب من مطعم الفندق أن يجلب لها طعاما و أذهب إلى سوق الخضار لأشتري لها تفاحا أخضر لترطب به شفاهها ...
و نهض وهو يضحك كالأبله ...
قلت له عندما كنت بصدد البحث عن شراب لي في الثلاجة الصغيرة ، فتحت زجاجة البيرة شربت منها قليلا ثم قلت له :
- سأقوم بجولة حول الفندق لأستكشف المكان ...بدت لي الحركة غير عادية .... صيدنا سمين في هذا الحي و يجب أن نكون يقظين ... الأمور تبدو غير آمنة هذه الأيام ...رجال الشرطة يتحاشونني على غير عادتهم ...!
- أنت أفضل مني في هذه الأمور ...العمل مقسم بيننا : أنا دوري الدجاج والداخل و أنت الحماية و الخارج ...هم هكذا اتفقوا فيما بينهم هناك ونحن ننفذ ....على كل نلتقي هنا بعد ساعة ...
ألقى ما بقي من لفافته في المرحاض ، رمى الفتاة بنظرة صارمة ثم خرج ..
بعد لحظة أطل برأسه من الباب ناولني مفتاح الشقة و قال لي بصوت ثقيلٍ نتنْ :
- لا تنس أن تغلق الغرفة ...الشيشانيات حيوانات ...
قمت من مكاني ، وقفتُ عند باب غرفتها ، كانت مازالت كما قال ألكسندر جالسة على الفراش عارية تماما كتمثال لبسه الأرق ، حين أطلت الوقوف عند الباب ، رفعت رأسها إليّ و تسلقتني بنظرات حيية ، كان شعرها الأسود الفاحم قد أطلقته مسترسلا على كتفيها وتناثر على صدرها العاري فكانت الحلمتان كأنهما حبّتا كرز تلتحفان بورد جبليّ دافئ فتطلان في حياء لذيذ بين ستائر من الظلمة البهية ،.... التقت نظراتنا ، تحفزت رهبة و خوفا و كأنها تستعد لأمر ما ، كان لون عينيها لا يختلف عن ليل شعرها ، أشرت لها أن تضع شيئا على جسدها و تنظم أغراضها في الخزانة المتواضعة في إحدى زوايا الغرفة ....ألقيت مابقي من زجاجة البيرة في جوفي ثم خرجت ...
كما خمنت كان الجو متوترا في شارع السلطان أحمد ، أحسست أن هناك أمرا مريبا ، الصقيع يتلف الجلد و يخز الأذنين بلا رحمة و طول الطريق إلى الجامعة التركية كان العابرون من الطلاب الأتراك أو السواح الأجانب في حالة من القلق والتوتر ولكني كنت أعرف أن نبض الشارع هو ساحة مرمرة ، فتوجهت من توي إليها ...لاحظت أن عدد المارة متناقص وعلى غير العادة ، تقدمت قليلا بخطى حذرة نحو بداية الشارع في اتجاه المسجد الكبير ، وجدت الشرطة تقوم بحملة تفتيش لكل من يمر إلى الساحة و الجامعة ، من بعيد فتشت بنظراتي عن أمير ضابط مخفر الشرطة الخاص بالمنطقة تفرست في وجوه رجال الأمن من بعيد ولكن لا أثر له ، كنت خائفا أن تمتد الحملة إلى الفنادق المنتشرة ، اتصلت به على هاتفه النقال كان مغلقا ، اللعنة على ذلك الكلب إنه يريدني ان أضاعف له المبلغ الذي أدفعه له كل شهر ، تلك وسائله القذرة التي تعودت عليها ، خفت ان يزداد الوضع توترا فتتطور الحملات إلى مداهمات ، فمررت على بار التوانسة pudding shop الذي كان يفتح على ساحة مرمرة مباشرة ، دخلته وجدته شبه فارغ ، إذ في العادة يكون مختنقا بدخان سجائرهم الرخيصة و بأصواتهم العالية و حركات أيديهم المعلقة في السماء ، يشربون البيرة بنهم تلك هوايتهم الأبدية أما عملهم فكان سرقة جوازات السفر و المتاجرة بحبوب الهلوسة ، بحثت عن عرّابهم " كمال كْلَيِّصْ " ذاك النمس بسنّه المقطوعة و نظراته الثاقبة ، كان دائما في حالة توثّب وهو يترشف بيرته على الكونتوار ، وحين تأكدت أنه غير موجود ، رفعت ياقة معطفي وخرجتُ مسرعا عائدا إلى الفندق ، اتصلت مرارا بضابط الشرطة التركي و لكن عبثا و لا إجابة ، كانت الشمس قد مالت إلى الغروب حين كنتُ أحثّ الخطى غير بعيد عن باب الفندق حيث بدت لي الأمور طبيعية نوعا مّا فتوقفت لحظة عند محل العجوز الكردي الذي يبيع الفواكه باحثا عن ألكسندر ، لم يكن هناك فعاودني التوتر دون رحمة ، كنت متيقنا أن انعدام الحماية يعني انهيار أعمالنا كلها ، صعدت إلى غرفة الشيشانية لألتقي ألكسندر، فتحت الباب لم أجده هناك ، تناولت زجاجة بيرة من الثلاجة فتحتها، أشعلت لفافة نفخت دخانها في قلق ، انتبهت إلى أن الشيشانية قد وقفت عند باب غرفتها ، كان شعرها قد تشعّث و قد وضعت غلالة رقيقة بدت لي وكأنها ممزقة ، تقدمت حافية أمامي بخطوات متثاقلة ، كانت تضع يدها على جبهتها حين نظرت إليّ في حزن ، واستدارت لتريني آثار الدم على غلالتها الممزقة من الخلف ثم واجهتني ، وقفت أمامي وجها لوجه و أنزلت يدها من على جبهتها لتريني أثر الكدمة الزرقاء عليها و أشارت إليّ بإصبعيها علامة اثنين ، ، عادتْ إلى غرفتها من جديد ثم خرجت وفي يدها بقاياهاتفها النقال المهشَّم ، كانت شاردة وكأنها فاقدة الوعي ، عادت أدراجها إلى غرفتها ، عند ذلك عرفت أن ألكسندر قد عاد و فعل في جبليّته ما أراد ، قمت من مكاني فاتحا الثلاجة و أخذت شيئا من مكعبات الثلج ، لففته في خرقة وناولتها إياه ، ظلت تنظر إلي و قد أنهكها الشرود ، اقتربتُ منها و كانت جالسة على فراشها ، أمسكتُ يدها وجعلتها تضغط على مكان الكدمة على جبهتها ......دخل ألكسندر و قد حمل بيده زجاجة ماء وكيسا من التفاح الأخضر بدا سيء المزاج كنت أعرف أنه يصبح متشنجا و سيء المزاج في الليل من أثر الحشيش ، نظر إليّ ففهم كل شيء ، كان على قدر كبير من النباهة ، سالني وهو يضع التفاح في الثلاجة :
- ماذا قالت لك تلك الزبالة الجبلية ؟
- ألكسندر ، تمتعْ بها كما تشاء و لكن أن تترك على جسدها آثارا هذها يعطل مصالحنا ...ثم لماذا تهشم هاتفها النقال ؟ وفي النهاية أنت قلت إن البراتفا قد أعدّوها لما ينتظرها هنا ....الوضع سيء في الخارج نحن بحاجة لمزيد التركيز على مصالحنا حتى لا تتخلى عنا الشرطة ولا نسقط رهينة الابتزاز ...
- كلامك صحيح الوضع مريب في الخارج ....بالنسبة لتلك الزبالة نعم اشتهيتُها حين كنتَ غائبا و لكن حدث لي معها أمر غريب ...ربما لن تصدقه ..تصوَّرْ و أنا فوقها رنّ هاتفها بموسيقى دينية هي دعوة الصلاة عند المسلمين ...تصوَّرْ ماذا طلبت مني تلك الجبلية العاهرة ؟؟؟
طلبت مني التوقف ..أترى كم هي بلهاء تلك الجبلية ؟؟! لا والغريب أنها ألحت في طلبها حتى أنها تزحزحت من تحتي و أرادت أن تبحث عن هاتفها ، فما كان مني إلا أن قمت من فوقها و قد ركبني الجنون ...أمسكت هاتفها و حطمته على الأرض ثم وجهتها ناحية الحائط و أمسكتها و هي تئن كنعجة ذبيحة ...تْفُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتو على الشيشان كلها !!!
ثم وقف و أراد التوجه نحوها و وبزاقه يتطاير بين شقوق شفتيه قائلا كالمسعور و يده بين فخذيه :
- الزبالة الجبلية ..تلك سأكنسها بهذا ال...
وقفتُ ممسكا بذراعه و قلت له :
- ألكسندر تذكَّرْ : الدعارة : فكرة واحدة و الكثير من المال ...
همد جنونه حين سمع تلك العبارة ، سكت لحظة ثم سألني في شرود و كأنه يبحث عن شيء في الفراغ :
- و ماذا سنفعل الآن ؟؟ الوضع سيء في الخارج ...
أجبته في حزم :
- لا داعي للخروج الليلة فالوضع متوتر في الخارج ، ما يقلقني ليس الشرطة فحسب بل المخبرين أكيد أنهم يجوبون الشوارع بحثا عن صيد لهم بأمر من رؤسائهم .....أعرف أن ذلك الضابط اللعين يهددنا ويساومنا إنه يستدرجني لأفاوضه حتى أدفع له أكثر ...لقد أغلق هاتفه ..أعرف وسائله القذرة ...يوم غد سأذهب إلى بيته ..إنه يستدرجني إلى ملعبه ليكون موقفه أكثر قوة...الأمر يزداد تعقيدا ولا بد أن أستشير الكابو capo في أجاكسيو ...
سألني ألكسندر في ابتسامة خبيثة :
- هل تريدون أن ندخله الجنة ؟
انفجرت ضاحكا وقلت له :
- لا سنبيعه قطع غيار !!!
مدّ يده لي مصافحا و قد علا ضحكه النتن ...قلت له بجدية :
- هذه الليلة ننام هنا ...
أجابني ممتعضا :
- مع هذه الجبلية برائحة الروث والنعاج !!!
الجبلية ؟؟...ألم تضاجعتها مرتين حتى أدميتَها !!!
أيّ مصادفة لعينة هذه !!!!
كل شيء توقعتُه إلا أن أجد عاهرة تونسية على ملك مافيا البراتفا و تعمل في فندق بإسطنبول !!!!! .....مازال الظلام يغطي وجهي ، و الخدر ينخر أوصالي كالصقيع ، وقفتْ أمامي مستغربة ذهولي ، تأملتُ وجهها الحنطي و شعرها الفاحم ...بقايا الدم مازالت تحاصر أسفل شفتيها ، ينهشني التردد ، ، غارت الدنيا بما فيها و حاصرتني الرياح ....
- سَيّبْنِي .. سَيّبْنِي ..يلعن بوك الكلب الحلّوف..!!
كلماتها مازالت تتردد في داخلي حين كنت أهم بجرّها إلى غرفة نومها لإجبارها على المغادرة إلى فندق آخر ......حطّ عليّ الظلام كالقدر ...كلماتها ...تلك الكلمات أعرفها جيدا .....قد لا أفهمها و لكني أعرفها جيدا ...أعرفها .....إنها كلماته هو ...كلمات أبي ...نعم كلماته .......هي كلماته حين كان يقول لي بصوت مضمّخ بالخيلاء و الشموخ : " لا تخدعك زرقة عينيك ، شعرك المجعد الأسود هو حقيقتك ...يوما ما ستجد جذورك و لن تكبر إلا إذا انغرست في تربتك ...ستظل تائها طول العمر ...أنت لست إيطاليا ولا كورسيكيا ..أنت تونسي ...معين دمائك هناك في الجنوب ..أجدادك نحتوا الصخر و حفروا قصورهم وقبورهم هناك ..أجدادك نهشوا مستعمريهم و سقوا أرضهم بالمجد و الدماء ....أنت بلا وجه و لا ملامح حتى تعود إلى هناك ...تعود إلى هناك.. تعود إلى هناك ....تعود إلى هناك ...تعود إلى هناك " كلماتُه الصّدى ستظلّ دومًا تحزّ ذاكرتي كرِيحٍ هادرٍ أو كوشم عتيقْ ..!
أتذكّر حين تهبّ رياح القيظ بالصيف على سواحل مدينة أجاكسيو في جزيرة كورسيكا ، كان كل الناس يهرعون إلى بيوتهم و يشغلون المكيفات إلا أبي .... كان يستلقي عاري الصدر على أرجوحته المعلقة بين شجرتين في الحديقة و يغمض عينيه و تأخذه الأحلام ...رغم منع أمي لي ولكني أخرج إليه و أقف إلى جانبه و حين يشعر بي يداعب شعري ويبتسم مغمض العينين و يقول لي وكان المرض قد أخذ ينهشه : " أرأيت ؟؟!!هذه رياح بلادي تناديني و هذه دمائي تبعثني حيًّا من جديد ...يوما ما ستناديك أنت أيضا ..ستأتيك في زمن لا تعرفه و مكان لا تعرفه ...ولكنها ستأتيك ...لا تنس أبدا...لا تنس أن وجهك أرضْ ! و شعرك ذاكرة !!!! ...هناك في الجنوب البعيد ...أغمضْ عينيك لتشمّ رائحة الروح والرياحْ ...!!
فتحتُ جوازسفرها لأتأكد ، شعرت بنظراتها تفترس كفيّ ، قرأت الاسم المكتوب في جواز السفر بلغته الفرنسية :
- علياء بن محمد العثماني مواليد تونس العاصمة ....Alya ben Mohammed othmani
كان لابد أن أختار في تلك اللحظة ......لابد أن أكون أو أن أتوارى كالخيال ...لم أعد أنا ...تداخلتْني الأصوات و قهرتْني الصور الصمّاء كالحريق ... فحيحُ البراتفا يتآكلني كخزيٍ مُكابرْ .....ارتعاد روبرتو Roberto و هدوء ألكسندر Alexander العنيف و رائحة المال القذر تُقطِّعني أشلاءَ من جحيمْ ...... كلامُ أبي المحفور في روحي يبعثُني ..يُبعثرني ..يُهدهدُني كأصوات الموج ....وصوتُ الريح يخز أذني بقيظٍ ....يُشعلني حيرةً وارتعادا ...
في لحظة واحدة كفَّ صوت الريح عن الهذيان ، بحثتُ في ذاكرتي الغافية عن كلمات أبي و لهجته المشدودة كقيظ الجنوب.....لاحت لي الصور ثاقبة نافذة بلا لون ولا هذيانْ ، وقفتٌ و قلتُ لها بصوت واثق متعثّرٍ في حروف معتّقة :
- لـــــــمِّـــــــدْ دَبْــشِــــكْ بـَـاشْ تُـــهْـرُبْ !! ...lammed debchek bech tohrob
فتحتْ عينيها حتى ظننت أنهما ستخرجان من محجريهما و انفجرت قائلة بصوت عال مزيج من البهجة والبكاء :
- ما تقوليش إنتِ تونسي ؟؟؟!
أخذ جسمها ينتفض ، سرَتْ ارتعاشة خاطفة في أطرافها ، اقتربتْ مني ، تراجعتْ ، فتحت عينيها لتتثبت في وجهي وكأنني شبح خادع ، بحركة متردّدة أبعدت خصلة من شعرها عن عينيها ، تراجعت أكثر و هي تضع يمناها على فمها في ذهول ، جالت نظراتها التائهة في أرجاء الصالون بلا هدف ، عادت تنظر إليّ في استغراب ........و في الأخير هدأتْ نظراتها ، بدت لي و كأنها ترابٌ ثمِلَ بالمطر في ليلة شتاءٍ باردة ...... ركزت عينيها عليّ مرة أخرى ثم ارتمت بين أحضاني في بكاء يهزّها كالعاصفة ينهشني كالخزي !!!!
جلستُ على الأريكة مرة ثانية ، فاقتربتْ مني و جلست إلى جانبي تماما ، وضعت رأسها على كتفي في تردد وأطلقت زفرة حزينة متعبة ...مازال الانهيار ينهشني ...و الأفكار تلهب ذهني كغروب طويل ، تذكرت أبي الذي لبسه الصمت إذ قلّما تكلم بلهجته التونسية أمامي ، و لكن ما حيرني حقا هو أنني كنت أشعر دائما أني أسير عكس ما كان يريد ، لقد خذلته عندما تجاهلتُ عندما تقدّم في السن رغبته في العودة الى تونس بلده التي لم أعرفها وليس لي فيها أحد ، وربما لا يتذكرني أحد في قريته المنسية تلك النائمة بين البحر والجبل في الجنوب ......و ها أنا أجد نفسي أسير في الطريق الذي رسمه لي هو ، لطالما قال لي إن جذورك ستتعثر بها إن رحلت وحيدا بلا وجه ولا ملامح و ها أنا أجدها أمامي بل أتعثر بها كهزء القدر .....!
انتبهتُ إلى أنها تمدّ لي زجاجة البيرة ، تناولتها منها ، رأيتها تسقي جوفها الأجرد المتعب و تدعوني إلى الجلوس إلى الأرض على السجاد ساد بيننا الصمت في خيلاء ، بدا وجهها يكسوه الحبور والفرحة حين قالت لي و هي تضرب زجاجتها بزجاجتي وتقول في سعادة :
- نخب تونس بلادنا الكلبة التي تخلت عن أولادها ....
شربتْ ما في الزجاجة دفعة واحدة ثم سألتني في حماس :
- إذن أنت تونسي ؟
فأجبتها بإصرار :
- نعم تونسي و لكني لم أزرها ولو مرة واحدة ...
انفجرت ضاحكة و قبل أن تواصل كلامها قاطعتُها قائلاً :
- لو سمحتِ ....تكلمي معي بالفرنسية أو الإيطالية ...اللهجة التونسية لا أفهمها جيدا أو حاولي أن تتكلمي ...شوي ..شوي ...
أجابتني في مجون وهي تحرك رأسها في دعابة :
- اللهجة التونسية تخرج من فمك كالعسل ..تبدو لي وأنت تتكلمها كأنك تمضغ علكة ...!
و أردفت كلامها بضحكة رنانة ثم واصلت بعد أن هدأت قليلا :
- تونسي ولم تزر تونس ولو مرة واحدة ....ياخي انت تتمنيك عليّ؟؟؟
- حكاية طويلة ...احكي لي أنت ما الذي أوصلك إلى هنا ..؟؟؟
تنهدت ثم أجابتني بمرارة مشوبة بنقمة مدمّرة و صوت متقطع يحزه الحزن :
- حكاية طويلة أيضا ....الفقر والجوع والخصاصة و الهم .....بلادي اللي تخرجت منها قحبة مع ملاحظة ...ممتاز جدا ....عقد عملي كان في بيروت ..كان ذلك منذ أربع سنوات ...هناك في بيروت كنت سأعمل خبيرة تجميل .....ولكن بعد إقامة ثلاثة ليالي في فندق روتانا بشارع الحمرا تحولت إلى قحبة ....افتكوا جواز سفري ووقع ......
انهارت بالبكاء وأخذت تنتفض كعصفورة جريحة ...قربتُها مني ففتحت ذراعيها و أخذت تنتحب في حرقة و ظلت تتكلم بكلام غير مفهوم و لكن كل ما فهمته هو أنها انتقلت من مدينة دبي إلى اسطنبول و أنها قد تحولت بعد ذلك إلى مجرد سلعة ....رفعت رأسها و اقتربت مني ثم أمسكتْ وجهي بكفيها الباردتين ثم قالت لي بلهجة تونسية تتمطى من فمها و هي تطيل الحروف حتى أفهمها :
- نـــحــبـــــْ نـــــروّحْ لتــــتونسْ .......يعيــــيشك يعيشك
في ذلك اليو م ساعدتها في جمع أدباشها ، ثم طلبت منها أن تضع حجابا على رأسها ومن هاتف الفندق طلبت سيارة أجرة ، ركبت إلى جانبي وانطلقت السيارة إلى حي إمونيمو Eminonu ، أخذتها إلى شقتي و هناك قلت لها :
- لا تجيبي على أي مخابرة من الهاتف الثابت و لاتتصلي بأحد ، سأشتري لك هاتفا لتتصلي بأهلك ، سأنظر كيف أعيدك إلى تونس ......العملية ليست بسيطة و بحاجة إلى تضحيات و مغامرة أيضا ، دعيني أرتب الأمور ...سأذهب الآن إلى السوبرماركت القريب لأشتري لك طعاما و كل ما تحتاجينه لإقامتك هنا ....لن أطيل الغياب ..
قبل أن أخرج عانقتني و قالت لي :
- تعرف...... إلى الآن أنا مثل عبد يتحكم في مصيره تجار البشر ، تعرف ...جوازي لم أمسكه بيدي منذ اليوم الذي دخلت فيه فندق روتانا في بيروت ....
فأجبتها بسرعة :
- أوووه نسيت ...
فتشت في جيوب معطفي ، فتحت الظرف ثم ناولتها جوازها ....
أمسكته غير مصدقة فتحت عينيها ، بدت كانها مذهولة أو أصابها خبل أخذت تتصفحه ثم ارتمت عليّ تعانقني مرة أخرى ، رفعتْ رأسها بعد ذلك وقالت لي :
- لماذا تفعل هذا معي ؟
فأجبتها :
- لأرضي أبي حتى وهو ميت ..
فقالت وقد شعّ بريق أسمر من عينيها :
- لا بد أنه كان رجلا شهما مثلك ...
فقلت لها وأنا أمسك مقبض الباب وأهمّ بالخروج :
- أبي لم يكن شهمًا فحسب ...........أبي كان بطلاً!!!
فصل من رواية دواعش قرطاج لخيرالدين جمعة