كان القطار يسير ببطء شديد: فهو مخصص لنقل جنود وجرحى الحرب، كان جاكسون هو المسافر الوحيد المتبقي على متن ذلك القطار، المحطة القادمة بقي لها عشرون مترا، وبعدها يكون التوقف في كينكاردين والبحيرة، وعدا عن ذلك فقد كان جاكسون محظوظا؛ إذ تم حجز تذكرة له للسفر في القطار دون أن يتحمل أية تكاليف مادية.
تنفّس الصعداء أخيرا بعد أن سحب حقيبته ورآها تهبط في أرض لا يعرفها، جال ببصره من جديد يمينا وشمالا؛ ليتسنى له استكشاف المكان ثم بدأ يراقب القطار وهو يمضي في طريقه دون أن يلتفت إليه أو ينظر إلى الوراء. وما كاد جاكسون يستفيق من ذهوله بعد أن كان يتخبط على غير هدى بين أحضان الطبيعة الواسعة حتى حمل حقيبته من جديد وبدأ يمشي بعكس الاتجاه الذي يسير فيه القطار.
كان شابا يافعا في مقتبل العمر، عائدا للتو من الحرب في ألمانيا بعد غياب طويل، وعلى الرغم من أن الأماكن التي تسكنك يخفق في قلبك الحنين تجاهها عندما تبتعد، إلا أنه وعند العودة إليها فإنكما تبدوان كمن اغترب كل منكما عن الآخر. فالأماكن من دم ولحم، لا تكف عن أن تبادلنا ذات الشعور، بعد أن كانت لا تكف عن لملمة الصور طوال مدة غيابنا، وهكذا كان. فقد بدا غريبا أنّ كل شيء يعترض طريقه أو يقع مباشرة تحت ناظريه، فلم يكن على علم بأسماء الأشجار التي تنتصب في أسراب على جانبي الطريق وقد ظن للوهلة الأولى أنه يسير في إحدى الغابات. إلا أن الأمر لم يكن كذلك، فقد اتسع أمامه هدير الحقول بلونيها الرمادي والأصفر بعد أن استسلمت لشهر آب وهو يمعن في خربشة تفاصيلها كطفل مشاغب لا يكف عن العبث بألوان الحقول على دفتر الرسم الصغير.
(2)
كانت البقرة الصغيرة التي تدعى مارغريت روز يتم حلبها مرتين في اليوم؛ مرة في الصباح وأخرى في المساء، وهذا الصباح بدت سعيدة وهي تلتهم الأعشاب في المرعى وتسير في الطريق الممتدة على طول سكة القطار دون أن تعبأ لبيلي وهي تأمرها بأن تغيّر مسيرها وتتبعها.
أحست مارغريت روز فجأة بشيء يتحرك بين الاعشاب، فثارت ثائرتها وبدأت تحاول الركض بسرعة باتجاه جاكسون الذي صار يلوّح لها بيديه معتقدا أن ذلك سيهدئ من روعها.
- لن تؤذيك ابق ثابتا، صاحت بيلي.
- هي متفاجئة فحسب من الحقيبة التي بيدك، إن كان بالإمكان أن تلقيها أرضا لمدة دقيقة، سأعيدها إلى المزرعة لأحلبها.
فما كان من جاكسون إلا أن وضع حقيبته أرضا كما طلبت منه، ثم وقف صامتا دون حراك يراقب ما الذي سيحصل.
قامت بيلي بالإمساك بالبقرة وغيرت اتجاه سيرها ثم أدارت قرنيها باتجاه المزرعة. كانت امرأة جميلة وقصيرة ذات شعر رمادي يختلط باللون الأشقر، وكان لها غرّة تنزل على جبينها لتضفي عليه طابعا طفوليا.
- أنت جندي أليس كذلك؟
إذا انتظرت قليلا حتى أقوم بحلبها فبإمكانك أن تحصل على فطورك. كما أنه لدي بعض العصيدة، لكن! للأسف لا نقدر أن نقدم لك البيض، لأن الثعلب إفترس الدجاج الذي كنا نربيه.
- هذا لطف منك، الطعام جيد، سأدفع مقابل ذلك.
- لا حاجة لنا لذلك، فهي نفسها مهتمة بإخراج الحليب.
جال جاكسون ببصره في أنحاء المزرعة، كانت في حالة يرثى لها، دقق النظر في جوانبها، أيّ نوع من السيارات تلك التي تمتلكها بيلي؟..
لم يرى إلا عربة صغيرة تستلقي بجانبها كومة من الآلات المحطمة.
الدهان الأبيض للبيت كان قد اصطبغ باللون الرمادي، بينما دقت المسامير على حواف الشبابيك لتشغل مكان الزجاج المكسور، أما بيت الدجاج الذي قالت أن الثعلب قد اقتحمه فقد بدا متهالكا.
- ‘‘إذا كان ثمة رجل في هذا المكان فلا بد أنه يتصف بالكسل والخمول’’.. هذا ما قاله في نفسه.
بجانب المزرعة وقف فرس وديع، أعتقد أن هناك سبب للاحتفاظ بالبقرة، لكن! الحصان! فحتى قبل نشوب الحرب كان الناس يستبدلون الأحصنة بالتراكتور. وعدا عن ذلك فإن العربة في الحقل كانت كل ما لديها.
كان لا زال واقفا يتأمل المكان عندما صوتها يناديه:
- كل شيء صار جاهزا، بإمكانك الدخول من هذا الباب!.
قالت وهي تشير بيدها إلى الباب الخلفي:
- فالباب الأمامي عجزت عن فتحه في الشتاء الماضي بعد أن تجمد بسبب البرد.
مشى الاثنان على أرض وسخة مغطاة بالبطانيات، فاحت للوهلة الأولى عند وصوله إلى منتصف الغرفة رائحة العفونة. كان المكان باردا ورطبا لدرجة أعاده لذكريات المخبأ الذي كان ينام فيه أثناء الحرب، حين كان يستيقظ أثناء الليل عدة مرات لينأى بجسده إلى زاوية تضمن له الدفء.
سكبت الحليب الطازج في القنينة ثم وضعتها على الطاولة في المطبخ. كانت الطاولة مغطاة بغطاء زيتي بال، النوافذ كانت بلا ستائر، والفرن قد عفا عليه الزمن.
حتى الآن كان يوجد فائدة لكل شيء تملكه في البيت، لا يوجد شيء غير اعتيادي، لكنه عندما رفع بناظريه نحو الرفوف، شاهد مجموعة من الأوراق موضوعة قرب الفرن، عندها وجب أن يسألها إن لم تكن خائفة من حدوث الحريق بوجود كل تلك الأوراق بجانب الفرن.
- بالتأكيد أنا دائما هنا، أعني أنني أنام في المطبخ وأقوم بكل شيء هنا، لا يوجد مكان آخر غير هذا أستطيع فيه القيام بأعمالي. أنا متيقظة وليس لدي نار مدخنة.
كان على أمي أن تبقى على أية حال، لم يكن لدينا مكان آخر لتمكث فيه، لدي معطفها هنا، عيناي دائما مفتوحتان على أي شيء، أفكر بنقل هذه الأوراق إلى الغرفة الامامية، لكن المكان رطب جدا، لقد توفت أمي في أيار الماضي عندما بدأ الطقس بالتحسن، عاشت حتى سمعت عن نهاية الحرب بالمذياع، كانت قد فقدت القدرة على الكلام منذ زمن طويل؛ إلا أنها كانت تدرك ما يقال. أنا معتادة على عدم الكلام، حتى أنني أحيانا أظنها لازالت هنا، لكنها ليست كذلك.
أحس بعد ذلك أنه يجب عليه الاعتذار، حتى لو لم يكن من ذلك فائدة ترجى.
قدمت له العصيدة والخبز والشاي.
- أليس الشاي ثقيلا؟ هزّ برأسه وهو يرتشف رشفة منه.
- انا لا أقتصد في الشاي، إذا الأمر كذلك لماذا لا نشرب ماءً ساخنا؟
عندما كان الشتاء الماضي كل شيء تجمد، الماء الراديو والبحر، كان علي
أن أحمي مارغريت روز من البرد؛ فربطتها بالحبل ونقلتها إلى المطبخ، كانت مضطربة ومريضة في ذلك الحين، وقد نجت على أية حال.
وليجد لنفسه مكانا في الحديث سألها:
- هل يوجد أطفال صغار في الجوار؟
- لا بد أنك تقصد أطفال جماعة المينونيتس*، إنهم يسكنون بالقرب من هنا، يذهبون للكنيسة بالعربة وهم يغنون.
كنت أقول لأمي أننا نسير في الطريق الصحيح، لأننا سعداء مثلهم، العربة والحصان ونحن، كنا سعداء جميعا، لكن الفرق أن أحدا منا لا يستطيع أن يغني..
عندما انتهى من تناول الطعام عرض عليها أن يدفع مقابل ما أكل، لكنها دفعت يديه وطلبت منه إعادة النقود إلى جيبه.
بعد ذلك جلس وإياها في الخارج على كراسي المطبخ، بدأت تقص حكايتها وكان يستمع إليها.. لكن! دون انتباه تام، فقد كان يتساءل في سره: كيف تسنى لها المكوث في هذا المكان وحدها دون أن تفقد الأمل؟!. فقد كان المنزل يدعو للرثاء، وحتى وإن حاول أحد الاستثمار فيه فيسكون ذلك دون فائدة ترجى.
كان والدها اشترى هذا المنزل فقط لأيام الصيف، لكنه! بعد ذلك قرر أن عليهم العيش فيه بشكل دائم طيلة أيام العام. كان بإمكانه أن يجد فرصة عمل في أي مكان يريد؛ لأنه كان كاتب عمود في صحيفة "التيلغرام" في تورينتو. بالإضافة إلى ذلك فقد كان يكتب في كافة المواضيع، دون أن ينسى أن يذكر أمها في كتاباته، مطلقا عليها اسم "الاميرة".
أما سبب بقاءهم في هذا البيت فكان مرض أمها، ففي عام 1918 أصيبت الأم بالإنفلونزا، وعندما شفيت من مرضها كانت صماء. ومنذ ذلك الحين فقدت قدرتها على الكلام، إلا أنها كانت قادرة على إصدار بعض الأصوات؛ كأنها قد أضاعت الكلمات أو أن الكلمات هي التي أضاعتها.
كانت بيلي في ذلك الحين تدرس في مدرسة داخلية في تورنتو، تضم عددا من الفتيات اللواتي يملكن المال، الأمر الذي منحها شعورا بالفخر والتعالي، إلا أن المآسي ظلت تلاحقها حتى أدخلتها قاطرة الحياة؛ فبينما كان والدها يسير على سكة الحديد كالمعتاد، إذ صدمه قطار أودى بحياته، وتركها وأمها وحدهما مع قطار الوجع والذكريات.
كان هناك الحلب والطبخ والعناية بأمها، كما كان لديها الدجاجات، في ذلك الوقت تعلمت كيف تقطف البطاطا، وعندما اندلعت الحرب باعت سيارة أبيها، أعطاها جيرانها من المينونيتس حصانا غير معتاد على العمل في الحقول وعلموها كيف تتحكم فيه.
أحد الأصدقاء كان قد جاء لزيارتها ووجد أن عيشتها في ذلك المكان كانت مزرية للغاية. أرادت العودة لتورنتو لكن! ماذا عن أمها؟ لم تكن بيلي ترغب أن تجتث أمها من جذورها.
أول شيء كان على جاكسون القيام به هو بناء غرف أخرى غير المطبخ للنوم فيها. حاضرها عن الأوراق التي كانت في المطبخ، فوافقت على نقلها إلى غرفة أخرى.
قام بالاستثمار في السخان وأصلح الجدران ثم نصحها أن تقوم بقراءة الأوراق المكدسة في وقت فراغها. أخبرته بعد ذلك أن تلك الأوراق تضم رواية كان يريد أبوها كتابتها قبل أن يفارق الحياة. كانت تلك عبارة عن رواية تاريخية تحكي قصة عاشقين هما ماتيلدا وستيفين.
قالت:
- إن ستيفين كان بطلا قوميا، كان من ذلك النوع الذي لا ينقض عهدا، ومع ذلك لم يكن ناجحا، أما ماتيلدا فقد كانت من نسل الأمير ويليام، وبما انها كانت متغطرسة ومغرورة فقد كان من السذاجة بمكان ان تقف مدافعا عنها .
لو قدر له أن يكملها لكانت رواية رائعة.
لم يكن جاكسون بالتأكيد غبيا أو ساذجا، كان يعرف أن الكتب لا تظهر من الفراغ، هي موجودة لأن الكتاب يخطونها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه أنه إذا كان هنالك الكثير من الكتب التي كتبت عن الماضي، فلماذا يرغب كتاب الحاضر بتدوين هذا الماضي نفسه؟
كانت مأساة بكل ما تعنيه الكلمة.. قالت بيلي
ولم يعرف جاكسون إن كانت تقصد بالمأساة حادثة موت أبيها، أم تلك الرواية التي لم يكتب لها أن تكتمل. والآن فإن الذي كان يشغل باله هو تلك الغرفة. كانت على السطح، إذ كانت غير قابلة للعيش فيها ولا فائدة من إصلاحها، وعدا عن ذلك فقد كان راغبا بالرحيل عن ذلك المكان بحلول ليلة عيد الميلاد.
لاحقا أصبح جاكسون يخرج للتجول في أرجاء البلدة، يشتري أغراضا من السوق، يقص شعره، ويشتري التبغ وصار يدخن الآن بشراهة كمزارع متمرّس.
في صيف عام 1962 قام بإقناع بيلي باستبدال عربتها القديمة بسيارة جديدة، كانت تلك السيارة ستقوم بنقلهما في رحلة إلى تورنتو في ذلك العام، وبالرغم من ذلك فقد كانت تلك الرحلة غير متوقعة بالنسبة لهما؛ إذ أصيبت بيلي بورم خطير وكان عليها أن تخضع لعملية جراحية في تورنتو. وحتى ذلك الصباح الذي يسبق موعد إجراء العملية ظلت بيلي تحاول أن تغير من تفكيره وتقنعه بعدم الذهاب، وقالت أن الورم بدأ يصغر، وأن ضمان الصحة بالنسبة لنا ليس العمليات والأطباء، بل أن ذلك يجعل من حياتنا كالدراما التي لا تجلب لنا سوى التوتر حتى النهاية.
كانت قد هدأت عندما وصلا إلى المدينة، وجدا نفسيهما في طريق افينيو، كانت قادرة على استيعاب كل شيء حولها، بالرغم من دهشتها أن كل شيء قد تغير، كانت قادرة على تمييز كل شيء فهي تعرف المكان جيدا.
كانت هنالك العمارة التي سكنها أحد الأساتذة في مدرستها القديمة، وبجانبها كان هناك محل يحوي السجائر، والعصير والصحف، لكن! الأمر الذي لفت انتباهها هو وجود جريدة التليغرام التي كان يكتب فيها أبوها. على الغلاف وضعت صورته وكتب تحتها اسمه.
وعنما وصلا إلى الشارع العام، شاهدت الكنيسة التي تزوج فيها أبويها، يا إلهي! أمر لا يصدق، كانت والدتها قد أخبرتها أن القانون يحتم عليك الزواج في الكنيسة وإلا فإنه لا يعتبر شرعيا. أليس غريبا أن تأتي إلى تورنتو في هذا الوقت من أجل أن تنعش ذاكرتها!
في المستشفى جهزوها للعملية، أما جاكسون فقد أخذته الممرضة ليوقع على ورقة الدخول، تردد عندما سألته عن علاقته بها وكتب صديق.
عندما حان الوقت لزيارة بيلي كانت غاضبة لأن فمها كان جافا..
- لم يسمحوا لي بأكل أي شيء إلا القليل من الماء. ترقرقت الدموع من عينيها وهي تقول:
- أريد الذهاب إلى البيت.
- سنعود لاحقا.
- إذا لم تأخذني سأقوم بذلك بنفسي، سأذهب إلى محطة القطار.
- لا يوجد أي مسافر في المحطة ذاهب في طريقنا هذه اللحظة.
وبعد ذلك استسلمت وبدأت تتخلى شيئا فشيئا عن فكرة الهروب من المستشفى.
بعد يومين من العملية كانت بيلي تجلس في غرفة مختلفة متحمسة لرؤيته وغير منزعجة من أنين المرأة التي تجلس في السرير المجاور.
- لا تعرها أي انتباه، ستتحسن حالتها الصحية غدا وستصير كالحصان.
كانت تجلس في سريرها وهي تحتسي نوعا من عصير البرتقال، بدت أصغر عمرا منها حين أحضرت إلى المستشفى قبل وقت قصير. أرادت أن تعرف إذا كان قد حصل على قدر كاف من النوم إذا كان قد وجد، إن لم يكن الطقس حارا، إذا كان قد ذهب لمتحف أونتاريو الملكي كما نصحته، ثم بدأت تحدثه عن أبيها، لاحظ عندها تغيرا طرأ على نبرات صوتها على غير العادة. صارت تبحث عن الكلمات المناسبة ثم أكملت الحديث:
- كان البيت وقتها أفضل حالا منه عندما قدمت ورأيته، كانت غرفة الاستحمام تقع في الطابق الثاني، وكنت أسحب الماء وأحمله إلى فوق لأقوم بالاستحمام، خلعت ملابسي وبدأت أغسل نفسي، كنت عارية تماما، كانت حوالي التاسعة ليلا.
كان هنالك الكثير من الضوء والفصل صيفا، وبعدها سمعت صوت خطوات أحدهم يصعد السلم، بالتأكيد كان أبي، كان قد وضع أمي في فراشها، كنت أسمع صوت خطواته وهو يصعد باب الحمام.. كانت خطواته ثقيلة أو هكذا ظنت.
بعدة ذلك توقفت الخطوات قرب باب الحمام، ثم وإذ به يفتح على الباب فجأة وهو يتفحصني بعينيه، والأمر الذي أذهلني أنه نظر إلى كامل جسدي وليس فقط وجهي، كانت نظراته غير عادية. ظننت حينها أنه كان يمشي أثناء نومه، إذ أن بعض الناس في العادة يمشون أثناء نومهم، ولكن! عندما اعتذر لي أدركت أنه كان مستيقظا. اعتذر لي بصوت وقور، ترك الباب مفتوحا على مصراعيه ونزل إلى الطابق السفلي، كأن شيئا لم يكن، فما كان مني إلا أن جففت نفسي وذهبت للنوم في سريري.
وفي الصباح بدأ كل شيء كأنه عادي، كان أبي جالسا على مكتبه يقوم بالطباعة، قال لي: صباح الخير.. ثم ناداني وسألني عن تهجئة بعض الكلمات، لأنني كنت أفضل منه في التهجئة، بعد ذلك قلت له أن عليه أن يتعلم كيف يهجئ الكلمات إن أراد أن يصبح كاتبا.
وبعدها كان يستغل فترة وجودي في المطبخ لغسل الصحون لأتفاجأ بوجوده خلفي، الأمر الذي كان يجعلني أكاد أتجمد.
وفي أحد الليالي بينما كنت قد وضعت أمي في سريرها، ناديت أبي لكنه لم يكن موجودا، قلت في نفسي لابد قد خرج للمشي بين أحضان الطبيعة، فقد كان المشي جزءا من عاداته التي لا يستغني عنها، خاصة عندما يمل من الكتابة، وبعدها سمعت صوت القطار.
كنت قد أخبرتك سابقا أن والدي قد صدمه القطار، إلا أنني لم أخبرك قبلا أنه رمى بنفسه في طريق القطار. في البداية لم أستطع استيعاب الصدمة؛ إذ لم أكن أرغب أن أفكّر أن موت أبي كان بسببي أو حتى بسبب الجنس.
لكنني الآن أدرك الأمر تماما، لم يكن ذلك خطأي أو حتى خطأ أي أحد، إنه خطأ الغريزة الجنسية في ذواتنا التي تصر أن تضعنا في مواقف محرجة، بل حتى مأساوية في كثير من الأحيان. ما كنت لألوم والدي فمن الطبيعي أن يحصل له ذلك، كنت أكبر هناك ويشتد عودي، وكانت أمي في وضعها ذاك، لم يكن ذلك خطؤه، إنه خطء تلك الغريزة الجنسية.
نظر جاكسون إليها وهو يقول:
- أتفق معك، لكن ليست الغريزة الجنسية هي المشكلة، بل الأخطاء البشرية غالبا ما تكون قاتلة، أنت لست استثناء في هذا الموضوع.
وفي حين لم يتوقف أنين المرأة في السرير المجاور، كان جاكسون يحس به يرن داخل رأسه ويصيبه بالدوار.
سمع صوت خطوات الممرضة وهي تسير في الممر وتمنى لو أنها تدخل هذه الغرفة، وبالفعل حصل ما تمناه، فقد دخلت الممرضة للغرفة وقالت أنه قد حان موعد نوم بيلي، ودعها حينئذ وغادر الغرفة، كان سعيدا أنه ودعها دون أن تطلب قبلة الوداع على عادة المرضى والزوار في ذلك الوقت.
وفي الصباح نهض باكرا وقرر أن يأخذ استراحة قصيرة يبتعد فيها عن جو المستشفى قبل الفطور، لم يكن قلقا على وضع بيلي، فقد فكر أنها ستعود إلى حالتها الطبيعية في أسرع وقت ممكن، حتى أنها ستنسى ما أخبرته به عن أبيها.
(3)
كانت الشمس ترتفع في سقف السماء كما هو متوقع في ذلك الوقت من السنة، السيارات وحافلات النقل كانت تضج بالركاب، مشى جنوبا باتجاه شارع دندس، ثم وجد نفسه بين أزقة السوق الصيني الذي كان قد سمع عنه. العديد من أصناف الخضار ملأت المحلات، الحيوانات المذبوحة كانت معلقة ومجهزة للبيع، الشوارع كانت تزدحم بالشاحنات المحملة بالبضائع المهربة وبضجيج الصينيين. الجميع كان يصرخ على بضاعته كأن حربا تدور رحاها في ساحة السوق، أما هو فقد بدا منسجما مع ذلك الوضع إلى درجة أنه ذهب إلى مطعم يديره أحد الصينيين، يقدم فطورا مكونا من اللحم والبيض. وعندما خرج من المطعم قرر أن يعود من حيث أتى، لكنه! وجد نفسه يتوغل جنوبا ويدخل شارعا تمتد فيه العمارات السكنية التي ربما كانت قد بنيت قبل أن يشعر الناس بحاجتهم لتعبيد الطرق، أو قبل أن يمتلكوا أي نوع من السيارات. ظل يمشي في طريقه حتى رأى إشارة تدل على وصوله للشارع الملوكي الذي كان قد سمع عنه. بدا كأنه يتخبط في ذلك الشارع دون أن يعرف إلى أين يذهب، حتى اعترضت طريقه سيارة إسعاف منعته من متابعة المسير.
فأمام محل مخصص لبيع الكعك رأى حشدا من الناس يتجمهرون بالقرب من سيارة الاسعاف التي كانت على ما يبدو تنقل مريضا. البعض منهم كان يشكو من هذا الأمر ويتساءل إن كان من المخول لسيارة الإسعاف أن تعبر طريقا سكنيا وتمنع رواده من الوصول إلى وجهتم، أما البعض الآخر فقد تقبل الأمر بصدر رحب وصار يستفسر عن حالة المريض.
وفي تلك الأثناء جاء إليه من بعيد رجل يلهث، تبين في ما بعد أنه صاحب العمارة، وصار بقلق يتأمل سيارة الإسعاف وهي تطلق صافرتها وتغادر المكان. كان جاكسون من أولئك الذين لم يبتعدوا عن المكان، لم يكن لديه الفضول ليعرف ما الذي حصل بقدر ما كان يود أن يعرف إلى أين يتجه ليعود أدراجه من حيث أتى.
الرجل الذي جاء لاهثا من العمارة سأله إن كان على عجلة من أمره، فأجاب بالنفي، أخبره حينها أن من كان في سيارة الإسعاف هو حارس العمارة، وأن عليه الذهاب للمستشفى للاطمئنان عليه. طلب من جاكسون أن يراقب الداخلين والخارجين من العمارة، فهز رأسه موافقا ولم يمانع.
وقعت عيناه فجأة على كرسي لم يكن قد رآه من قبل، كان مزاحا عن طريق سيارة الإسعاف، بحيث تمر دون أن تصطدم به، فما كان منه إلا أن أزاحه عن طريق العابرين إلى العمارة وجلس عليه. عند جلوسه على الكرسي أدرك كم كانت بعيدة تلك المسافة التي قطعها منذ لحظة خروجه من المستشفى، كان صاحب العمارة قد أخبره أن يطلب قهوة أو كأسا من الشاي من المحل المجاور، إلا أنه نسي الأمر كليا.
عندما عاد الرجل، إعتذر له عن التأخير، ثم أبلغه بوفاة الرجل الذي أُخذ في سيارة الأسعاف، وأن إجراءات الجنازة يجب أن تتم، كما أنه سيكون ممتنا إذا وافق جاكسون على حراسة العمارة ريثما يتم الانتهاء من الدفن.
كان جاكسون يحب الإختلاط بسكان العمارة من كبار السن، وخاصة الذين يملكون مواهب واهتمامات، مذيع قديم على الراديو كان صوته مألوفا أثناء الحرب، لكن بعد أن تقاعد بدا كأن حباله الصوتية قد تقطعت إلى أجزاء صغيرة، بحيث لا يصدق أحد أنه لا يزال على قيد الحياة، وعلى الرغم من ذلك إلا أنه لا زال مهتما بمتابعة الأخبار العالمية، ومشتركا في جريدة "Globe and mail"، والتي أعطاها لجاكسون علّ فيها ما يثير اهتمامه فقرأ فيها الخبر التالي:
"انتقلت إلى رحمة الله تعالى ‘‘إيزابيلا تريس’’ ابنة ويليام تريس، كاتب العمود في صحيفة التليغرام، بعد صراع مرير مع مرض السرطان. تموز-8-1965"
لم يكن هناك ذكر في أي مكان عاشت، وخاصة هنا في تورنتو، حيث أمضت من السنين أكثر مما يتوقع.
أحس عند سماعه الخبر بالذهول، لم يفكر بالتغييرات التي أجراها في بيتها فحسب، بل أن كل شيء مرّ أمامه كالحلم؛ مما جعله يشعر بالحنقة أكثر من الفقدان، أو كأن عليه أن يقوم بعمل لم يكتمل للآن.
في هذه العمارة التي تدعى بوني دندي، يجب أن يكون هنالك اهتمام من قبل حارس العمارة بحاجات ساكنيها: كصيانة المناطق المحيطة بهم، ومخاطبتهم باحترام، هذا ما أوضحه له المالك؛ إلا أن جاكسون أشار إلى أن هؤلاء أو المعاتيه كما كان يسميهم، يبدون أكثر تحضرا من العامة، بالإضافة إلى ذلك فقد كانوا أقلية.
فهناك المرأة في تورنتو التي كانت تعزف البيانو، والمخترع الذي خانه الحظ في اختراعه ولم ينجزه للآن، والممثل الهنغاري الذي لاتزال لهجته دون المطلوب، لكنهم بحاجة إليه لأغراض تجارية، كل أولئك عليك احترامهم ومخاطبتهم بشكل جيد.
الإستثناء الوحيد في ذلك كان، الرفيقين الجديدين كانديس وكوينسي اللذان لم يدفعا للآن ما عليهما من مستحقات، ويخرجان من العمارة في منتصف الليل. كان المالك مستعدا لتحمل المسؤولية عندما قدما يبحثان عن غرفة، وقد علق على خياره السيء، إنه بحاجة لتجديد الدم الذي يجري في عروق ساكني العمارة.
وفي أيام الصيف قام جاكسون بفتح الأبواب الخلفية للعمارة حتى يتسنى للهواء الطازج الدخول إلى المكتب الذي يجلس فيه، وحين يكون المالك موجودا كان بدوره يخرج لقضاء بعض الأعمال.
كان هنالك جهاز للرد الآلي بالقرب من الباب الخارجي للعمارة، سمع فجأة صوت الباب يفتح وصوت امرأة عاد به في الذاكرة إلى الوراء، لقد كان يعرفها جيدا.
لا بد أنها ورثت صوتها هذا من والدها القديس.. هذا ما خطر له.
هذا هو العنوان الأخير الذي تملكه لابنتها، كانت تبحث عن ابنتها كانديس، جاءت إلى هنا من مدينة كولمبيا في بريطانيا حيث تسكن هي وابيها.
- لا بد أنها إيلين، نعم، هي إيلين.
سمعها تسأل إن كان من الممكن لها الجلوس، فسحب كرسيه وأعطاها إياه.
قالت إن الجو خانق أكثر مما كانت تتوقع، ثم طلبت منه كأسا من الماء.
أتى المالك من الممر، وعندما اقترب من الزاوية رأى جاكسون يستمع لها، فأشار إليه متسائلا، إن بات معتادا على التعامل مع هكذا نوع من الزبائن، فهز رأسه مجيبا بالنفي.
بعدها اعتذرت من المالك وأخبرته أنها جاءت تبحث عن ابنتها كانديس.
أخبرها عندئذ أنها قد غادرت العمارة منذ أكثر من شهر دون أن تترك عنوانا.
- هل هناك أمر آخر أنت مهتمة فيه؟
- لا شكرا، عطلتك عن أعمالك.
نهضت ايلين وانطلق وإياها خارج المكتب للباب الأمامي للعمارة. بعدها فتح الباب فابتلعها صخب الشارع؛ وعلى الرغم من ذلك فقد كانت حزينة وخائرة القوى، إذ كان عليها أن تخرج من الموقف المحرج الذي وجدت نفسها فيه. وعندما عاد المالك إلى المكتب قال:
- من الجيد أننا استعدنا نقودنا.
لقد كان من ذلك النوع من الناس الذين لا يهتمون بمصالحهم الشخصية الأمر الذي يقدره جاكسون فيه.
بالطبع كان يرغب أن يراها منذ زمن طويل، لم يكن لديه أي اهتمام بموضوع البنت، بقدر ما كان قلقا على أمها، لم تتغير كثيرا طيلة السنوات العشرين، كانت كما عرفها منذ زمن وقورة وهادئة رغم أن ابنتها قد كسرت قلبها بهروبها مع صديقها.
كانت امرأة مقاومة وواثقة من نفسها، كان جاكسون متأكدا أنها تستطيع تجاوز تلك الأزمة، وأن البنت ستعود للبيت عندما تحس بالحاجة لأمها، وقد تأتي وبين ذراعها طفل كعادة الفتيات هذه الأيام.
قبل ليلة الميلاد في عام 1940، حصل هنالك شغب في المدرسة الثانوية، كان قد وصل للطابق الثالث، حيث كانت إيلين وزملاؤها.
كانت إيلين ابنة للقسيس الوحيد في البلدة، وقد وصلت إلى المدرسة عندما كانت في الصف التاسع عندما قدمت إلى المدرسة، وبسبب قوانين الجلوس حسب الترتيب الأبجدي لأسماء الطلاب، فقد كان يتحتم على إيلين الجلوس خلف جاكسون آدمنز. في ذلك الوقت كان خجل جاكسون قد تم تقبله من قبل زملائه في الصف، أما بالنسبة لها فقد كان الأمر مستهجنا، وخلال الخمس سنوات التي سبقت افتراقهما كانا بشكل عفوي يتبادلان أطراف الحديث وبعض الأغراض المدرسية، لا لشيء إلا رغبة من إيلين في كسر الجليد الحاصل بسبب طبيعة جاكسون الخجولة.
كانت إيلين اجتماعية ومحبوبة من الجميع، وهذا ما كان يثيره فيها. وعندما حصلت المشاجرة في المدرسة بين طلبة الصفوف العليا كان جاكسون أحد المشاركين فيها، مما اثار استهجان إيلين وزميلاتها؛ فالأولاد الذين كانوا قبل عام يحملون على أكتافهم كتب المدرسة وينتقلون من صف لآخر، صاروا الآن يبدون أكبر مرتين بلباس الجيش الموحد. كانوا يهزون الأرض بأقدامهم، ويصدرون جلبة معلنين فيها أن المدرسة يجب أن تغلق بسبب انضمامهم للجيش.
الضابط المسؤول عنهم كان يحاول تنظيم صفوفهم، لكن! هذا الأمر قد تعذر نتيجة للصدمة والخوف التي لحقت بأولئك المراهقين حين تم اختيارهم للانضمام لجبهة القتال.
كان الموت يخيم بظلاله فوق نفوسهم، لدرجة أنهم كانوا يسكرون ويدخنون السجائر دون أي أدنى اهتمام بالقوانين التي تمنع ذلك. أدركت إيلين بحدسها أنه بإمكانها أن تتحكم في تصرفات هؤلاء المشاغبين وتمنعهم منها، لذك فقد شوهدت وهي تنزل مبتسمة عن درج المدرسة، لتقود جاكسون وزملاؤه ليقوموا بالتدخين خارج أسوار المدرسة.
لم يكن جاكسون يرغب بالعودة لمنزله؛ لأنه كان يكره زوجة ابيه لسبب غير معلوم، لذلك فقد دعته إيلين للمكوث في بيتهم، ومن حسن الحظ فقد كانت والدتها تبيت عند جدتها بسبب مرضها، ولم يكن فيه إلا ابيه واخوتها الذين لم يكونوا ليسألوها عن الداخلين والخارجين معها كما كانت ستفعل أمها.
أصبحت الفتاة والضابط قريبان من بعضهما البعض، دون أن يهتم والدها لهذا الأمر، إذ كان مهتما بالحرب أكثر من اهتمامه بشؤون أهل بيته، كما أنه كان يفتخر بوجود جندي في منزله.
عكف جاكسون وإيلين على الخروج للمشي والجلوس في المقهى يتبادلان فيه أطراف الحديث، بدا عليهما أنهما قد وقعا في الحب. وعند انضمامه لجبهة القتال، صارا يتبادلان الرسائل بين الحين والحين، كتبت إيلين عن اتمامها لدورة الطباعة، حصولها على عمل في مكتب محامي، وقد كانت تكتب بأسلوب ساخر لاعتقادها أن المشارك في الحرب يحتاج لبعض النكات. أما هو فكتب لها عن الحشود على الجانب الفرنسي، واستعداداته للانضمام لفرق القتال، حيث أنه كان قد أكمل مساق الخرائط، مما يعني أنه سيعمل خلف الخطوط عند الحاجه. وبشكل عام فقد كانت جل رسائله لها معمدة بالحب. حدث هناك صمت في تبادل الرسائل بعد الانزال النورماندي إلا أنه وبعد الانتصار في الحرب صارت كل رسائله لها تتحدث عن الزواج، وبعد ذلك أبلغها بموعد عودته أخيرا من جبهة القتال.
كانت ايلين قد تعلمت الحياكة، عكفت بعد ذلك على خياطة رداء صيفي على شرف قدومه، ثوبا ذا لون أخضر موشح بالحرير له أكمام طويلة، يلبس مع حزام ذهبي اللون مصنوع من الجلد.
"كل هذا قد تم وصفه لك حتى يتسنى لك أن تعرفني عندما آتي لاستقبالك في محطة القطار".
بعث لها برسالة عن طريق الفاكس يخبرها فيها أنه سيكون في قطار المساء، وأنه يستطيع تمييزها من بين جميع النساء.
في ليلتهم الأخيرة، جلسا إلى وقت متأخر في المطبخ حيث علقت على الجدار صورة للملك جورج السادس كتبت تحتها العبارات التالية:
"أقول للرجل الواقف على بوابة الزمن أعطني الضوء الأخضر الذي يخرجني من دوامة المجهول"..
فأجاب:
إذهب إلى الظلام وضع يدك بيد الله
ذلك سيكون بالنسبة لك أفضل من النور والشهرة، لأنك جيدا ستعرف الطريق.
بعدها صعد وإياها بهدوء للطابق الثاني ثم ذهب إلى فراشه.
كانت تلك مصيبة بالطريقة التي تصرفت فيها، لم تحسن ليلتها التصرف، والأنكى من ذلك هو قيامها بكبت مشاعرها تجاهه. وفي الصباح قام بتوديعها أمام أبيها واخوتها، لكنها! لم تعط أي ردة تشير إلى أنها تحبه، وافترقا كأن شيئا لم يكن، حاول أن ينساها بالشرب لكنه لم يستطع.
- "لماذا جاءت ؟ لا زال حضورها بثوبها الأخضر يستفز ذاكرته، أكانت قد أخطأت موعد الحضور؟ لماذا الآن؟ كان يتمنى أن يراها، أو حتى أن يسمع صوتها ولو من بعيد، لكن! ليس الآن. بدا أن صوتها لم يتغير كثيرا عما كان عليه، بحضوره ورقته ونوتاته الموسيقية، لازال كما عرفه في السابق، لا زال يقدر أن يميزها من بين جميع النساء، لا زال لها ذلك الحضور الذي تحتفي به ذاكرته، وعدا عن ذلك لم يلق بالا للفتاة إلا من ناحية أنه كان يكره صديقها".
"كل شيء يجب أن ينتهي، لابد أنها ستعود لتستفسر عن مكان وجود ابنتها، وإذا جاءت مرة أخرى فإنه لن يستطيع منع نفسه عنها، الباب الذي أقفل منذ زمن يجب أن لا يفتح. تلك كانت طبيعته، لم يعتد منذ صغره أن يلاحق الماضي، حتى كان يكره زوجة أبيه دون وجود سبب منطقي لذلك.
أمضى بعدها ثلاث ليال في العمارة، جهز فيها أغراضه، أفرغ حسابه البنكي وكتب للمالك أنه سيرحل دون أن يعلمه بوجهته. وفي المساء صعد إلى القطار، نام قليلا، وفي الليل سمع صوت أولاد من المينونيتس يغنون في إحدى قاطرات القطار. كان ذلك يحدث مسبقا في أحلامه.
في الصباح نزل من القطار في مدينة كابسكنغ، وتنفس هواء الحقول بعمق.