خرج "بَّا إبراهيم" في ذلك الصباح البارد الذي كان ينذر بجو قارس يستوطن كل أرجاء المدينة. يجر عربته الكئيبة وراءه، يضع على رأسه طاقية تشكو الفقر والحاجة، باهتة تحميه من لسعات البرد. يتقدم بصعوبة وهو يجر العربة ويقف ليستريح كأنه جرى أميالا. ضعيف البنية التي أكلها الزمن وحولها الى جسد شبح. برجليه حذاء كبير الحجم وثقيل، ربما كان صدقة من أحد أو وجده مرميا على الطريق. تسمع خطواته عن بعد.
" بَّا إبراهيم" رجل مسالم وقنوع وطيب جدا، حتى إنه يمكنه أن يبيعك النعناع دون أن يطالبك بالمقابل. لا يعير اهتماما لتقلبات الجو، كأنه يتحدى بجسده الهزيل سخرية الطبيعة منه. يخاف كثيرا عندما يرى "المقدم" قادما نحوه، يعرق ويلتفت يمنة ويسارا كأنه يستنجد بأحد. يقول له المقدم "كم مرة قلت لك، لا تغير مكانك". يحني رأسه ويستعطفه ألا يأخذ منه عربته التي هي مصدر رزقه. يهدده أنه في المرة القادمة لن يتراجع عن قراره.
يمشي " بَّا إبراهيم" بخطى بطيئة وعربة النعناع وراءه يتمتم ببعض الكلمات، تعبر عن سخطه وربما عن عدم قدرته على مواجهة المقدم.
يقترب من الحائط الذي اعتاد ان يجلس قربه، يفرش كل أوراق النعناع أمامه، بغية أن تجلب الناظرين لجمال لونها ولرائحتها التي تسكر المكان. يجلس وينكمش وصوت المقدم مازال يسكنه ويراقبه. ينتظر وينتظر حتى يبيع كل ما لديه من النعناع، وإن تطلب منه ذلك اليوم بأكمله. جسده النحيل لا يسعفه أن يتنقل كثيرا بين بيته والمكان القريب من السوق. يجمع بعض النقود القليلة ويعود بها في آخر النهار الى بيته حيث تنتظره زوجته التي أنهكها المرض.
كان ذلك اليوم باردا جدا، تلحفت السماء بالغيوم واستوطنت المدينة كآبة غير مفهومة. دفع " بَّا ابراهيم" من بيته المتهالك والمتواجد على أطراف المدينة دفعا، فجسده لم يعد يسعفه وأصبح يعانده كلما دقت أجراس الشتاء والجو البارد. يجر عربته البئيسة وراءه وراح يبحث عن النعناع الذي يحب رائحته كأنه سر من أسرار حياته ويبعث في نفسه بعض الدفء والبهجة المفقودين. اشترى نصيبه من عند أحد الفلاحين الذين يأتون كل صباح محملين بإنتاجهم الغزير. خطواته بطيئة، تعاند قساوة الطبيعة والزمن، يحاول الوصول الى مكانه المعهود حيث مازال كلام المقدم يرن في أذنه. جلس كالمعتاد وهو أكثر اطمئنانا وفرحة لأنه لم يخالف القانون واحترم التعليمات. فجأة، سمع صفيرا مدويا وجري وضجيج. لم يفهم ما يحدث. جرى قربه أحد الباعة المتجولين وقال له "اجمع النعناع واذهب الى دارك " بَّا إبراهيم". "المقدم وأعوانه يجمعون كل شيء." لم يفهم "ب ابراهيم" شيئا. وخصوصا أنه طبق بالحرف ما قال له المقدم في المرة السابقة. ظل متسمرا في مكانه وهو يعلم أنه لم يخرق القانون. أتوا اليه، وأخذوا عربته وحاول الدفاع عنها وقال للمقدم" انا في مكاني." حاول أحد المارة التدخل وطلب من المقدم أن يترك له عربته لأنها هي رزقه اليومي ويحترم شيبته. لكنه تجبر لم يعره أي اهتمام وقال له "القانون هو القانون"ورحل وتركه يتحسر ويضرب كفا بكف ويعيد نفس الكلام "أنا في مكاني".
اقترب منه أحدهم وقال له "يمكنك أن تأتي معنا لاسترجاع ما أخذوه منا. لكن هناك مسطرة يجب اتباعها". لم يستسلم " بَّا إبراهيم" وذهب معهم لاسترجاع عربته. فهو لا يستطيع العودة الى بيته بدونها. اتنظر طويلا في ذلك اليوم البارد وهو يرتعد وجسده لا يستحمل. أخيرا افراج عن تلك العربة التي قضت معه زمنا طويلا ومشت معه أميالا. لم تتأوه يوما من شدة التعب ولم تخنه يوما. فهي جزء منه. يعاملها كطفل يحتاج الى رعاية وتحن عليه بصمودها وصبرها رغم شيخوخة عجلاتها. لم يفهم لماذا انتزعت منه وهو كان في مكانه المعروف والمسموح به لأي بائع متجول. علت الفرحة ملامحه كطفل حصل على هدية يوم العيد. وقال بصوت مرتفع "أنا كنت في مكاني". رموا العربة بعنف شديد. تحرك بصعوبة لكي يصل اليها، ولم تفارق شفتيه ابتسامته الممزوجة بالرضا والحزن. ولما اقترب منها وجدها قد تكسرت ولم تعد صالحة للعمل. جلس قربها واحتضنها بيديه المرتعشتين ونزلت دموعه تحكي عن وجع الظلم والألم. ظل حاضنا لعربته ولم يتحرك.