الموت لا معنى له. الحياة لا معنى لها. عندما تولد يكون ذلك خارج إرادتك. عندما تموت يكون ذلك خارج إرادتك. مابين الولادة والموت يوجد شيء ما غير مفهوم. لا يمكن فهمه. يُسمونها الحياة، إلا أن لا أحد يعلم ما الغرض الحقيقي منها.
"ما الغرض من هذا؟" سألها ذات ليلة.
لم تجبه. لا تعرف بما يمكنها الرد. كان غريباً. ظنت أنه كان مثلها. تجاوز هذا السؤال منذ مدة طويلة. لطالما أحبت الغرباء، صديقاتها سخرن منها بسبب ذلك، لكنها ظلت تحب الغرباء، كانوا يجعلونها تشعر أنها ليست وحيدة.
هو عشيقها منذ سنتين. أخبرها أنه قاتل في الحرب. أنه قتل. بكى على صدرها. بكت هي أيضاً، ليس لسبب إلا أن مظهره ذكرها بأخيها الصغير الذي مات في حادث سيارة منذ أكثر من عشرة سنوات. بقي على سرير المستشفى لأيام، رأته مرتين. كان ميتاً، أخبرهم الأطباء بذلك لكن أمها لم تصدق.
أمها لم تعد مثل أمها قبل الحادث، كانت تشعر أنها قاتلة، أرادت أن تقتل نفسها، إلا أنها كانت تخاف من عقاب السماء، كانت تعتقد أن ابنها في الجنة، ولو قتلت نفسها ستدخل النار، ولن تقابل ابنها أبداً.
أشفقت عليها وأشفقت عليه. أشفقت على العديد من الناس الخائفين من السماء. كيف استطاعت أن تحب الغير وهي تشعر بالشفقة عليهم؟ هذا ما لم أستطع فهمه أبداً. لا يمكن للحب أن يكون شفقة ولا للشفقة أن تكون حبا. لكن يبدو أنها رأت فيه ما لا يمكنني رؤيته.
لم يكن يعلم أي أحد سرها – أنا لوحدي أعلمه– كان يمكنها الطيران وليس الطيران العادي مثل الطيور. كان يمكنها أن تطير خارج الأرض وخارج مجرتنا الصغيرة أيضاً إلى مجرات آخرى وعوالم آخرى.
لم تجد شيئاً. لا توجد مخلوقات آخرى غير المخلوقات الحية الموجودة على الأرض. أجل، توجد كواكب تصلح للعيش وفي يوم ما سيكتشفها البشر لكن لا يوجد أي مخلوق آخر، لا إنسان ولا حيوان ولا حتى صرصور صغير، بعض الزهور فقط. لم تكن توجد قوة خفيّة تتحكم بمصير الكون، والشمس لم تكن كيفما يقولون. كانت باردة ومظلمة. الغلاف الخارجي فقط كان يملك طبقة تصنع الضوء الذي يتحول لحرارة عندما يصل كوكبنا. وكانت توجد ثغرات في هذه الطبقة استطاعت أن تدخل منها إلى الشمس. لم تبقى هناك لدقيقة. كان كل شيء مظلما وبارداً وحزيناً. شعرت بالضجر ثم الحزن ثم اللاشيء. غادرت وعادت للأرض وأكملت نومها. كانت الشمس تتحلل. وخلال قرون لن يتبقى لنا شمس. وسنرحل إلى مجرة آخرى، كوكب آخر وسنستمر في الحياة: الحروب،الحب، الزواج، الموت والأمر لن ينتهي أبداً.
"ما الغرض من هذا؟" رددت سؤاله عدة مرات على نفسها. لم تفكر في الأمر من قبل. كانت تظن أنها قد توصلت إلى جواب على هذا السؤال. لكن يبدو أنها كانت تخدع نفسها.
"أنا Übermensch!" قالت لنفسها عندما قرأت نظرية (السوبرمان) لفريدريك نيتشه. "لماذا نستمر في الكذب على أنفسنا؟" سألته ذات يوم.
"ماذا تقصدين؟" سألها.
"أقصد أنه لا أعتقد أن أي شيء يوجد بعد هذه الحياة، لا جنة لا نار، والموت لا يساوي شيئاً، المعاناة مبالغ فيها، توجد المتعة والجمال، الهروب إلى الإعتقاد أنه يوجد خلاص بعد هذه الحياة كذبة، كذبة كبيرة جداً، ألا توافقني يا عزيزي؟"
لم يفهم ما قالت. حاولت شرح الأمر أكثر. لم يكن يفهم. أشفقت عليه أكثر. وأحست للحظة أنها والدته. كان يضاجعها عندما أحست بذلك. كأنها قد ولدته قبل أيام. هذا الرجل الكبير قوي البنية خرج من هذه الحفرة الصغيرة التي يضع فيها قضيبه.
ضحكت بينما كانت تتأوه. لم يعرف لماذا ضحكت. لكنه أحس أنها تسخر منه. احترمها رغم كل شيء. هي التي فقدت عذريتها لأجله دون رابط مقدس. فعلت الحرام لتسعده. هكذا كان يظن. لكنها لم تفقد عذريتها إلا لأنها أرادت ذلك. من أجل نفسها. لا من أجل أحد.
"أنا Übermensch!" رددت وهي تضع اصبعها داخلها لتفقد عذريتها في الحمام ذات صباح.
كانت تشعر أن فريدريك نيتشه هو الوحيد الذي كان يمكنه فهمها. رغبت به. رغبت أن تضاجعه وتحضنه. كانت جالسة على أحد أقمار المشتري ذات يوم تراقب إحدى المذنبات. كان كبيراً ورائعاً. أسمته نيتشه. المذنب نيتشه. ثم أخذت تضحك، وتمنت لو كان معها على هذا القمر يشاهد معها الكون والتفاهة والهراء وأفضل من كل هذا جمال هذه الفوضى التي أعطاها البشر قوانين وعلوم ونظريات.
كيف أصبحت تطير؟ ما الذي حدث؟ لا أعرف. لا يمكن معرفة ذلك أبداً. هذه الحكاية يكتبها بشري. ليس Übermensch مثلها. لن يكون أبداً. كل ما أعرف أنها استيقظت ذات يوم وهي تستطيع الطيران ليس في سماء الأرض فقط بل خلالها إلى نهاية الكون وبدايته.
وجدت أن الكون كله مثل دائرة. تصل لنهايته لتجد نفسها في بدايته. الوقت كان دائرة أيضاً. لقد أصبح الوقت بالنسبه لها مفهوماً بشرياً لا أهمية له. الساعة الواحدة ظهراً لا تعني شيئاً. فصل الربيع يعني أن الأرض أصبحت خضراء.
"لا يوجد وقت، يوجد مسار ثابت." قالت لنفسها وهي تشاهد تفتح زهرة ارجوانية كبيرة على كوكب الزهرة.
لم تعد تأكل كثيراً وأصبحت تشرب الماء أكثر. خمسة لترات أو أكثر كل يوم. "لأنني عطشة!" أجابت عندما سألتها أمها عن سبب شربها للماء بهذه الكثرة. كانت تملك رداً على كل سؤال. كانت فتاة ساخرة بإجابات لا معنى لها بالنسبة لهم. إنهم لا يعرفون شيئاً.
بعد وقت أصبحت أكثر توحداً وسخرية. لم تعد تذهب إلى الجامعة. كرهت الدراسة. كرهت البقاء في المنزل. وفي كل ليلة كانت تطير إلى مكان جديد. ثم انتهت كل الأماكن الجديدة. كانت قد زارت كل مكان في الكون. رأت أشياء عجيبة، مخيفة، جميلة، أشياء لم تفهمها إلا بصعوبة، وأشياء أخرى فهمتها بكل سهولة.
تشاجرت مع عشيقها. فجأة أصبح متديناً. عندما قابلته ذات يوم لم يسلم عليها. لم ينظر إليها حتى. أخبرها أنه لا يريد الحديث معها.
تركته وذهبت. بعد عدة شهور علمت أنه تزوج من فتاة صغيرة أصغر منه بعشرة سنوات. شعرت بالخيانة. شعرت بالقرف. كانت غاضبة. لكن ذلك لم يستمر طويلاً. نسيت الأمر بعد فترة. لكن شيئاً ما تغيّر فيها. شعرت أنها رغم كل ما رأت في حياتها مازالت تشعر مثل البشر. لم تستطع التحرر من بشريتها.
"أنا Übermensch! " ظلت تردد لنفسها لعدة أيام. كان ذلك مثل دعاء أو صلاة تقوم بها من أجل الإنسان. "الإله الأعظم على هذا الكون،" قالت لنفسها.
شفقتها بعد فترة تحولت إلى شفقة ممزوجة بكراهية منبثقة من لاجدوى عدميّة توّلدت فيها من اللاهدفية التي تكّون بها هذا الكون.
"ما الغرض؟" سألت نفسها عندما مرضت والدتها. مجدداً شعرت أنها بشرية. كانت تكره ذلك. تكره هذه المشاعر الحمقاء التي تجعلها تبكي. ماتت والدتها بسبب السرطان. بكت لثلاث أيام كل شيء وليس أمها فقط. الموت ذكرها أنها فانية ولو كان يمكنها امتلاك الكون كله. أرادت أن تكون سعيدة بأي ثمن ولو كان ذلك كذبة.
كانت خيّرة. كانت تملك القدرة على العيش بهناء. كانت تمتلك الفضيلة وكل المصادر الكافية لعيش الكائن الحي. لماذا إذا لم تكن سعيدة؟
لا أعرف. لكنها كانت ضجّرة. كانت ضجّرة للغاية. لحدّ أنها بدأت تكذب على نفسها. ظلت تُخبر نفسها بعد موت أمها أن هناك جنة. هناك نار. حتى أنها بدأت تصلي. كانت غير مقتنعة تماماً، لكنها استمرت فيما تفعل. توقفت عن الطيران. حاولت أن تصنع لنفسها ليمبو خاصا بها. أن ما تعيشه اليوم مجرد مرحلة مؤقتة ما بين بدأ النهاية ونهاية النهاية.
ظلت تنتظر لسنوات في الليمبو الذي صنعته. أكملت دراستها. لم تعد تطير مجدداً. تماشت مع التيار الرائج وقتها. بدأت تعمل. ونسيت أنها قادرة على الطيران لفترة. ثم تزوجت. لم تحبل. ذهبت هي وزوجها للطبيب. أكثر من طبيب. والرد كان ذاته كل مرة، "أنا أسف يا مدام، أنتِ لا يمكنك الإنجاب."
زوجها قرر أن يطلقها. لم يقل لها ذلك. لكنها كانت تعلم. لم يعد يأتي لينام في المنزل. لم يعد ينام معها. وذات يوم شاهدته مع امرأة أخرى. كان يبدو سعيداً. شعرت بالخيانة مجدداً. ليس بسبب زوجها، بل منها هي.
لقد تخلت عن الطيران لتكون سعيدة مثل الآخرين. لكنها لم تستطع أن تكون سعيدة.
"أنا Übermensch!" قالت لنفسها.
نسيت حتى كيف تُلفظ الكلمة. لكنها تذكرت معناها. كيف كان شعورها عندما حطت على الشمس ووجدتها مظلمة وباردة. كيف جلست على أحد أقمار المشتري تشاهد المذنبات وهي تعبر أمامها مثل غيوم بنية أو فضلات بشرية. تذكرت ضحكاتها عندما شبهت المذنبات البنية بالفضلات البشرية. تذكرت كيف ظلت تشاهد تفتح الزهرة الارجوانية الكبيرة على كوكب الزهرة. كرهت كونها بشرية.
"أنا غبية،" قالت لنفسها. "أنا لست بشرية مثلهم، أنا Übermensch ، الإنسانة السوبر، ما بعد الإنسان، أنا الفتاة سارقة الكون!" ثم بدأت تطير مجدداً. تركت عملها. تركت زوجها قبل أن يتركها. طارت خارج البلد. ولم تعد مجدداً.
هل كانت وحيدة؟ لا أعرف. ربما شعرت أنها وحيدة لكن ذلك لم يكن يهمها. لا أعتقد أن ذلك كان يهمها.
هي Übermensch في النهاية، ومثل هؤلاء – لا أعرف أحدا غيرها – لا يشعرون بالوحدة. يشعرون بالشفقة والضجر فقط. هذه المشاعر البشرية تعذبها منذ فترة. كان ذلك صعباً عليها، لكنها كانت تعلم أنه لم يعد بإمكانها أن تكون بشرية مجدداً منذ اللحظة الأولى التي استطاعت الطيران فيها. لم تعرف أبداً كيف تمكنت من الطيران. من أين هذه القدرة. من أعطاها إياها. لكن ذلك لم يهمها. لا يهمها لأن الأشياء الغير مهمة لا طائل منها، ولا فائدة من التفكير فيها.
لن وأبداً لن تتخلى عن قدرتها هذه. وبجانب ذلك لا يمكنها على العموم التخلي عنها. عندما تتغير تتغير للأبد ولا يمكنك العودة أبداً إلى ما كنت عليه. كانت تعلم ذلك. أنا أعلم ذلك. لكن العديد غيرنا لا يعلم ذلك.
فكرتْ بالإنتحار. رأيت ذلك في عينيها – نحن من فكرنا بذلك نعرف بعضنا البعض بمجرد نظرة – لكنها لم تستطع فعلها. ليس لأنها لا تريد الموت. ليس لأنها تريد الحياة. بل لأن ذلك كان ليكون بلاجدوى.
تغير شيء ما فيها. كانت واقفة أمام بيتها الصغير في قرية جبلية صغيرة شمال مدينة امبيريا الإيطالية. أسرتها سلسلة جبال لاغوريا الإيطالية. أحبت الأماكن المرتفعة. الجبال. الغيوم. أقمار الكواكب. ذلك الجبل الأزرق اسطواني الشكل على الكوكب الذي يشبه الأرض في المجرة التي أسمتها المجرة "الوردية" ما بين البداية والنهاية. كانت واقفة هناك أمام بيتها تشاهد أوراق الأشجار تتساقط ببطء. كانت هادئة وتبدو كأنها توصلت إلى الغرض من وراء كل شيء. كانت تبدو سعيدة.