خرجَ إلى تراس المنزل يستنشق عبير الصباح . تلفت حوله ، فرأى الذئب والحملَ ، يسيران متشابكي الأيدي ، بودًّ ووئام . رأى القط والفأر يتسامران ، ويتبادلان النكات بألفة ، وحميمية. رأى الدجاجة تبيض في وكر الثعلب . رأى نمراً يحمل بين ذراعية غزالة جريحة ، ويسرع بها إلى الطبيب ، والدموع تنهمر من عينيه ، لمنظر جرحها النازف . رأى الأفاعي تخرج من جحورها ، وتدعو الناس إلى النوم في العراء مطمئنين . رأى كلابا تزأر ، وغربانا تشدو .
وقف مسطولاً يرقب ما يجرى حوله . عادَ إلى غرفة نومه يتصبب عرقاً ، ويتأرجح على حافة الهذيان . صُدمت الزوجة ، وسألته مفزوعة عمّا حل به . توسل إليها بنبرة حزينة ، أن تتركه وشأنه . اختلى بنفسه ، وقلّبَ الأمور في كل الاتجاهات . اتخذ قراراً لا رجعة عنه ، بالاعتكاف في المنزل ، وعدم الخروجإلا متنكراً ، وللضرورات القصوى ، مثل شراء احتياجات المنزل ، وتوصيل الأولاد إلى المدرسة ، والعودة بهم منها . طَلّق الندوات،واللقاءَات، والمحاضرات ، وورش العمل ، التي كان مهووساً بها بالثلاث . أما المناسبات ، فقد اختصر حضورها على اقرب المقربين إليه ، ولساعات محدودة . أخطرَ الزوجة ، والأولاد بقراراته الفجائية ، وألا يأتوا لأي كان على ذكر ما عقد العزم عليه ، تحت طائلة الحرمان من المصروف ، وربما الطرد من المنزل .
احتارت الزوجة ، وكذلك الأولاد بأمره ، ولم يعرفوا بماذا يردون على أسئلة الجيران ، وأهل الحي ، واستفساراتهم الكثيرة . وحتى في المنزل، أصبح يمضي معظم وقته صامتاً ، شارد الذهب ، لا ينطق بكلمة ، إلا عندما يكون مرغما .
لاحظت الزوجة ، ومعها الأولاد ، أنه لم يَعُدْ يتطلع إلى القمر ، وهي عادة محببة إلى قلبه كثيراً ، لدرجة أنه عُرفَ في الحي ، وبين الجيران ، بعاشق القمر .
استغرب أهل الحي اختفاءَه الفجائي.
لم يستوعبوا أن رجلاً مثله ، يمكن أن يقدم على خطوة كهذه . فقد عرفوه ، متابعاً عن كثب ، لكل ما يجري داخل الحي، وخارجه. ينظم الجلسات ، ويديرها ، وإذا لم يكن هناك موضوع للنقاش ، فهو يخترعه . أصبح خبر اختفائه على كل لسان ، تدور حوله الحكايات ، وتنسج الإشاعات.
ثمة من قال ، إن عاشق القمر ، قد بالغ بالتطلع اليه في السنوات الأخيرة ، ومن غير المستبعد، أن صعقة ألم في رقبته ، قد فاجأته ، وألزمته الفراش. وهناك من لم يستبعد تعرضه لحادث دهس ، أو إصابته بالتسمم ، بعد تناوله وجبة في مطعم ما . وهناك من قال إن الرجل قد سافر إلى الخارج ، لأمر ما لا يريد الإفصاح عنه ، وسيعود قريباً ، أكثر همة ونشاطاً .
أرسلوا عيونهم في الليل ترقب المنزل ، لكن أحداً لم يشاهده على التراس ، يتطلع إلى القمر . تفكروا ، وتدبروا . رأوا في مناسبة زواج أبن شقيقته، فرصة مناسبة لتبين أسباب اختفائه . فمن غير الممكن أن يتغيب عن مناسبة كهذه ، إذا كان ما يزال على قيد الحياة .
جَلَسَ في إحدى زوايا الصيوان صامتاً ، شارد الذهن ، على غير عادته . تبادلوا نظرات حائرة ، وتهامسوا . شعر بالنظرات مصوبة نحوه ، وأنه موضوع كل همسة ، لكنه لم يُعر ذلك كله أدنى اهتمام .
ارتأوا أن يطرقوا سمعه بآخر المستجدات في قضية ماسورة المياه ، التي تغذي الحي بأكمله ، بعد أن كان هو من يوافيهم بها لحظة بلحظة . انبرى احدهم وقال بنبرة تثير الرغبة بالكلام ، إن خبر كسر الماسورة ، قد انتشر في الأحياء القريبة والبعيدة،وانهالت على الحي برقيات التضامن والمؤازرة ، لكن الماسورة ما زالت على حالها ، تنساب منها المياه ، وتذهب هدراً .
تَنَهّد بحسرة . تفرس وجوههم بعينين حائرتين . لم يرد بكلمة ، وكأن الأمر لا يعنيه .
تملكهم الذهول ... ليس هذا الرجل الذي عرفنا. لا يمكن أن يترك موضوعاً كهذا يمر ، من دون تعليق،قد يتحول إلى محاضرة ، لن تقل عن ساعة في كل الأحوال والظروف .
سادَ صمت رهيب ، بدده صوت أحدهم موجهاً الحديث إليه بثقة ، ظناً منه أن ما سيقوله كفيل بفك عقدة لسانه . قال المتحدث من دون مقدمات : تكاثرت الطحالب حول المياه المنسابة هدراً من الماسورة ، وأسراب الناموس ، تنغص علينا حتى نومنا .
تَنَهّدّ بالتياع . أخرج زفرة حرى من صدره ، ولم يفه بحرف واحد .
ارتأوا تغيير دفة الحديث باتجاه آخر ، كانت له فيه صولات وجولات .
تَهَضَ أحدهم من مقعده ، وقال مصوباً نظراته إلى الرجل الصامت : سارة اللقيطة ... هل نسيتها أيضاً ؟! . ألست أحد الذين ألصقوا بإسمها مصطلح الملعونة ، حتى أصبحا صنوان ؟ . ألست أحد الذين حفروا في أذهاننا على مدار عقود ، أن سارة هذه ، تمسكنت كثيراً ، وتذللت ، حتى تمكنت من سرقة أجمل ضياعنا؟.من منا لم يسمعك تقول
وتردد ، أن سارة هذه ، كانت منبوذة في الأحياء كلها . أما اليوم فقد كثر الساعون لخطب ودها ، والتقرب إليها .
تململ الرجل الصامت في مكانه . تناول قارورة ماءٍ سعتها لتر ، كانت على الطربيزة أمامه ، وسكبها في جوفه دفعة واحدة ، وظل معتصماً
بصمته .
نبض المكان بالتجهم والذهول ، وبدأت الحيرة، والارتباك يلفان الجميع . تساءَلوا عما لو أن هناك مرضاً لم يسمعوا به من قبل ، اسمه الخرس الفجائي. قام أحدهم من مكانه ، وجلس لصق الرجل الصامت، وراح يقرأ من صحيفة بين يديه ، آخر أخبار حي "أبو جاسم " القريب .
لم ينل ما سمع ، من إصراره على التمسك بالصمت . تبادلوا نظرات غامضة ،تتقاذفهم الظنون والمخاوف . فَزّ أحدهم من مكانه ، وعاد إلى الصيوان بمرآة كبيرة الحجم ، ثبتها بحركة متوترة، أمام الرجل الصامت .
حَدّق في المرآة بغضب ، وتفحص الوجوه بنظرات حزينة .غادر الصيوان مسرعاً، ومنذ ذلك اليوم ، لم يره أحد خارج منزله.
لاحظت الزوجة ، ومعها الأولاد ، أنه لم يَعُدْ يتطلع إلى القمر ، وهي عادة محببة إلى قلبه كثيراً ، لدرجة أنه عُرفَ في الحي ، وبين الجيران ، بعاشق القمر .
استغرب أهل الحي اختفاءَه الفجائي.
لم يستوعبوا أن رجلاً مثله ، يمكن أن يقدم على خطوة كهذه . فقد عرفوه ، متابعاً عن كثب ، لكل ما يجري داخل الحي، وخارجه. ينظم الجلسات ، ويديرها ، وإذا لم يكن هناك موضوع للنقاش ، فهو يخترعه . أصبح خبر اختفائه على كل لسان ، تدور حوله الحكايات ، وتنسج الإشاعات.
ثمة من قال ، إن عاشق القمر ، قد بالغ بالتطلع اليه في السنوات الأخيرة ، ومن غير المستبعد، أن صعقة ألم في رقبته ، قد فاجأته ، وألزمته الفراش. وهناك من لم يستبعد تعرضه لحادث دهس ، أو إصابته بالتسمم ، بعد تناوله وجبة في مطعم ما . وهناك من قال إن الرجل قد سافر إلى الخارج ، لأمر ما لا يريد الإفصاح عنه ، وسيعود قريباً ، أكثر همة ونشاطاً .
أرسلوا عيونهم في الليل ترقب المنزل ، لكن أحداً لم يشاهده على التراس ، يتطلع إلى القمر . تفكروا ، وتدبروا . رأوا في مناسبة زواج أبن شقيقته، فرصة مناسبة لتبين أسباب اختفائه . فمن غير الممكن أن يتغيب عن مناسبة كهذه ، إذا كان ما يزال على قيد الحياة .
جَلَسَ في إحدى زوايا الصيوان صامتاً ، شارد الذهن ، على غير عادته . تبادلوا نظرات حائرة ، وتهامسوا . شعر بالنظرات مصوبة نحوه ، وأنه موضوع كل همسة ، لكنه لم يُعر ذلك كله أدنى اهتمام .
ارتأوا أن يطرقوا سمعه بآخر المستجدات في قضية ماسورة المياه ، التي تغذي الحي بأكمله ، بعد أن كان هو من يوافيهم بها لحظة بلحظة . انبرى احدهم وقال بنبرة تثير الرغبة بالكلام ، إن خبر كسر الماسورة ، قد انتشر في الأحياء القريبة والبعيدة،وانهالت على الحي برقيات التضامن والمؤازرة ، لكن الماسورة ما زالت على حالها ، تنساب منها المياه ، وتذهب هدراً .
تَنَهّد بحسرة . تفرس وجوههم بعينين حائرتين . لم يرد بكلمة ، وكأن الأمر لا يعنيه .
تملكهم الذهول ... ليس هذا الرجل الذي عرفنا. لا يمكن أن يترك موضوعاً كهذا يمر ، من دون تعليق،قد يتحول إلى محاضرة ، لن تقل عن ساعة في كل الأحوال والظروف .
سادَ صمت رهيب ، بدده صوت أحدهم موجهاً الحديث إليه بثقة ، ظناً منه أن ما سيقوله كفيل بفك عقدة لسانه . قال المتحدث من دون مقدمات : تكاثرت الطحالب حول المياه المنسابة هدراً من الماسورة ، وأسراب الناموس ، تنغص علينا حتى نومنا .
تَنَهّدّ بالتياع . أخرج زفرة حرى من صدره ، ولم يفه بحرف واحد .
ارتأوا تغيير دفة الحديث باتجاه آخر ، كانت له فيه صولات وجولات .
تَهَضَ أحدهم من مقعده ، وقال مصوباً نظراته إلى الرجل الصامت : سارة اللقيطة ... هل نسيتها أيضاً ؟! . ألست أحد الذين ألصقوا بإسمها مصطلح الملعونة ، حتى أصبحا صنوان ؟ . ألست أحد الذين حفروا في أذهاننا على مدار عقود ، أن سارة هذه ، تمسكنت كثيراً ، وتذللت ، حتى تمكنت من سرقة أجمل ضياعنا؟.من منا لم يسمعك تقول
وتردد ، أن سارة هذه ، كانت منبوذة في الأحياء كلها . أما اليوم فقد كثر الساعون لخطب ودها ، والتقرب إليها .
تململ الرجل الصامت في مكانه . تناول قارورة ماءٍ سعتها لتر ، كانت على الطربيزة أمامه ، وسكبها في جوفه دفعة واحدة ، وظل معتصماً
بصمته .
نبض المكان بالتجهم والذهول ، وبدأت الحيرة، والارتباك يلفان الجميع . تساءَلوا عما لو أن هناك مرضاً لم يسمعوا به من قبل ، اسمه الخرس الفجائي. قام أحدهم من مكانه ، وجلس لصق الرجل الصامت، وراح يقرأ من صحيفة بين يديه ، آخر أخبار حي "أبو جاسم " القريب .
لم ينل ما سمع ، من إصراره على التمسك بالصمت . تبادلوا نظرات غامضة ،تتقاذفهم الظنون والمخاوف . فَزّ أحدهم من مكانه ، وعاد إلى الصيوان بمرآة كبيرة الحجم ، ثبتها بحركة متوترة، أمام الرجل الصامت .
حَدّق في المرآة بغضب ، وتفحص الوجوه بنظرات حزينة .غادر الصيوان مسرعاً، ومنذ ذلك اليوم ، لم يره أحد خارج منزله.