الرسالة الثانية
------
حملت بين يدي ظرفا آخر، كان أثخن من سابقه.. تهيأ لي أنه يحتوي شيئا إلى جانب الرسالة.. خاب ظني، فالرسالة كانت عبارة عن بضع أوراق صغيرة الحجم.. لقد كانت رسالة أطول من سابقتها..
قررت أن أحمل الصندوق بما احتواه، واتجهت إلى ضفة النهر.. جلست على حافته، ووضعت بجانبي الزهرة التي كنت أراها وكأنها تستعيد عافيتها.. ! ربما لأنها أحست بكيمياء ما مع الرسائل..
حملت الأوراق/الرسالة وشرعت أقرأ..
* * * * * * *
"إلى ربة الشين"..
أنا الآن على الجبهة، بعد لا جديد يلوح، يبدو أن الحرب ليست إلا خدعة، أو ربما إن القادة اتفقا على نصب فخ للمقاتلين لإبعادهم عن أحبائهم.. أستغل هذه الفرصة لأكتب لك، أو بالأحرى لأن أحكي لكِ حكاية التحاقي بالجيش "الوطني" وكيف وصلنا إلى الجبهة..
كان اليوم، يوم سبت، 25 أبريل، 1965، شمس الربيع منتصبةٌ كشمس فان جوخ فوق القرية.. تجمعنا في محطة القطار، الذي قررت القيادة العليا نقلنا به إلى الجبهة.. كنا غرباء عن بعضنا، نحن أعضاء المجموعة "25"، التي كانت تضم 15 جنديا، كلهم متطوعين، مدفوعين بالحماس، وبحب الوطن.. كانوا شبابا مختلفي الأعمار، أكبرهم كنت أنا البالغ 29 عاما، فيما أصغرنا يبلغ الثامنة عشرة فقط.. كنت ألمح تلك الشعلة المتقدة في عيونهم المقبلة على الموت.. فيما كنت أنا مطفأ العينين، كأني سُقْت سوقا إلى هناك، رغم أني من توجه إلى مكتب التطوع بملء إرادتي..
كنت أنظر من زجاج النافذة، إلى الأشجار وكأنها تغادرنا إلى ماضٍ لن تعود منه، أو ربما لن نعود نحنُ من مستقبلنا الذاهبين إليه..! ثم ما ألبث أشرد في تلك العناقات الحارة التي كان يحظى بها الجنود من أهاليهم وتلك القبل الملتهبة، التي جمعت بعض المخطوبين أو بعض المتزوجين.. ثم العناقات التي ملأ بها بعض الجنود الآباء أبناءهم الصغار، الصغار جدا على أن يعيشونَ أمل الرجوع..!
كان ذاك الجندي "الصغيرُ" الذي جلس قبالتي، ينظر إلي، فبادرني بالسؤال، لماذا لم يأت أحدٌ ليودعك في المحطة؟
أصابني سؤاله بالدوار.. لم أتوقع أن ينتبه أحدٌ إلى أنني لم أحظ بعناقٍ مثل الذي حظوا به..!
حاولت عبثا أن أقنعه باني لا أحب أن يودعني أحد في المحطة، لأني لا أريد أن أبكي، أريد أن أظل قويا بما يكفي.. كما أني أخبرته بان أسرتي تقطن على بعد ساعات من المحطة ويصعب عليها المجيء، كما أني لست متزوجا..
ثم سأل ثانيةً:
- وماذا عن حبيبتك؟ لا تقل لي أنك لست على علاقة بامرأة معينة؟ (كان يسأل ويبتسم ابتسامة تبينتُ أنها ليست شيطانية).
أجبته في لامبالاة:
- أنا ليست لدي أي حبيبة، محددة..
ضحك.. ثم صمت طيلة رحلة القطار.. فقد أخذه بعد ذلك نوم عميق وهو مسند رأسه إلى النافذة .. نام وهو ينظر إلى الأشجار –مثلي- وهي ترحل مسرعة..!
حاولت بدوري النوم، قليلا.. لكن عبثا.. كيف أنام وصورتك تتراءى أمامي في تلك الأشجار التي ترحل إلى الماضي..!
لمّا وصلنا إلى الثكنة، التي سنبيت فيها قبل التنقل بواسطة شاحنات الجيش، إلى الجبهة لانتظار ساعة الصفر.. أمرنا عريف الثكنة بالاجتماع.. كان ذلك قصد توزيع الأغطية على الجنود.. كانت كل مجموعة تصطف في مكانها المخصص.. كل الأماكن مرقمة برقم المجموعة.. ثم ما لبثت أن سمعت صوتا ينادي على اسمي، كنت في وسط المجموعة، فقال بصوت حازم :
- أيها الجندي المتطوع "محمد فاتح"، منذ اللحظة أنت قائد مجموعتك، وكل الجنود مسؤوليتك أمام قادتك..
كان هذا كلُّ ما قال، ولم يترك لي فرصة للاعتراض.. فكيف أكون أنا الذي لم يتحمل مسؤولية في حياته، قائدا ومسؤولا عن أربعة وعشرون جنديا؟؟
امتثلت للأمر، مبديا التحية العسكرية، وأنا رافع هامتي.. لا أخفيكِ، كم كنت سعيدا في تلك اللحظة برفع هامتي..
انطلقنا مع ساعات الصبح الأولى، لا أخفيك يا "ربّة الشين" بأني لم أنم تلك الليلة ولا لحظةٍ واحدة، فكرت خلالها بالهروب من الثكنة.. لكني كنت أتراجع لأني لم أكن أعرف إلى أين سأتجه..! أفلم أختر هذا بإرادتي؟؟
وصلنا إلى الجبهة بعد ساعتين تقريبا.. كانت الخنادق والمتاريس معدّةً لاستقبالنا، استقبلنا ضابط، علمت بأنه قائد الفيلق، على الجبهة الثالثة، والتي ستعرف بعد بضعت أيام، بجبهة الأطفال.. لم أستوعب سبب تسميتهم لها بذلك الإسم! كيف استصغرونا بهذا الشكل.. لكنها في الحقيقة، كان جنودها الأكثر مشاكسة من بين المجموعات الأخرى..
أمر الضابط بتوزيع الرشاشات والقنابل اليدوية علينا.. وتم أمرنا باتخاذ مواقعنا، كل ثلاثة جنود في مجموعة، عداي، فأنا القائد، كنت مضطرا للتنقل بين المجموعات التي كانت تفصل بين كل منها مسافة محددة..
لأول مرة أحسست بثقل المسؤولية.. وفعلا شعرت بأن أولئك الجنود مثل أبناء لي، رغم فوارق السن البسيطة..!
بقينا هناك إلى حدود الليل، قبل أن تأخذ المناوبة مجموعة أخرى، في حين ذهبنا نحن إلى الخيام المنصوبة لراحة الجنود، قبل نشوب أي مواجهة مع العدو..
لم أخبركِ عن العدو.. ! كان العدو مجموعة من العصابات المسلحة، تدعي أنها تحارب عدوها الطبقي.. لتحرير المجتمع من نير الاضطهاد والاستبداد.. ثم إني لطالما كنتُ أمقتُ أولئك المتشبعين بفكر رجل أهبل يسمونه أب الماركسية "كارل ماركس"، كانوا معجبين به أيما إعجاب، كانوا يبجلونه كما يبجل الناس العاديون الأنبياء..
أخبرتنا القيادة بعد يومين، أن العدو، يستعد لشن هجمة على الجبهة، فأمرنا بالتأهب واستنفر كل من بالجبهة.. للتصدي للعدو "الأحمر الشرير" كما كان يسميه الضابط، الذي لم ينزع عنه تلك النظارة السوداء التي تخفي عيونه.. ربما كان يداري الخوف خلفهما.. فما المبرر لوضع تلك النظارة في تلك اللحظات المندفعة بحب الوطن والدفاع عن حوزته..!
هل أنتِ الآن على ضفة النهر!؟ لَعَلّكِ كذلك، وترعينَ تلك الزهرة الوحيدة..!؟
أقبِلُك من هنا، من "جبهة الأطفال"..
31 ماي 1965
"المشتاقُ لعينيْكِ"