ينعطف الباص يمينًا، يخرج عن مساره الإسفلتي إلى أقصى ما يمكن ليستقر فوق الرمال الصلبة على جانب الطريق بالقرب من مدينة عسقلان جنوب فلسطين المحتلة، لحدوث عطل فيه أثناء عودته من القدس، متوجهًا إلى قطاع غزة، ويسمح للركاب بالخروج والجلوس حوله إلى حين حضور فريق الصيانة.
يتكئ الحاج الستيني أبو صالح بجوار سياج يدور قريبًا من المدخل الشرقي لقريته التي هُجر منها، وهو دون العاشرة من العمر، تنقر رأسه أفكار مجنونة يدفعها بقدميه، فمجازفة كهذه قد تكلفه حياته إذا شاهده أحد قطعان المستوطنين، ولن يكفيه عمره خلف قضبان السجن لو صادفته قوة من الجيش الإسرائيلي، وقد كان كل ما يحلم به عند مغادرته قطاع غزة صلاة ركعتين في المسجد الأقصى لا الموت خلف قضبان السجن.
تعاوده الفكرة ثانية محملة بحنين الطفولة، تداعب مخيلته بتلك الأيام الخوالي التي كان يركض فيها حول جميزة شابة تتوسط الساحة الغربية بين مسجد القرية وسوق العطارين، ترجوه أن يقتنص الفرصة، فنادراً ما يوافق القدر أمنياتنا، وقليلاً ما تكون الحياة في صالح أحلامنا، يشيح بوجهه عنها من دون أن يوصد الباب أمامها، فمن يقوى على أن يوصد الباب في وجه ذكريات الطفولة؟ وكيف له أن يفعل وقد صنع كل ما يستطيع كي لا ينسى معالم قريته، فنقشها على جدار قلبه، الدار تلو الدار، والشارع بعد الشارع، والبستان بجوار البستان؟
مجازفة مجنونة، لكنها غير مستحيلة، يخاطب نفسه: "ما بيشيل الراس إلا إلّي حطها"، يَصفع الخوف وينهض صامتًا في خفاء عن قلوب الحَاضرين، يَصل إلى قريته، يَكسرُ القهر على أبوابها، يتجول فيها، يخنقه الدمع وتفور في جسده الذكريات فور الدم المهدور على جدرانها العربية الصامدة رغم سنوات الخراب البارد، تمتد على أكتاف البيوت عنبة تموت ثمارها شوقًا للراحلين منذ زمن، يتفقد ما تبقى من القرية: ساحتها، بساتينها، دورها، دكاكينها، ومدرستها التي دمرت قبل أن تتفتح، ومسجدها، ومقام سيدنا "الولي" الله يرضى عليه، يتحسس الشقوق في جدرانها، يشمها فما زالت تحمل رائحتها الفلسطينية وتحتفظ بملمسها الفلاحي الأصيل.
يدور في شرايين القرية، يضخ فيها الحياة، يتنقل بين شجر وشجر، يتفقد مراتع كان يلعب فيها صبيًا، وحيطانا كان يرسم الأحلام عليها قبل أن تهوي على رؤوس أصحابها، فلم ينجُ من الموت تحتها إلا من فر إلى الموت في مخيمات لجوء تقتله فيها الأشواق والذكريات للبلد وطيف البلد، يمسح أتربة وغبارًا تراكمت على ساقية اغتالها طول الانتظار، ويتلمس آبارًا مطمورة تحت جفاء الزمان، وجداول تروي الأرض ريًا من حب إن انقطع عنها رَيَّ الماء.
يُقبل الجميزة، يحتضنها، يسند جسده على جذعها، يخاطبها "فاكرة كيت وكيت"، يضحكان ضحكة المفتون بالحب، يتناول منها ثمارها فيتسرب من بين يديه كل وعي وإدراك بالحاضر، يهبط في أعماق الماضي، يثور شيء من أريج الذكريات، فيلتقي مذاق ثمارها مع ذلك المذاق القديم، وتنهض أمامه القرية بأنوارها النضرة وأصواتها العذبة عامرة بأهلها، آنسة بأحبابها، تُلقي عليه التحية، تهمس بحنين فؤادها .. "طولت الغيبة يَبنية طولت كثير..!" تم تغفو على صدره في سلام الآمنين تحت ترابها.
يقبض على حفنة من رمل البلد يخبئه في ثوبه أجزاءً، يتنهد، يكبت العبرات .. يتمتم: "البلد على حطة إيدك من الثمنية وأربعين" .. وعلى أمل بعودة قريبة، يغادر.