لو كان القمر على علمٍ بما يخبّؤه له القدر، ما برح قمة الجبل الأبيض، وما فاته مولد أجمل كائن على وجه الأرض.......
أدبر آخر ليلٍ شتوي، وتنفّس الصباح إيذاناً بميلاد شمس أول يوم ربيعي. فتحت الشمس عينيها على حلةٍ بيضاء تكسو قمّة الجبل الشامخ، الذي استقبلها بحفاوة، استبدلت على إثر الشمس المشرقة حزناً في تلك اللحظة البارقة، التي ذاب فيها الثلج، وأخذ ما ذاب منه ينحدر من سفح الجبل نحو الأسفل، لتتطلع له بنظراتٍ جد آسفة وخجولة.
فهي لم تجيء لهذا المكان لتسلبه ثوبه الأبيض الناصع الجميل، لأن ذلك خارج عن إرادتها، فهي غير قادرةً على أن تمنع دفء نورها الذي سيهب الحياة إلى البسيطة، بعد سبات طويل. ومع ذلك طمأنته ووعدته، بأنّها ستهبه الاخضرار، ووهبته. وستجعل منه قبلة الباحثين عن الجمال الرباني، وجعلته.
إلا أن حزنه لم ينقطع. فعلمت بأنه يؤثر البياض ولا سبيل لإرجاع الزهو إليه، إلا بإرجاع بياضه. لكن من المستحيل أن يعود الشتاء بعد أن أدبر، وإلا فسيختل النظام الكوني، وتصاب الحياة بالفتور والملل.
ظلت الشمس ـ في كل نهار ـ تحاول مواساة الجبل، إلا أن ذلك لم يجد نفعاً معه. ورأت بأن حزنه هذا سيطول. فسجدت لله فألهمها. انفجر من باطن الأرض كنز دفين فأهدته الشمس إياه إكراماً له ولشموخه، لأنها لا تمنّي النفس بأن تراه ينكس هامته حزناً على ذهاب بياضه، الذي صار كحمامة حلًّقت، لتصير الحمامة سحابةً تعانق من شوقها الدفين، باقي السحب.
عسعس الليل، وتبعثرت النجوم في أرجائه، والقمر مكتمل مملوء بالعنفوان، يتلألأ كلؤلؤة في عمق البحار. آخذٌ في التوهّج، مرسلاً بنوره إلى الأرض على هيئة رجل، فارس أبيض اللون، مجنحٍ، في جعبته نايٌ عجيب وبضع فوانيس، وقوس ذهبيٌ، وسهامٌ من نور ونار. يعزف بنايه لحناً شجياً تهتز له السماء فتنفطر وتتصدع. ترسل الشمس كراتٍ من لهب، لا تلبث أن تتحد، فتصير فرساً مجنحةً جامحة، يصطادها رجل القمر، يروّضها، فتألفه. يدأب عليها الفارس في سعيه ينشر الفوانيس، ويعلّق كل واحدٍ في عَمَدٍ من أعمدة السماء، لتصبح على الإثر نجوماً تتلألأ، حالما يصوّب عليها قوسه، ويصيبها بسهامه النورانية، فيعم الضياء الأرض، ليعود رجل القمر لأخذ الفوانيس عقب إشراقة كل شمس، ممتطياً فرسه التي تجندل الكون على وقع سنابكها.
أخذ ينحدر من قمة الجبل إلى أسفله، متنقلاً بين الروض الأخضر وحشائش السفانا شديدة الإخضرار، مقتحماً النهر وشظايا البلور المكسور التي تحدثها الفرس على وقع اصطدام حوافرها بواجهة النهر الزجاجية، تتناثر ذات اليمين وذات الشمال، وإذا به يأخذ نفساً عميقاً، وينفخ الهواء من صدره بما أوتي من قوة، فيبعث بدفء أنفاسه؛ الحياة إلى الأرض، والتي كانت قد تجمدت ما بين لحظتين: غروب الشمس، وبزوغ القمر..
عم الخير، بعد أن لفحت هذه الأنفاس الأنهار؛ أذابتها، الأشجار؛ فخضًّرتها، الثمار؛ ففكَّهتها، وعلى القلوب حتى سكنها الدفء.
وعلى مقربة من أحد الأنْهُر المنتشرة في أرجاء شتى من المكان.. نزل الفارس من صهوة فرسه، ليروي ظمأه، لكن النهر ساكنٌ لا يجري، والأشجار لا تعزف سمفونيتها المعتادة عندما يحاكيها نسيم الجبل. والثمر دونما مذاق أو لون أو رائحة.
عزف بنايه لحناً حطّم وهم السكون من عيني الطبيعة..
فجأة.. أخذت الأنهار تجري تحت قدميه، تنساب من قمة الجبل الشامخ، سمّى باسم الله وشرب. جلس على إحدى ضفتي النهر، تحت شجرة توت كان قد تناول منها بضعُ ثمرات، وتناول أخرى من شجرة تفاح بقربه..
يتابع عزفه، ويلقي بأشعاره، وصدى نايه وصوته يرتدا لفضاءات سحيقة.
يذوب الثلج، فتقذف الأرض ما في باطنها من كنوز بفعل الماء. إذا برائحة زكية تعبق بالمكان. وكأنّ صاحبها أرسلها إليه ليضفي عليه متنفساً ينشده، ويمنحه الدفقة التي تجعله يصدر ألحاناً وكلمات نابعة من فطرته. اشتمها بعمق وكأنه لم يتنفس أمد حياته، في حين كان يرسم على ذرات الرمال بذات الناي أشكالاً غريبة، لم يألفها من قبل، ولم يتفطن لنفسه، إذ كان يفعل ذلك في حالة لا وعي منه، إي لا شعورياً..
بدأ يحاول اقتفاء مصدر الرائحة، مفتشاً بين الأشجار وشجيرات السفانا، وبين الجداول. عبر إلى الطرف الآخر حيث الضفة المقابلة للنهر، وبدأ يتجول بناظريه في أرجاء شتى من المكان، علًّه يهتدي لمصدرها (الرائحة الزكية)
وفجأةً.. يتأوه. أوّااااااااااااااه.. يا لله.. ماذا عساه يكون هذا الشيء الجميل؟.. لقد فتنته صاحبة هذه الرائحة، هي لم تكن ملاكاً!، أو جنية!، بل وردة حمراء.. هي ذاتها التي وهبتها الشمس للجبل إكراماً له ولشموخه.
بدت الوردة في عينيه ترقص، وهي تتمايل مع نسيم الجبل الذي بدا وكأنه أبٌ يلاعب طفلته، مهدياً إياها أروع عبارات الود، التي علّمته إيّاها الطيور العائدة من رحلة مضنية للبحث عن الربيع الدائم..
بديعة في منظرها. إذا ما وقعت عليها الأعين إلا واشتهت اقتطافها.. أضفى عبق شذاها على المكان جواً شاعرياً ذي زخم رومانسي حالم.. انتابته السعادة التي يرجوها، والتي لم يعهد لها مثيل من ذي قبل. وهو الذي دائماً ما ينفك يشدّ الرحال باحثاً عن الجمال الإلهي..
فجأة..!. إذا بصوتٍ يتردّد صداه، يحثه على اقتطافها كي تمنحه السعادة الأبدية، والخلود الذي ظل ينشدهما منذ زمن.. التفت من حوله، لكنه لم يجد صاحب الصدى!. لم يأبه له ولم يستجب لأوامره. مكتفياً بالتحديق في الوردة حتى اغتنت عيناه بسحرها الأخًّاذ.. ثم همّ يلملم فوانيسه التي بعثرها من قبلُ في أرجاء السماء، وقد ركب فرسه وغادر على أمل أن يعود إليها، مع كل ليلة يبزغ فيها القمر يزورها ويقضي ما تبقّى له من الوقت بمقربة منها، لأنه شعر بأنه في أمس الحاجة لها، وهي كذلك.
سيتعمق هذا الشعور عندما يعاين خطرا متربصا بها ويود مداهمتها.. وأن هناك من سيقتلعها من جذورها على حين غرة، وهي لا تقوى على الدفاع عن نفسها لرقتها.
بدأ يهتم بها، يسقيها من النهر، ويسلط عليها بقعة ضوء باهر، يقوم بإطفائها حالما يتبين له الخطر. وجد نفسه يقاتل الوحوش، ويقف سداً منيعاً بينها وبين كل من يريد بها سوء..
في ليلة من الليالي، وبينما كان يترقبها مستلقيا على ضفة النهر، وقدماه تلهوان بالماء. لمح القمر في ذروة علاه آخذا في الهبوط رويداً رويداً. استدعى بنايه العجيب فرسه، امتطاها مسرعاً، وكزها وانطلق صوب الفوانيس يلملمها لينجز مهمته بأسرع ما يمكن، ليلحق بالقمر. في الليالي السابقة، كل ما منحته السماء في ليل، ردته لنفسها مع قرب بزوغ الفجر. في هذه الليلة ردت السماء كل شيء، ما عدا الرجل وفرسه..
وقبل أن يغادر الأرض انحنى مودعاً وردته، وما أن هم بالمغادرة، إذ بالصوت الذي كان قد سمعه يناديه ببأس شديد، يأمره بأخذها معه، كي لا يداهمها خطر الغرباء ويفتك بها.
أجاب بصوت أعلى يوزعه في أرجاء المكان بعد أن ضم راحتي يديه إلى فاهه. نحن لا نقتلع الأحياء من طينتهم.
رد الصدى: بقاؤها دونك، لن يضمن لها حياتها. فليس أمامك من خيار سوى أخذها، وذلك أمر هيّن.. أو تبقى معها سائر الأيام وهذا من مستحيلات الأمور!.
عرف الفارس بأنه إن هو أخذها سيتسبب في هلاكها!. لأنها لن تحتمل العيش في موطنه دونما ماء أو هواء أو دفء شمس وخضرة شجر وشجيرات تطوقها أو حتى طيور وفراشات تغازلها.
وكز فرسه، هددها بسهامه كي تبتعد، عائدة للسماء حيث مسكنها. لكن بإبائها وإخلاصها ظلّت هائمة على وجهها، شاردةً بين محاولة التحليق إلى السماء، والعودة إليه؛ حتى انبلج نور الصباح، فالتهمها النور، بعثر ذراتها النورانية، فتلاشت تماماً.
الفارس، لم يجد له مكاناً بين نور الشمس، وظل مختبأً في شقوق وتصدعات الجبال، كي لا يفقد طاقته. واستمراره كفارس قد يصبح من الماضي. ولكن كان لابد من افتداء الوردة. حرص على مراقبتها، من تلك الأماكن الضيقة التي التجأ إليها. خاض قتالات عظيمة. رأى أهوالاً أشد وأعظم مع كل من سولت له نفسه الاقتراب من زهرته حتى بدأت قواه تخور.. وأخذ يتلاشى رويداً.. رويداً.
ظهر له الصدى، يحثه على اقتطافها، لتعود إليه قوته ورونقه وبهاؤه. لكنه "لا يسمع.. لا يرى ولا يتكلم". كان يريد منه أن يزل.. أخبره مرة أن يسرق النور من فوانيس الشمس المبعثرة في أرجاء المكان لكنه لم يشأ، لمزاعمه بأنها من حق الطبيعة.
كان يعلم بأن الصدى اختبارٌ له، وأنه يسعى للفتك به ربما. كان يظن أنه يسعى لكي يفرق بينه وبينها، لأنهما سيشكلان معا قوة ًعظيمة وامتداداً عظيما. كان من الأهمية أن ينتهي أحدهما.
علم القمر بنية الفارس النبيل، لكنه لم يفعل شيئاً إزاءه. فقط، الانتظار كل ما من مهمته فعله، ويراقب ما ستسفر عنه الأمور. فإن كان الفارس جديراً سيرسو بالزهرة إلى برٍّ آمن.
صار الفارس يسلّط بصره على الوردة، ولا يزيحهما عنها أبداً. وإذا ما اقترب منها أحد رماه بسهم من نور في يصيب عينيه فإذا بالمعتدي لا يبصر شيئاً أمامه.
فجأة.. كان حينها الوقت نهاراً، ومن مكانٍ غير منظور، تنشق الأرض، يخرج مارد أزرق ذو شكل مرعب وجد مخيف. خلفه تشتعل نار عظيمة، يحطم الأغلال والأصفاد من على جسده. يزيح شباك العنكبوت، ينفخ الغبار عنه..
حاول المارد اقتلاع الوردة بأنيابه ومخالبه. فأرسل الفارس سهام النور اتجاهه، ليعيق مهمته الشريرة. لكنها غير ذات جدوى، تصل للمارد منكسرة بتأثير من قوة نور الشمس التي كان من المفروض أن يضعف وهجها، حين تتلبد وراء الغيم. لكن لا غيوم في كبد السماء.
اقترب الفارس من المارد كخيار أخير، صارعه، لكن لم يقو عليه. لقد نفذ ما في جعبته من نور، والقمر لا يمكنه المجيء نهاراً ليمنحه بعض من نوره..
سقط الفارس لا يقوى الحراك. بينما يرى المارد يقتلع الوردة أمام عينيه، وهي تتوسله. غادر المارد بما اقتطف إلى مكان غير معلوم، تاركاً منها أشواكها التي لم يجرؤ عليها، وبدا يتلاشى عن أنظار الفارس شيئاً فشيئاً..
بدأ الفارس يبكي بدموع.. والغريب، من أين أتى بالدموع؟.
اقترب من الأشواك، وبحرارة أمسكها بقبضة قوية. بدأ الدم يتقاطر من يده!. هي ليست من ساق الوردة!. تمعّن في مصدر الدم، فوجده ينزف من يده.
والأغرب من ذلك.. من أين أتت الدماء؟.
كيف يكون لكائن من نور دموع ودماء؟!..
ابتسم.. بدأ ينبض بين جوانحه قلب أو ربما أشبه بالقلب. بدأ يتحسسه بيديه الداميتين. وملامح وجهه اخذت تتغير، صارت أشبه بملامح إنسان.. استجمع ما تبقى له من قدرة. وصار يركض على غير هدىً. لأنه يعلم أن أمامه مهمة شاقة وعسيرة..
رسا بمقربة من النهر حيث شده الحنين للأشكال الغريبة التي رسمها على الرمال. إذا بهما يأخذان طريقهما إلى النهر. سرّه جمالهما وهو جالس على الضفة يراقبهما بينما يتقافزان صوب قدميه، وهو يرمي لهما بفتات خبز.