كان الجوع قد برّح بي، حين عاينت على الحصباء آثار دماء.." لعلّها طريدة قد أفلتت من قانص" هكذا حدّثت نفسي.. حين أمعنت في تتبع آثار الدّماء، انتهيت إلى غار، ما إن توغلت فيه، حتى صعقني دوّي فزلزلة.. حين أستعدت وعيي، أبصرت مدخل الغار و قد سدّ دوني.. حين تمالكت نفسي، أستويت قائما ... كنت كلّما تقدّم بي المسير في الغار، تكاثرت الدّماء من حولي، حتى تحوّلت إلى نهر يجري من تحتي.. ظللت أخوض في الدّماء و بي من الرّعب و الهلع ما الله به عليم، حتى أدركت بوّابة خشبيّة متآكلة، كتب عليها، و بخطّ رديء: " سجنان".. حين دفعت البوّابة، ألفيت نفسي أمام بنايتين كئيبتين كتب على إحداهما " سجن1"، و على الأخرى" سجن 2"، و بين البنايتين، ممرّ إجباريّ ممتدّ ينتهي بستارة سوداء مسدلة.. كان الممرّ ضيّقا لا يكاد يتّسع لشخص، لأجل ذلك عبرته بشقّ الأنفس.. ما ان أدركت السّتارة ثم رفعتها، حتى طالعتني بيداء مترامية الأطراف، كثيرة الحصباء، ملتهبة الحرارة لا أثر فيها لحياة.. بعد مسير دقائق يائسة، هبّت عاصفة رمليّة، فعمدت الى قميصى فاتخذته لثاما ثم لجأت إلى ظلّ صخرة و قد أيقنت بالتهكلة.. بعد سويعة أو تزيد، و حين هدأت العاصفة، و فيما كنت في موضعي ذاك، مرّ بي راكب مقنّع، ما إن استوقفته بإشارة من يدي، حتى توقف ثم أناخ راحلته، كاشفا عن وجه شديد القبح رغم بياض بشرته و زرقة عينيه و شقرة لحيته القصيرة، ما ان كشفت له عن وجهي، حتى ظهرت على محيّاه علامات الغبطة و البشر.
كنت أتامل زخرفة ثيابه التي ذكّرتنى بالمسلسلات التاريخيّة، حين غادر الرجل راحلته، كان شديد القصر، قميء الجسم.. بعد أن أطال نفض ثيابه بما علق بها من وعثاء السفر و حبّات الرّمال، تناول قربة ماء بسطها نحوى ثم ضمّها اليه وهو يسألني:
ــ ما أسم جميل المحيّا؟!
ــ سالم.
سألني القادم و قد زاد إشراقا:
ــ سالم ؟.. أحقا ما تقول؟
ـــ أجل. أنا سالم بن رشيد الفرحاني.
قفز الرجل ملوّحا بذراعيه ثم صاح جذلانا:
ـــ فرح و رشد و سلامة؟ هذا فأل حسن!
كنت أتأمّل نقش سيفه القصير النجاد حين قدّم لي القربة سائلا:
ــ أخبرني يا طالع السعد
ـــ ...
ـــ من أي بلد قدمت؟
أجبته و أنا ألتقم القربة:
ــ من تونس.
صاح فرحا:
ــ الله.. الله.. أنس و سلامة!
سكت محدثي قليلا ثم أضاف سائلا:
ـــ و من أي بلد من تونس؟
أجبته و لكن ليس قبل أن آخذ كفايتي من الماء:
ــ من بلدة" منزل جميل ".
كبّر الرّجل مغتبطا.. قلب وجهه القبيح في السماء ثم اردف متعجبا:
ــ نزل وجمال و أنس و فرح و رشد ؟! هذا و الله أكثر ممّا آمل.
ما ان استقرّ جالسا ثم شرع يعالج قربة الماء، حتى سألته بدوري وقد رابتني هيئته:
ــ من الرّجل و أين مقصدك؟
مسح الرجل فمّه بظهر كفه، ثم فاجأني قائلا:
ــ أنا ابن الرّوميّ الشاعر. و وجهتي كربلاء!
صحت من فرط دهشتي:
ــ أتعني الشاعر المشهور؟!
ــ أجل!
سألت غير مصدّق:
ــ من قال عنه ابن خلّكان:" صاحب النظم العجيب، و التوليد الغريب الذي يغوص في المعاني فيستخرجها من مكامنها و يبرزها في أحسن صورة "؟
ضحك الغريب ثم قال مؤيدا:
ـــ أنا من سمّيت.
كنت أتطلع إليه مستغربا حين كشف عن رأسه، حكّ شعرا أشيبا لا يتناسب و عمره، ثم أضاف مفتخرا :
ـــ و قد نال بشّار و المتنبيّ فخر ضمّهما إلى طبقتي!
صحت من فوري:
ـــ ان كنت صادقا، فأنشدني رائعتك " بكاؤكما يشفي" في رثاء محمد.. ولدك.
ضحك الرّجل طويلا.. لكنه سرعان ما توقّف ليفسح المجال لسحابة حزن كست وجهه الذي خلا من كلّ وسامة.. زفر بشدّة، أسبل جفنيه ثم طفق منشدا:
بكاؤكما يشفي و إن كان لا يجدي
فجودا، فقد أودى نظيركما عندي
بنيّ الذي أهدته كفّاي للثــــــرى
فيا عزّة المهدى و يا حسرة المهدي
ألا قاتـــــل الله المنايا و رميها
من القوم حبّات القلوب على عمد
سكت الرجل قليلا.. مسح دمعة ثم استمرّ :
توخّى حمام الموت أوسط صبيتي
فللّه كيف أختار واسطة العقد
على حين شمت الخير من لمحاته
و آنست من أفعاله غاية الرّشد
طواه الرّدى عنّي فأضحى مزاره
بعيدا على قرب، قريبا على بعد
لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها
و أخلفت الآمال ما كان من وعد
لقد قلّ بين المهد و اللّحد لبثه
فلم ينس عهد المهد إذ ضمّ للّحد
إلى أن أدرك قوله الأشهر:
و أولادنا مثل الجوارح أيّها
فقدناه كان الفاجع البيّن الفقد
لكلّ مكان لا يسدّ اختلاله
مكان أخيه مــن جزوع و لا جلد
هل العين بعد السمع تكفي مكانه
أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي
ما ان فرغ من انشاده حتى سألته متوجّسا:
ـــ أانت عليّ بن عبّاس بن جريج، مولى عبد الله بن عيسى
أتمّ الرجل مؤيّدا:
ــ مولى عبد الله بن عيسى بن جعفر البغداديّ.
كانت ضآلة الشاعر تؤيد قوله، خصوصا و هو القائل :
أنا من خفّ و أستــــدقّ
فما يثقل أرضا و لا يسدّ فضاء!
كما كان قبح وجهه يشهد له بالصدق، كيف لا و هو القائل :
شغفت بالخرّد الحسان و ما
يصلح وجهي إلاّ لذي ورع
كي يعبد الله في الفلاة
و لا يشهد فيها مساجد الجمع!
رغم كلّ ذلك فقد أعلنت مكابرا:
ــ لا أصدّق أنكّ هو..
حين عاينت دهشته أضفت مبرّرا:
ـــ بل يجب عليّ أن لا أصدّق أنك هو.
ضحك الرجل ثم سألني مستوضحا:
ـــ مالذي حملك على تكذيبي؟!
أجبته محاجّا:
ـــ لأن ابن الرّوميّ "الحقيقيّ" شديد التطيّر و الحذر، و لا يمكنه، مهما كانت الحوافز و الإغراءات، و بأي أي حال من الأحوال، أن يرحل طائعا مختارا إلى بلد قد جمع الكرب و البلاء في مسمّى واحد.
كان ضحك الرجل قد تحول الى نوبة سعال حين أدركت قولي:
ـــ فقد كان من دأب الرجل كلّما همّ بمغادرة بيته، النظر في ثقب الباب فان اتفق ذلك مع مرور جاره الأعور، عدل عن الخروج تطيّرا.. و لأيّام ذوات عدد!
حين كنت على علم بالمصائب التي تتالت على شاعر حسّاس من خلقة مشوّهة، و ضياع ممتلكات، و فقدان أهل و ولد، حتى أصبح (و كما وصفه المؤرخون)" مضطرب الحياة، غريب الأطوار، خاضع للوهم و الخوف، يتوقّع السّوء دائما"، فقد كفاني علمي سؤاله عن دواعي تطيّره لأجل ذلك واصلت:
ـــ وقد بلغ به التطيّر ذات مرّة، إلى حدّ الإصرار على عدم فتح بابه في وجه طارق اسمه "إقبال"، بعد أن أفادته بديهته العبقريّة، بان كلمة "لا بقاء" هي النتيجة التي سيسفر عنها قراءة اسم الطارق مقلوبا!
ضحك ابن الرّومي طويلا ، مسح لحيته الخفيفة ثم قال موافقا:
ــ صدقت يا سالم، فما كان لي أن أقدم على هذا المركب الصّعب و المخاطرة الكريهة، لو لم أخيّر بين جدع و خصاء.
ــ ...؟!
ـــ أي لو لم يبّلغني صديق ناصح عن عزم الوزير القاسم بن عبيد الله سفك دمي، إن انا رفضت إستلام عملي الجديد كمستشار ثقافيّ لدى أحد عامليه في كربلاء أو حضر موت!
ــ...!!
ـــ لأجل ذلك أخترت كربلاء أيّها الأغرّ!
ـــ ...؟!!
ـــ رغم ما عرف عنّي من تطيّر و سوداويّة!
كنت أضحك ملء شدقيّ، حين استمرّ موضّحا:
ـــ و ذلك عملا بقاعدة و"عند ذكر العمى يستحسن العور" !
بعد تجاوزي نوبة ضحك، سألت بن الروميّ و قد أنست به:
ـــ لعلك هجوت الوزير القاسم بن عبيد الله كما هو دأبك مع كبار رجال الدولة؟ و " أكثرهم لصوص لا ينقضي على أحدهم في المنصب أشهر أو سنوات حتى يعمر بيته بالمنهوب و المسلوب من أرزاق الرعيّة الضعاف".
ـــ صدقت و بالحق نطقت، و لكن فضحي فساد من وصفت، لم يكن من قبيل الهجاء، بل هو أقرب ما يكون، و بلغة هذا العصر الى التصوير الفوتوغرافي الأمين.
ـــ ..!؟
ـــ فقد كنت ناقل حقائق كما هي. لأجل ذلك قلت:
و لست بهجّاء و لكن شهادة
لديّ أؤدي حقـّـها غير آفــك!
ما إن أتمّ الشاعر كلامه، حتى عمد الى صرّة ضخمة فتحها كاشفا على جدي مشويّ و بطاطا مقليّة و خبز نقيّ و فاكهة كثيرة.. كنت على علم بنهم بن الروميّ و شغفه الزائد بالطعام، لأجل ذلك لم يدهشني أكله المنكر و سرعة إتيانه على ما كان بين أيدينا من زاد شهيّ نال منه نصيب الأسد.
حين فرغنا من طعامنا، عاتبت بن الروميّ على ركاكة قوله الشهير:" و لي وطن آليت ألا أبيعه"، و قد ملكت من الجرأة ما أتاح لي أن أفضي إليه بأن صدر بيته المذكور، هو من قبيل القول :" و لي والدة آليت ألاّ أسلخها!" و قد استغرق ابن الروميّ في قهقة منكرة، قبل أن يفيدني معتذرا، بأن منتهى وطنية معاصريه ألاّ يبيع أحدهم وطنه لقاء مبلغ ماديّ!، في زمن كان الملوك يسارعون فيه و بشكل علنيّ مفضوح، إلى مهادنة الفرنجة بمقايضة عروشهم المهتزّة و الأثيرة، بأقاليم وطنيّة ممتدّة الأطراف!
و قبل فراق بيني و بينه، سألني الشاعر ملاطفا:
ــ و لكن مالذي جاء بك إلى أرض مهلكة كهذه؟
فأجبته مستفزا (وقد غرّني ضعف بنيانه) :
ــ لقد ضللت طريق خانقين، حيث مسكن صديقي عسران بن مشنوق.
ما ان أتممت كلامي، حتى اكفهر وجه الشاعر ثم صرخ شاتما:
ــ قبّحك الله و محق. خنق و عسر و شنق!؟
قال ذلك ثم عمد إليّ فطرحني أرضا آخذا بخناقي.
ــ 2 ــ
حين أفقت ممسكا بخناقي، ألفيت نفسي في فراشي! .. كنت أجفّف عرقي مسترجعا أنفاسي، حين بلغني صوت والدتي من غرفة مجاورة:
ــ ألو .. ألو... لا باس... كيف حال لبني و الأولاد؟.. سالم؟.. أنه نائم.. هو بخير.. أجل.. سيسافر عشيّة اليوم.. ما عساه يصنع بعد شهادة دكتوراه أعقبتها تسع سنوات كاملة من بطالة مدمّرة غير القبول بوظيفة مدرّس ابتدائي في قرية نائية تفتقر إلى الحدّ الأدنى من العيش المحترم؟!... بالأمس وبخه عمّك رشيد الى حدّ بات فيه على الطوى، لم يكفه ذلك بل هدّده بالطرد من البيت إن هو أضاع فرصته الأخيرة.. ألو.. ألو.. أعلم أن عمّك رشيد لن يفعل ذلك، أراد فقط حفزه على إتخاذ قرار لصالحه لعلمه بعزّة نفسه... لا..لا.. حتى إمكانية تدريسه في عين دراهم(1) لم تعد ممكنة حيال تردّده في قبول الوظيفة.. ( ثم ضاحكة ) لم يعد في وسع المسكين إلاّ الإختيار بين شرّين، سجنان(2) أو غار الدّماء (2) و قد اختار سجنان مكرها!
ـــــــــــــــــــــــــ
( 1 ـ 2 ـ 3 ) عين دراهم، غار الدّماء، سجنان: أسماء بلدات تونسيّة متفاوتة البؤس و التخلّف.
أوسلو 25 ديسمبر 2011