أيها الحُبُّ أنتَ الذي بكَ أعتصمُ
وإلاّ فمَن مُبعِدي عن زماني
وضيقِ كياني ؟
ولأيِّ النبوءاتِ يُنتَدَبُ القلمُ !؟
----------------------
حين نزلتُ من قطار المدينة الداخلي ( المترو ) قادماً من وسط المدينة باتجاه البيت شعرتُ وأنا أسير في الزقاق الأول أنَّ رجلاً يتعقبني .
الطريق من محطة المترو الى بيتي عبارة عن ثمانية أزقة فرعية تارة تتصل ببعضها وتارة تتقاطع مع أزقة أخرى ومع الشارع العام , مشيتُ في الزقاق الثاني فرأيته ورائي على بعد خمسة أمتار , غضضتُ النظر فمثل هذه الحالات تحدث , سلكتُ الزقاق الثالث فظل ورائي ومحافظاً على نفس المسافة ... لم أتكلم معه ,
قلتُ لنفسي : لعلَّها مصادفة .
أسرعتُ قليلاً في الزقاق الرابع وأنا أعبر الشارع العام فأسرعَ مثلي وعَبَرَ الشارع واستمرَّ في تعقبي , توقفتُ , إنه رجل بعمري تقريباً , ناحلٌ بعض الشيء ذو ملامح شرقية ,
سألته : هل لديك شيءٌ التصقَ بي فجئتَ لتستعيده ؟ لِمَ تسير خلفي ؟
أجاب ببرود وثقة : هل فعلتُ ما يضر بك ؟ أنا سائر في طريقي .
أشعلتُ سيجارة وواصلتُ السير , دخلتُ الزقاق الخامس فتبعني محتفظاً بنفس المسافة أيضاً !
توقفتُ وأنا لا أدري ما أقول لكني بادرتهُ : والآن ؟
ردَّ : ماذا تقصد بـ ( والآن ) ؟ أيها السيد أنا سائر في طريقي .
كان الوقت عصراً , واصلتُ السير , ضحكتُ بشيءٍ من العصبية رامياً السيجارة في الهواء الى الأعلى , الى الأعلى , الى ...... هناك طائرٌ صغير فوقي , لمحتهُ يصفق بجناحيه ويدنو مني نازلاً , قال عبارة غير مكتملةٍ عن بجعة رأيتُها قبل أيام وهي تنحرف عن سربها لتحط على ضفة الراين خلافاً لما هو مألوف من طيران هذا النوع من الطيور وإسلوبه الهندسي المبهر .
البجعات إذا نزلتْ ضفةً أو ساحلاً فهي مجتمعٌ قائم بذاتهِ , تحكمه قوانين جمالية محددة .
إنها يوتوبيا البجع .
عاد الطائر الى التحليق عالياً .
دختُ , والشمس هي أصلاً كانت مُدوِّخةً اليوم .
وفي منتصف الزقاق السادس رأيتُ الطائر ينحرف باتجاهي كذلك فارشاً جناحيه الصغيرين , محلقاً فوقي على انخفاض , تعمَّدتُ أن أتباطأ فتباطأ الرجلُ كما فعلتُ , لاحظتُ هذا حين التفتُّ خلفي بعد دقائق .
فكرتُ : لا , لن يستمر الأمر هكذا , سأمسكُ بهذا الرجل وأنتفُ ريشَهُ بدلَ الطائر العَصيِّ
على الإمساك !
وبالفعل هممتُ بمسكه من ياقتهِ عندما سمعتُ صوتاً حزيناً ساحراً يتغلغل في كياني , سمعتُهُ بكلِّ حواسّي , تحولتْ هذه النغمة الى نداء :
وكم غنى هو الطائرْ
وقبلاً كم ثوى طائرْ
أما للسرب من آخرْ ؟!
إلامَ نجئ ثم نروح لا جئنا ولا رحنا
إلامَ نعيش ثم نموت لاعشنا ولا متنا
هو المنفى إذا كان البقاءُ قرينَ أن نفنى
يتامى نحن ياأطيارْ
دعوا الآهات للأشجارْ
فقد جُزَّتْ بلا منشارْ ! (1)
-------------------
قال الطائر : إني رسول البجعة اليكَ , غَيِّرْ وجهةَ طريقكَ , سِرْ خلفي ولا تُبالِ , هناك النهر , هناك بيتها الذي تدعوك اليه .
تبعتُه كالمخمور وما زال الرجل خلفي !
ما زال :
تلاحقني الثواني ,
أتّقيها حاملاً آثارَ أقدامي على ظَهري .
-------------------
مضيتُ حتى وصلتُ الضفة وهناك فقط لم يعد الرجل ورائي .
على موجة بنفسجية اللون بمحاذاة الضفة كانت تحطُّ البجعة
وحططتُ أنا أمامها على مصطبة !
بعد أن ودَّعني رسولها وراح يتقلَّب كورقةٍ في الريح !
سألتها وفي خاطري قلق لذيذ : أين بقية أصحابك ولماذا حِدْتِ عن السرب ؟
أجابت : قد رأيتكَ قبل أيامٍ تسير هنا وحيداً وعلى شفتيك أغنية ففكرتُ : أوَحيد وسعيد !؟
فأجابتْني كلمات أغنيتك المُخملية : نعم .
فرأيتُني أقرِّر الحَوْد عن أصحابي الذين واصلوا الطيران لطَرْق فصول العالم الأخرى وراء البحار السبعة , وهكذا قررتُ الحَودَ لأرى ما ترى !
قلتُ : أنا أرتِّلُ أغنية فتمنحني سعادة أو رضىً أمَّا أنتِ فأنتِ نفسك أغنية .
علقتْ : شكراً لك ولكني أودُّ أن أغوص في قعر حياتك , أن أكون أغنيتك , وهل أمرٌ مؤذٍ لك أن أرى نفسي فيك , أن أتمرأى بك !؟
ثم هناك سببٌ آخر هو أني سمعتُ أسماء مثل فرات ودجلة تتردد على شفتيك فقلتُ لنفسي لا بد أن أزجي اليه نصيحة فقد كنتُ وأصحابي في الصيف الماضي هناك في وطنك فلم نُطِقِ الجفافَ والبؤس والفراغ ولم تكن هناك فصول أو بيادر , هذا ولا أنسى أنك ذكرتَ شيئاً عن الحب !
وفي ما يخص رسولي فجناحه كان عالقاً بين الأحراش ولمّا حططتُ هنا كان أول ما فعلتهُ هو أني حرَّرتُه بمنقاري هذا !
فشكرني بفرحٍ وأصرَّ على أنْ يفعل لي شيئاً رائعاً بالمقابل .
صمتتْ قليلاً ثم أضافت بصوت عذبٍ : ولكن كم أمسيتُ حزينةً حين رأيتكَ تلملم ذخيرة حلمك وتقفل عائداً في تلك المَرة !
قلتُ : لك أن تكوني كما تريدين ولكن لو أجبتِني عن هذا الرجل : مَن هو وأين تلاشى ؟ فقد هجستُ أنك على معرفة به .
قالتْ : أخبرَني رسولي بالأمر فقلقتُ عليك لذا أقول لك : ذلك الرجل , قيمته في خطواته وهو حاملٌ أعواماً بأكملها من أوهامٍ وجروحٍ قيَّدتْ جهاتك وقد تحدثتُ مع رسولي فعرفتُ كم هو بليد هذا الرجل , وكم غريب عن جوهرك , وحين وجدتهُ مُصرَّاً على التشبث بكَ دعوتكَ اليَّ
أريدكَ أن تهملهُ , والأمرُ بيدك فالمسمار لا شيء دون مطرقة .
إنّ الرجل لم يتلاشَ تماماً ولكنه تخفَّى في دغل ذاكرتك .
إنني أمنحك هذه التوليفة من الكلمات الدافقة لأنك صديقٌ لا يتكرر لهذا النهر !
ولأنني جمعتُ خبراتٍ من كلِّ القارات التي دهمتُها كالرمح الذهبي لمَّا كنتُ من ضمن السرب .
قلتُ : أفديكِ من سبيكةٍ قلَّبتْها يدُ الفضاء ! ما أنت إلاّ الحبيبة التي رحلتْ فالغُنَّة هي ذاتها !
إذنْ فلستُ صديقاً للنهر فقط بل وصديقك كذلك !
فعلى هذه الضفاف تحدثتُ عنك مع كلِّ ورقةٍ ونسمة وعشبة وصخرة وموجة ,
كنتُ أحاول أن أجعلَ للوحشة مذاقاً مقبولاً !
أديرُ كؤوسَ الحُبِّ صِدقاً وتفتري
وأعفو وإني في الغرامِ لَعامري !
وأعتادُ جُرعاتِ الظَّماء لأجْلِها
وتعتادُ جُرعاتِ النبيذِ المُعَطَّرِ !
-------------------
قالت البجعة : نعم أنا هي !
وأردفتْ : أسامحتني وأنا غائبة !؟
أجبتُ : وهل أملك إلاّ هذا ؟
قالت بمرحٍ : فارقتكَ لأني ظننتُ أنَّ شهادةَ تخرُّجك من امتحان الحياة غيرُ معتَرفٍ بها إلاّ في عالمِ ما بعد الموت , وإلهَكَ غُنوصيٌّ تحت الأرض !
فأنت لا تستجيب لهتاف الحياة فعدتُ أدراجي الى بيئتي حيث أعتدتُ العيش كدفقةٍ وسطَ دفقاتٍ هائلة وأنا أقول لنفسي : هذا أكثر رأفةً من محاورةِ وجودٍ لا يُغريه شيء !
وقدَّرتُ أنَّ مشاعري نحوك لا تلبث أن تزول ولكني اكتشفتُ أن هذه الجوهرة الصغيرة بدأت مع الأيام والشهور تشع بسطوع أشدَّ وكان الشعاع مصحوباً بحرارة راحت تلسع حتى لم أحتمل وعندها أدركتُ أنها لم تكن سوى الحب الذي ينمو والشوق الذي يكبر
فانحرفتُ عن أصحابي !
قلتُ متبسِّماً : لا عليكِ ... ولا عليهم ولا عليََّ !
شَرِسٌ عقلي , وادعٌ قلبي ,
وقد حبستُكِ في هذا القلب فمَن علَّمكِ الخروج من عنق الزجاجة !؟ إنها مَلَكةٌ أخرى !
لكن من شأن الألم الكبير أن يجعل الإنسان الكبير ذا جمالٍ يضاهي حضارة .
إصغي لنفحة قريبةِ النبض بعضَ الشيء من أغنيتي
بما يشبه التراسل الروحي !
وتوبةُ أحيا من فتاة حَييِّة ٍ
وأجرأ من ليثٍ بخفّان خادرِ
ونِعمَ الفتى إن كان توبةُ فاجراً
وفوق الفتى إن كان ليس بفاجرِ (2)
-------------------
كنتُ في غيابك أقول : عندي حقوقٌ على الدنيا
ومن حقوقي عليها ألاّ تجعلني أرى الأشياء من خلال ذاكرة مكلومةٍ
فكانت الدنيا تماطل بل وصارت تبعث خلفي برسولها الأمين !
والآن لم يعد يُهمُّني مِن أمرِ حقوقي شيءٌ وإنما باتت للدنيا حقوقٌ عليَّ !
ألَسْتِ معي الآن وتحاورينني ؟
وأمّا عن دجلةُ والفرات فَهُما شاهداي
لذلك توضأتْ صلاتي ومنذ البداية بلون هذا النهر .
النهر هذا يشير الى الله كما تشيرُ إصبعٌ من أصابع الأفق
والله يشير بأنْ لا سربَ إلاّ وسيصفق بأجنحته صوب بلادي مُضرَّجاً بِحِنّاء الشمس !
قالتْ : ما أجملَ هذا ...........
جناحاها المتراميان دفعا بساطَ الموج على الجانبين , تَرَكاه رجراجاً
وأقبلتْ نحوي وكانت كلما تقربُ مني أكثر تشتعل أكثر وحين لامستْ صدري ومِن ثم دخلتْ قلبي ثانيةً لم تكن سوى شعاعٍ من حُبٍّ قديم يتجدد .
--------------------------------------------------------
(*) نص من كتاب قصصي نثري شعري قادم بعنوان : النهرُ الأول قبل الميلاد .
نجيب سرور من قصيدة ( أغنية عن طائر )
ليلى الأخيلية في رثاء حبيبها توبة بن الحُميّر
أسرعتُ قليلاً في الزقاق الرابع وأنا أعبر الشارع العام فأسرعَ مثلي وعَبَرَ الشارع واستمرَّ في تعقبي , توقفتُ , إنه رجل بعمري تقريباً , ناحلٌ بعض الشيء ذو ملامح شرقية ,
سألته : هل لديك شيءٌ التصقَ بي فجئتَ لتستعيده ؟ لِمَ تسير خلفي ؟
أجاب ببرود وثقة : هل فعلتُ ما يضر بك ؟ أنا سائر في طريقي .
أشعلتُ سيجارة وواصلتُ السير , دخلتُ الزقاق الخامس فتبعني محتفظاً بنفس المسافة أيضاً !
توقفتُ وأنا لا أدري ما أقول لكني بادرتهُ : والآن ؟
ردَّ : ماذا تقصد بـ ( والآن ) ؟ أيها السيد أنا سائر في طريقي .
كان الوقت عصراً , واصلتُ السير , ضحكتُ بشيءٍ من العصبية رامياً السيجارة في الهواء الى الأعلى , الى الأعلى , الى ...... هناك طائرٌ صغير فوقي , لمحتهُ يصفق بجناحيه ويدنو مني نازلاً , قال عبارة غير مكتملةٍ عن بجعة رأيتُها قبل أيام وهي تنحرف عن سربها لتحط على ضفة الراين خلافاً لما هو مألوف من طيران هذا النوع من الطيور وإسلوبه الهندسي المبهر .
البجعات إذا نزلتْ ضفةً أو ساحلاً فهي مجتمعٌ قائم بذاتهِ , تحكمه قوانين جمالية محددة .
إنها يوتوبيا البجع .
عاد الطائر الى التحليق عالياً .
دختُ , والشمس هي أصلاً كانت مُدوِّخةً اليوم .
وفي منتصف الزقاق السادس رأيتُ الطائر ينحرف باتجاهي كذلك فارشاً جناحيه الصغيرين , محلقاً فوقي على انخفاض , تعمَّدتُ أن أتباطأ فتباطأ الرجلُ كما فعلتُ , لاحظتُ هذا حين التفتُّ خلفي بعد دقائق .
فكرتُ : لا , لن يستمر الأمر هكذا , سأمسكُ بهذا الرجل وأنتفُ ريشَهُ بدلَ الطائر العَصيِّ
على الإمساك !
وبالفعل هممتُ بمسكه من ياقتهِ عندما سمعتُ صوتاً حزيناً ساحراً يتغلغل في كياني , سمعتُهُ بكلِّ حواسّي , تحولتْ هذه النغمة الى نداء :
وكم غنى هو الطائرْ
وقبلاً كم ثوى طائرْ
أما للسرب من آخرْ ؟!
إلامَ نجئ ثم نروح لا جئنا ولا رحنا
إلامَ نعيش ثم نموت لاعشنا ولا متنا
هو المنفى إذا كان البقاءُ قرينَ أن نفنى
يتامى نحن ياأطيارْ
دعوا الآهات للأشجارْ
فقد جُزَّتْ بلا منشارْ ! (1)
-------------------
قال الطائر : إني رسول البجعة اليكَ , غَيِّرْ وجهةَ طريقكَ , سِرْ خلفي ولا تُبالِ , هناك النهر , هناك بيتها الذي تدعوك اليه .
تبعتُه كالمخمور وما زال الرجل خلفي !
ما زال :
تلاحقني الثواني ,
أتّقيها حاملاً آثارَ أقدامي على ظَهري .
-------------------
مضيتُ حتى وصلتُ الضفة وهناك فقط لم يعد الرجل ورائي .
على موجة بنفسجية اللون بمحاذاة الضفة كانت تحطُّ البجعة
وحططتُ أنا أمامها على مصطبة !
بعد أن ودَّعني رسولها وراح يتقلَّب كورقةٍ في الريح !
سألتها وفي خاطري قلق لذيذ : أين بقية أصحابك ولماذا حِدْتِ عن السرب ؟
أجابت : قد رأيتكَ قبل أيامٍ تسير هنا وحيداً وعلى شفتيك أغنية ففكرتُ : أوَحيد وسعيد !؟
فأجابتْني كلمات أغنيتك المُخملية : نعم .
فرأيتُني أقرِّر الحَوْد عن أصحابي الذين واصلوا الطيران لطَرْق فصول العالم الأخرى وراء البحار السبعة , وهكذا قررتُ الحَودَ لأرى ما ترى !
قلتُ : أنا أرتِّلُ أغنية فتمنحني سعادة أو رضىً أمَّا أنتِ فأنتِ نفسك أغنية .
علقتْ : شكراً لك ولكني أودُّ أن أغوص في قعر حياتك , أن أكون أغنيتك , وهل أمرٌ مؤذٍ لك أن أرى نفسي فيك , أن أتمرأى بك !؟
ثم هناك سببٌ آخر هو أني سمعتُ أسماء مثل فرات ودجلة تتردد على شفتيك فقلتُ لنفسي لا بد أن أزجي اليه نصيحة فقد كنتُ وأصحابي في الصيف الماضي هناك في وطنك فلم نُطِقِ الجفافَ والبؤس والفراغ ولم تكن هناك فصول أو بيادر , هذا ولا أنسى أنك ذكرتَ شيئاً عن الحب !
وفي ما يخص رسولي فجناحه كان عالقاً بين الأحراش ولمّا حططتُ هنا كان أول ما فعلتهُ هو أني حرَّرتُه بمنقاري هذا !
فشكرني بفرحٍ وأصرَّ على أنْ يفعل لي شيئاً رائعاً بالمقابل .
صمتتْ قليلاً ثم أضافت بصوت عذبٍ : ولكن كم أمسيتُ حزينةً حين رأيتكَ تلملم ذخيرة حلمك وتقفل عائداً في تلك المَرة !
قلتُ : لك أن تكوني كما تريدين ولكن لو أجبتِني عن هذا الرجل : مَن هو وأين تلاشى ؟ فقد هجستُ أنك على معرفة به .
قالتْ : أخبرَني رسولي بالأمر فقلقتُ عليك لذا أقول لك : ذلك الرجل , قيمته في خطواته وهو حاملٌ أعواماً بأكملها من أوهامٍ وجروحٍ قيَّدتْ جهاتك وقد تحدثتُ مع رسولي فعرفتُ كم هو بليد هذا الرجل , وكم غريب عن جوهرك , وحين وجدتهُ مُصرَّاً على التشبث بكَ دعوتكَ اليَّ
أريدكَ أن تهملهُ , والأمرُ بيدك فالمسمار لا شيء دون مطرقة .
إنّ الرجل لم يتلاشَ تماماً ولكنه تخفَّى في دغل ذاكرتك .
إنني أمنحك هذه التوليفة من الكلمات الدافقة لأنك صديقٌ لا يتكرر لهذا النهر !
ولأنني جمعتُ خبراتٍ من كلِّ القارات التي دهمتُها كالرمح الذهبي لمَّا كنتُ من ضمن السرب .
قلتُ : أفديكِ من سبيكةٍ قلَّبتْها يدُ الفضاء ! ما أنت إلاّ الحبيبة التي رحلتْ فالغُنَّة هي ذاتها !
إذنْ فلستُ صديقاً للنهر فقط بل وصديقك كذلك !
فعلى هذه الضفاف تحدثتُ عنك مع كلِّ ورقةٍ ونسمة وعشبة وصخرة وموجة ,
كنتُ أحاول أن أجعلَ للوحشة مذاقاً مقبولاً !
أديرُ كؤوسَ الحُبِّ صِدقاً وتفتري
وأعفو وإني في الغرامِ لَعامري !
وأعتادُ جُرعاتِ الظَّماء لأجْلِها
وتعتادُ جُرعاتِ النبيذِ المُعَطَّرِ !
-------------------
قالت البجعة : نعم أنا هي !
وأردفتْ : أسامحتني وأنا غائبة !؟
أجبتُ : وهل أملك إلاّ هذا ؟
قالت بمرحٍ : فارقتكَ لأني ظننتُ أنَّ شهادةَ تخرُّجك من امتحان الحياة غيرُ معتَرفٍ بها إلاّ في عالمِ ما بعد الموت , وإلهَكَ غُنوصيٌّ تحت الأرض !
فأنت لا تستجيب لهتاف الحياة فعدتُ أدراجي الى بيئتي حيث أعتدتُ العيش كدفقةٍ وسطَ دفقاتٍ هائلة وأنا أقول لنفسي : هذا أكثر رأفةً من محاورةِ وجودٍ لا يُغريه شيء !
وقدَّرتُ أنَّ مشاعري نحوك لا تلبث أن تزول ولكني اكتشفتُ أن هذه الجوهرة الصغيرة بدأت مع الأيام والشهور تشع بسطوع أشدَّ وكان الشعاع مصحوباً بحرارة راحت تلسع حتى لم أحتمل وعندها أدركتُ أنها لم تكن سوى الحب الذي ينمو والشوق الذي يكبر
فانحرفتُ عن أصحابي !
قلتُ متبسِّماً : لا عليكِ ... ولا عليهم ولا عليََّ !
شَرِسٌ عقلي , وادعٌ قلبي ,
وقد حبستُكِ في هذا القلب فمَن علَّمكِ الخروج من عنق الزجاجة !؟ إنها مَلَكةٌ أخرى !
لكن من شأن الألم الكبير أن يجعل الإنسان الكبير ذا جمالٍ يضاهي حضارة .
إصغي لنفحة قريبةِ النبض بعضَ الشيء من أغنيتي
بما يشبه التراسل الروحي !
وتوبةُ أحيا من فتاة حَييِّة ٍ
وأجرأ من ليثٍ بخفّان خادرِ
ونِعمَ الفتى إن كان توبةُ فاجراً
وفوق الفتى إن كان ليس بفاجرِ (2)
-------------------
كنتُ في غيابك أقول : عندي حقوقٌ على الدنيا
ومن حقوقي عليها ألاّ تجعلني أرى الأشياء من خلال ذاكرة مكلومةٍ
فكانت الدنيا تماطل بل وصارت تبعث خلفي برسولها الأمين !
والآن لم يعد يُهمُّني مِن أمرِ حقوقي شيءٌ وإنما باتت للدنيا حقوقٌ عليَّ !
ألَسْتِ معي الآن وتحاورينني ؟
وأمّا عن دجلةُ والفرات فَهُما شاهداي
لذلك توضأتْ صلاتي ومنذ البداية بلون هذا النهر .
النهر هذا يشير الى الله كما تشيرُ إصبعٌ من أصابع الأفق
والله يشير بأنْ لا سربَ إلاّ وسيصفق بأجنحته صوب بلادي مُضرَّجاً بِحِنّاء الشمس !
قالتْ : ما أجملَ هذا ...........
جناحاها المتراميان دفعا بساطَ الموج على الجانبين , تَرَكاه رجراجاً
وأقبلتْ نحوي وكانت كلما تقربُ مني أكثر تشتعل أكثر وحين لامستْ صدري ومِن ثم دخلتْ قلبي ثانيةً لم تكن سوى شعاعٍ من حُبٍّ قديم يتجدد .
--------------------------------------------------------
(*) نص من كتاب قصصي نثري شعري قادم بعنوان : النهرُ الأول قبل الميلاد .
نجيب سرور من قصيدة ( أغنية عن طائر )
ليلى الأخيلية في رثاء حبيبها توبة بن الحُميّر