ذات خريف، والشمس تفتح بوابة المغيب لجحافل الليل فوق بساط الغاب المديد، حط لقلاق على دوحة يروم بياتا؛ هرما، مهدودا كان إذ ما أن وقع واسْتَأْمن المكان حتى لوى عنقه ونام؛ في اللحظة ذاتها تعالت لقلقة فوقه، واهتزت أغصان حوله، فتنبه من غفوته ولمح بجواره فرخا من جنسه عليه قد وقع. ود أن يصرخ في وجه الزائر ويكيل له اللوم والتقريع بيد أن الدهر الذي عركه أثناه، واستحسن أكثر ردة فعله حين الصغير بصوت وقور ولباقة استعذر إليه وقال:
ـ عفوا سيدي إن أنا استبحت خلوتك، وكسرت بواكر غفوتك.. وسأكون أكثر سعيدا لو سمحت لي أن أشاركك المبيت..
رد الهرم بكل أريحية وطيبة:
ـ أهلا وسهلا بك يا ولدي .. على أرض الله الواسعة .. فحيث نحن يسع لسرب أو أكث، فكيف ونحن عدا اثنين..؟.
خيمت على المكان سكينة استرد بين مساحتها الشيخ غفوته المغتصبة، غير ان الصغير الحركيّ، النزقَ ما لبث أن تململ تململا عنيفا هز الفروع هزا استيقظ له اللقلاق من جديد ثائرا، وصاح في وجه الصغير:
ـ دعنا يا هذا ننام ونرتاح، فلنا هجرة تنتظرنا بعد أيام، أوِ... ابحث ـ لك ـ عن مبيت دون هذا.
شيئا ما مرعوبا وخجولا رد الصغير:
ـ عفوا سيدي، فنومي عصيٌّ لا يطيب إلا بعد سماع أقصوصة؛ فقد عوّدني والداي ـ سامحهما الله ـ على هذا النهج ليعلماني كيف أنام ...
قهقه الشيخ قهقهة مدّ لها عنقه الطويل وهو يرفس بكلتا قائمتيه مربضه، وقال :
طيب ... في جعبتي الكثي، فلا غضاضة بأن استمتع ـ أنا ـ بالحكي وحضرتك بالإصغاء ...إليك ـ إذا ـ هذه:
ذات يوم اصطاد جد الذئاب ظبيا، وأخذ يفترسه على عجل، وما كاد يستكفي حتى ابتلع عظمة استقرت في حلقومه، لا قدر على بلعها ولا استطاع إخراجها، فصار يعوي عواء المستغيث، فاجتمع له رهط من الحيوانات؛ استعطف الواحد منها بعد الآخر واعدا إياه بمكافأة، لكن لا حياة لمن تنادي.
حضر لقلاق، من أجدادنا وبكل جرأة ادخل منقاره الرفيع في حلقوم سيد الكلاب وأخرج العظمة؛ من غير شكر ولا دفع مكافأة غادر الذئب مسرح الأحداث.
غاضبا صاح في ظهره جدنا :
ـ اين المكافأة يا منافق..؟
ضاحكا، ساخرا رد عليه الذئب:
ـ أما كفاك أن تخرج رأسك من بين طواحني سالما يا طماع؟
انفض الجمع وهم يضحكون ويسخرون من بلادة جدنا.
و ضحك أيضا اللقلاق الصغير كثيرا ثم شكر مضيفه، و استسلم للنوم.
عند العشي لليوم الموالي اتفق أنه لما كان القلاق الصغير يمشي وطول النهر الكبير يلتقم بعضا من ضفادعه وأسماكه، وجد جمعا من الحيوانات مجتمعة حول ذئب يعوي من آلام عظمة استقرت في بلعومه، فبات أقرب إلى الموت خنقا إن لم يتخلص منها.
مستعجبا اللقلاق من سخرية القدر، مندهشا من مجرى الأحداث المعارض للنمطية وقوانين السببية؛ تساءل هل هو ابتلاء يا ترى ؟ أم هي دورة الحياة ؟ أم فرصة لي على طبق من ذهب للانتقام لبني جلدتي؟
بثبات شق الجمع وخاطب الذئب :
هل يا ترى ستفعل كما فعل سالفك حين وقع في نفس المطب فتخلف وعدك وتعض اليد التي مدت لك، أم ستكون شهما؟
رد سيد الكلاب وهو يتلوى من الألم:
نحن قوم أشراف، لا نخون ولا نمك، فما حُكي عنا عدا أساطير أوليين ، أعاهدك أمام هذا الجمع المبجل، أيها المبجل أن لا أكذبك. ولا أخلف وعدا
مزهوا الصغير بنفسه ، واثقا من ردود أفعاله ، تقدم وأدخل منقاره الرفيع في فم الذئب، ثم أخرجها وعظمةً في طرفه.
أحّ الذئب أحّات متفرقة وهو يبصبص ثم قال بنبرة أقل عسرا:
ـ ما تزال شظية أخرى عالقة يا سيدي أحس بوخزها قرب لهاتي، حاولْ إخراجها حفظك الله.
مد اللقلاق رقبته وما أن أدخل منقاره حتى اطبق الذئب عليه بقوة فولاذية تهشم عندها الرأس الصغير.
من دون أن يلتف الغادر جر وراءه الجثة وهو يقول:
التاريخ مليء بالعب، غبي من لم يستأنس به حتى وإن كان الحدث سوى أسطورة.
حدريوي مصطفى (العبدي)