1)
الآن وقد عبرت إلى هناك, أستطيع أن أجزم دون مواربة, بالحقيقة التالية:
إن كلبا يعبر الطريق لا يفعل ذلك أبدا بشكل عفوي, فلا شئ عفوي في الحياة, وما يبدو عاديا حد الإبتذال ليس مفصولا بالضرورة عن الوقائع العظيمة للتاريخ..
كل كلب يعبر الطريق إنما يفعل ذلك بغرض الإيذاء.
2)
كان المطر قد توقف..
وتوقفت ماسحتا الزجاج الأمامي عن الرقص..فتبدت الطريق أمامي شبيهة بعاهرة مصابة بالسفيليس ودائمة التحفز لإرسال شتيمة مقذعة لأول قادم.
الطريق لا تمضغ اللبان..
لكنها تصطاد الزبائن, فتنيم البعض في العسل, وترسل البعض الآخر إلى حتفه.هي الآن قشرة موز تحت العجلات, وبعد قليل تستحيل إلى سيف يشطر الدوار شطرين..هناك, سأقلص من السرعة, وأنحرف عبر الطريق المتربة باتجاه الضيعة, حتى أصير في مواجهتك يا مالك..وستعلم آنذاك أن العاهرة قد أوصلتني مرة أخرى إليك, وأن الوقت ليس وقت شتيمة, بل وقت الشد على الخناق.
3)
" أين الأغنام يا مالك؟"
كلما طرحت عليه السؤال رد بنفس الجواب, وقد زوى ما بين حاجبيه وتأهب للعراك..يكون برفقته كلب أو اثنان يلفان حوله ويهران في وجهي, فأقبل على مضض مبرراته المعلنة وأرجئ الوعيد إلى حين.
لكن غض الطرف لم يعد مقبولا..
وقد بدأ الآخرون يتململون من التذمر ويبرطمون بذلك الكلام الشبيه بدمدمة الطبيعة عند الغضب.
" ويا مالك أين الأغنام؟"
نفس الجواب عن الأمراض المتفشية والقضاء والقدر وسوء الطالع..ثم نفس التقطيبة التي تزرع بيننا سحابة من الغبار, ومن الريبة والتنافر المتعاظمين.
4)
توقف المطر..
وركنت ماسحتا الزجاج إلى النوم..في حين ضخت السرعة العالية كمية إضافية من الأدرينالين في دمي, أو لعل ذلك على الأرجح بسبب الدنو من مالك..
البئيس !
لن أسمع منه شيئا..ولن أبالي بتقطيبة الجبين, لأن الوضع صار أكثر تقطيبا منه, والطحين الذي نتقلب فيه ظهرا عن بطن يهدد برمينا في زيت القلي.
5)
ثم رأيت الكلب..
على مشارف الدوار, قرب بيت طيني معزول.كان يريد عبور الطريق..ولم أكن أعلم أن وراء العبور قصدية مبيتة للإيقاع بي..الأمر كان مفاجئا بالطبع, فالكلب –حتى لو كان مسالما- لن يشهر لافتة كتب فيها:
تريث من فضلك .. سأعبر
إنما يعن على حين غرة بمنطق استشهادي, استمده دون شك من معاشرته الطويلة للآدميين, ويحركه الحس الغابوي المتخفي تحت رداء الصورة الداجنة للكلب الذي يبصبص بذيله فرحا بمقدم السيد.
كنت أفكر في مالك والأغنام..موسيقى صاخبة كما لو أنها طبول حرب تطن داخل الرأس, وفي الدم قرص فوار..ثم رأيته فجأة أمامي, فأدرت المقود بدرجة انحراف تجاوزت الحد المعقول,وبعدها.. لم أعد أتحكم في السيارة..دارت ثلاث دورات وارتمت على أعتاب شجرة كانت بالمرصاد.
6)
بعد فترة بلبلة لم أميز عمرها, وصلت إلى هناك, فوجدت مالكا في الاستقبال
- مرحبا بنزيل الدار
قال بنبرة أقرب إلى الشماتة.
فغمتني رائحة نفادة لم أخبرها أبدا, وأصوات استغاثة..وبدت كل الجهات جهة واحدة والزمن مثل نطفة مجمدة..
الحمرة الطاغية..
والحرارة التي لا تطاق..
وقبل أن أنبس بحرف, رأيت خاطوفا كمنقار صقر خرافي يدهمني, ثم وجدتني أرتفع في الهواء الحار إلى ما لا نهاية, وألم عظيم يعتصر الجسد.