لم يكن يعرف أين يمضي، فهو يسير دون وجهة، الهموم تلاحقه، والمآسي تداهمه، الأفكار تتضارب في رأسه، والأحاسيس تتناقض. مشاعره تترجرج، تتزحزح من مجهول إلى مجهول، هو يشعر بالغضب، بالنقمة، بالصغر، بالإهانة، بالكآبة، أحس بأنه شارف على الانهيار، بينه وبين الانهيار حافة بسيطة غير متماسكة تستعد هي الأخرى للسقوط نحو الهاوية.
حاول جاهداً وبكل ما يملك، بل وبكل ما تبقى في ذاته أن يرمم انفعالاته، أن يلصقها، لكنه كان يحاول مناقضا لحقيقته، فأدرك مرة واحدة أنه لا مخرج له مما هو فيه.
صدمته المفاجأة، حدق بكل قوته، ليس معقولاً، بل وغير مستوعب ما رآه، ففي اللحظة التي كان يفكر فيها بترميم ما يمكن ترميمه وجد نفسه في مواجهة الموت، دخل أرضه دون أن يعرف ذلك، شواهد القبور متراصة، والنباتات الشائكة، البصلون، العشب الملوح من شدة الحرارة، والغبار الذي تحمله نسمات هواء عابرة يقفز نحو العيون فيلتصق بالوجه بفعل تمازجه مع العرق، التشققات المفسخة للقبور بأشكال عشوائية تدفع رعشات خفيفة تحت الجلد كدفق تيار كهربائي يعذب ويضني، لكنه لا يقتل، انتفض مع تزايد قوة الرعشة انتفاضة سريعة في ذات اللحظة التي كان يتحسس فيها جلده بكلتا يديه، قويت الرعشة في جسده، فأحس بان مخلوقا غريبا يجول تحت الجلد بسرعة عشوائية خارجة عن السيطرة، بدأ يحك جسده بقوة وتلاحق، وينتقل من عضو لعضو، لكنه بعد لحظات أوقف دفاعه واستسلم.
بدأ يخرج من حالة الدنيا ليتدرج نحو فكرة الموت. كثيراً ما سأل نفسه عن سبب الوحشة التي تلف المقابر، وحشة كاملة، تتسرب للإنسان تسرب الهواء للجسد، ثم تبدأ بإحكام سيطرتها على المشاعر والعقل سيطرة كاملة، تصل إلى مرحلة الاستبداد القاهر الذي يغلف الإنسان تغليفاً كاملاً. وحشة غريبة، تساندها أنواع النبات الشائك، والشقوق التي تدفع سطح القبر عن بعضه لتبدو الشقوق كجحور الأفاعي المتعرجة تعرج الأفعى ذاتها. المقبرة تمتص رائحة الجثث الراقدة، لكنها تبعث رائحة الموت وتنشره في كل ذرة من ذراتها، أينما تطلعت أو أرسلت نظرك ستشعر بحصار الموت الذي يتوزع في الذرات والأرض، تراه في شواهد القبور الحافلة بأسماء المرحومين، أوقات وفاتهم، نهاية صلتهم بالدنيا، بالعالم المحاصر بالموت من كل الجهات والأبعاد.
حصار الموت والوحشة دفعاه نحو التفكير بطقوس الموت، طقوس الدفن، واستقرت عيناه على اللحد، اللحد الذي يحفر في أسفل القبر، اللحد الضيق الذي لا يتسع لاثنين، والذي صنع ليكون القابع وحيداً، مجرداً من كل سلاح من أسلحة الأنس، وحيداً في مواجهة الموت، الموت المجهول الذي لا نعرف عنه سوى اسمه، سوى انه يوقف عمل الأعضاء، ينتزعها من حيويتها وانطلاقها ليدخلها نواة العجز المطلق. في ذلك اللحد المغطى بقطع إسمنتية ترص فوقه لتملأ شقوقها وفواصلها بالطين الذي يضرب فوقها بكل عزم وقوة، ليهال التراب بعدها على ما تبقى من الحفرة، في ذلك اللحد تكون المواجهة، مواجهة فرد واحد مع كل قوى وطاقات الموت، الموت الذي قهر الخلق منذ آدم وحتى الآن، الموت الذي يستل الأجيال كما يستل الطفل قشة قمح من بيدر، الموت الذي طوى الملوك والأباطرة والجبابرة، كما يطوي الطفل قشة القمح في كفه الصغيرة الناحلة، هذا الموت الحاشد كل طاقاته وإمكاناته المكتسبة منذ بدء الخلق، يستعد بكل ما يملك من قوة لمواجهة جثة سجيت في اللحد وتركت لتخوض غمار هذه المواجهة وحيدة.
الأشياء كلها، الزمان، المكان، الأفكار، الهواجس، القفر والوحشة، رائحة الموت، اللحد، التراب، النبات الشائك، البصلون، الشقوق والشواهد، كل هذا، كل شيء، غار في قلب جبر ليتجذر ويتأصل، ليزداد الحصار ويتسع، تحديقة بسيطة إلى هذا الرجل، ستقودك نحو أطلال، أطلال أنهكها الزمن وامتصت يفاعتها الأيام.
وفجأة لامست نظراته شاهد قبر "المرحوم فلان، توفي وله من العمر أربع سنوات". انتقل بنظراته نحو شاهد آخر "المرحوم فلان، توفي وله من العمر ثلاث سنوات". نظرة أخرى "سنتين"، شاهد آخر "خمس سنوات". أدار عينيه نحو الشواهد، نهض من مكانه، وأدار عينيه نحو الشواهد في كل الجهات، فأيقن انه داخل مقبرة أطفال، ومما زاد من دهشته واستغرابه، طول القبور وحجمها، فالطول والحجم لا يتناسبان في أي صورة من الصور مع الأعمار المرقومة على الشواهد. فالأعمار صغيرة، والقبور طويلة ضخمة، بين الأعمار وبين الأحجام تناقض مجهول وغير مستوعب أو مفهوم، وسقط الطلل في حيرة العمر والحجم، والدهشة من موت الأطفال في هذا المكان، وحجم صغار تملأ أجسادهم اللحود وشواهدهم أرض المقبرة.
لم يخرجه من دهشته وحيرته إلا صوت بكاء حارق تناهى إلى مسامعه مع دعاء مكتوم. أدار نظره صوب الصوت، فرأى رجلاً ينتصب أمام قبر، يبكي ويدعو، نهض من مكانه وهو يتكئ على حيرته ودهشته وانكساره، فلما حاذى الرجل، قدم له العزاء ودعا معه لابنه الفقيد، تطلع الرجل نحو جبر وسأله: ومن قال لك بأن هذا القبر يضم ولدي؟ لا أحد، ولكني دققت في عمره، وفي الأعمار المرقومة فوق شواهد المقبرة، فعرفت بأنها مقبرة أطفال، أكبرهم سناً يبلغ من العمر خمس سنوات فقط، حتى أنه يوجد فوق الشواهد أعمار تقع بين الأيام والشهور، ولا تصل إلى السنة الواحدة.
أشاح الرجل بوجهه، وأخذت عيناه تدوران في المقبرة، تتركز على الشواهد والقبور، فطفر بريق أسى، وعاد لينظر نحو جبر من جديد، شهق شهقة كادت تتشردق بروحه وقال: أيها الغريب، تحت هذه الشواهد جماجم آبائي وأجدادي، جماجم كانت في وقت ما تزخر بالحكمة والحنان، بالعطف والمعرفة، جماجم غزاها الموت فانتزعها من الحياة، لينزع مع تلك الحياة كل ما كان فيها من حكمة وحنان، من عطف ومعرفة، ومن كنت أبكيه قبل لحظات ليس ولدي، بل والدي الذي دفعني من صلبه، هذه المقبرة، مقبرة الآباء والأجداد، وليست مقبرة الأبناء والأحفاد، ومن حكمتهم ومعرفتهم بزغت فكرة ترقيم الشواهد بهذه الأعمار، فنحن أيها الغريب لا نكتب العمر الزمني للميت، بل - وحسب وصيتهم – نكتب عمر الفرح والسعادة الذي عاشه الراحل قبل رحيله، فالزمن لا يقاس عندنا إلا بحجم الفرح والسعادة. والأعمار التي شاهدتها على الشواهد، هي أعمار الفرح والسعادة التي عاشها كل فرد منهم.
حدق جبر بالرجل بعينين غائرتين غارقتين بالدهشة والتعجب وقال: سيدي هل تسديني خدمة؟ أجاب الرجل: بكل سرور.
قال جبر: حين أموت، ادفني هنا في هذه المقبرة، بجانب آبائك وأجدادك، وأكتب فوق شاهدي: "هذا جبر، الذي خرج من رحم أمه للقبر".