جلس على خوانه الخشبيِّ العتيق، قوي البنية رغم أعوامه الثمانين، مكشوف الرأس، تغطي وجهه المجعد لحية بيضاء كثيفة، يرتدي كعادته قميصا أزرقا خفيفا، وبنطلونا كحليا عاديا.
حدثني حامد عن البقعة الوادعة، التي هُجِّر أجداده منها، احتلَّها اللصوص، فصارت مملكة لهم، لأكثر من قرن ونصف من الزمن، ولم تندثر إلا قبل ستين عاما تقريبا.
غدا أغلب ساكنيها من آكلي السحت، وشذاذ الآفاق، وقاطعي الطرق، وأصدقاء لهم راضين بفعلهم، ومنتفعين منهم، وساكتين عنهم، وبعض الخائفين والمترددين.
خضعت الرواية لتكذيب الكثيرين إلى حدِّ الإنكار، فمتى بنى السارقون حواضرا، وأين كانت عنهم السلطات المتعاقبة؟!
بدأت الأحداث عام 1820، فقد كان حامد "الجدُّ" نائما، وحيدا في بيت أهله شبه المهجور.
استفاق قبل الفجر على جلبة كبرى، ظنَّ الأمر كابوسا قاسيا، إلا أنَّ صخب الدهماء صار قريبا جدا، ومرعبا.
تغلب على خوفه، وذهب إلى غرفة المونة المجاورة، وجد بضعة رجال، ثمانية، أو تسعة على وجه التقدير.
استغرب تربُّعهم فوق أكياس الشعير والذرة، يثرثرون، وكأنهم غير مستعجلي السرقة، حاولوا إرهابه، لم يخف رغم الكثرة، واختلال ميزان القوى.
رؤوسهم مكشوفة، ووجوههم معروفة، معظمهم من القرية المجاورة.
رفعوا عليه السلاح، هددوه بالموت، لكنه واجههم:
- اخرجوا من بيتي، أنا لا أهابكم!
انقلبت سخريتهم منه إلى جديَّة مُرّة، اقترح أحدهم قتله ببساطة، إلَّا أنَّ أمرا جاء من الخلف نهرهم:
- لا تبدؤوا أول عهدكم بالقتل، اتركوه الآن!
خرج اللصوص، والصراخ الأصمُّ يرافقهم، نظر حامد إلى الباب المهشَّم، فهم أنَّه استيقظ على صوت تحطيمه.
تفقد الأرزاق، لم يجد نقصا يذكر، أصابته الدهشة.
مع طلوع الشمس، أخبر حامد أهل القرية، وقال أنَّه يعرف جلَّ السلَّاب، ولكنه لن يُصرَّح بأسمائهم، إلَّا أمام شيخ المنطقة، وأعيانها، وأنَّه جاهز للشهادة.
سخر شباب القرية من حامد:
- شاب وحيد أعزل، تغلب على تسعة رجال أشدَّاء مسلحين، لا بدَّ أنَّ الحلم كان جميلا!
- جاء السارقون إلى بيتك ليلا، ومع ذلك لم يأخذوا شيئا، ما المشكلة، ربما اعتقدوه مقفرا، أو أتوا للسهرة عندك، لا تكن بخيلا يا حامد؟!
ورث حامد البيت من أبيه، وحافظ عليه كأغلى ما يملك، كان تاجرا متنقلا ميسور الحال، يسوق بضاعته على بغل، ويجوب القرى المجاورة، حسن الصيت، ولم يجرَّب عليه الكذب أو شطط الخيال، ولكن من يأبه للسمعة الطيبة، حين يجرف تيار التكذيب أرضا ما؟!
أدرك حامد أنَّ الأمر خطير، ولكنَّ أحدا لم يصدقه.
أحضر معه إلى البيت نجارا لإصلاح الباب، لكنه فوجئ بعودته إلى ما كان عليه.
قال له النجار:
- ألا ترى يا حامد، حتى الباب غير مخلوع؟!
- لكن أثر الكسر واضح فيه، شخص ما أصلحه قبل وصولنا؟!
"ولكن من يهتمُّ بتفصيل كهذا".
أنكر النجار، وانضم إلى قائمة المكذِّبين الطويلة.
يوما بعد يوم، أصبحت حياة حامد في القرية مستحيلة، بعد قصة السرقة، هزأ منه الجميع تقريبا، وضع مفاتيح بيت أهله في جيبه، ورحل.
تندر الأهالي في سهراتهم على حامد، وقصته الطريفة مع اللصوص، الذين لم يسرقوا شيئا، ولفرط خوفهم منه، أعادوا له الباب المكسور كما كان...
أوشك النسيان أن يطوي قصة حامد، لكن الأشرار استأنفوا نشاطهم.
اختاروا في البدء بيتا منبوذا، أو قليل السكان، فريسة ضعيفة دون مقاومة.
كذَّب البعضُ قصصَ السرقة الجديدة، كما فعلوا مع حامد، لكن جماعة اللصوص اعتمدت أسلوبا شرسا و وقحا.
سرقوا محصول الزيتون كاملا، من بيت أبي عبدو الفقير، بعد انبلاج الصبح بقليل، وساقوا بقرات رضوان أمام عينيه، مع غياب الشمس.
دعا اللصوص علنا شباب القرى العاطلين عن العمل للالتحاق بهم، فتحول رهط التسعة إلى أربع وستين لصا، ثمَّ إلى مئتين، فألفين، ثمَّ بلغ عددهم خمسة آلاف، وفاق عددهم في سنوات قليلة العشرين ألفا، مع نسائهم وأطفالهم.
هاجمت العصابة قرية "كرم الندى "الغنية، ولم ينفع أهلها تصديقهم المتأخر جدا لحامد، ولا مقاومتهم الشرسة، فالكثرة هزمت الشجاعة.
استقرَّ الأشرار في "كرم الندى"، وغيروا اسمها دون خجل إلى "لصوص ستان"، وعينوا "نافذ الأقرع" شهبندرا لهم.
لم يبدل مستوطنو "لصوص ستان" مهنتهم، ولكنَّهم غيَّروا طريقتهم، فانتقلوا إلى النهب في وضح النهار للقرى القريبة، ثم البعيدة، وفرضوا الإتاوات.
قرَّر شهبندر اللصوص أنَّ الوقت حان لتغيير النهج كاملا، فالمال أصبح وفيرا في لصوص ستان.
امتدَّ النشاط إلى الأعمال، فمدَّ من بقي من تجار الهضبة بالنقود، وشاركهم الربح طوعا أو قسرا.
غدا لصوص الماضي سماسرة الحاضر، وتخلوا تقريبا عن السرقة المباشرة، إلا فقراءهم وبعض ضعاف النفوس، فأصدروا تشريعات حازمة للجمهم.
ومع مرور الوقت، لم تسجل حادثة سرقة واحدة، ولكن اسم "لصوص ستان"، صار عبئا ثقيلا عليها.
غيَّر شهبندر اللصوص الجديد لقبه إلى "الأمير الصالح"، وسمح للناس بحرية الرأي والكلمة، باستثناء ذكر الاسم القديم ل "أرض الصلاح".
لم يكن تغيير الاسم كافيا لينسى أهل الهضبة ما حدث، وكيف أضحوا غرباء في أرضهم، وفقراء مدقعين بعد أن كانت "كرم الندى"، وجوارها مضرب المثل في رغد العيش.
مضت الأيام، واختلطت الروايات، وصعب التمييز بين ما حصل فعلا، وما توهمته العقول، أو مازجه الكذب والزيادة.
احتفظ أحفاد حامد جيلا بعد جيل بالحقيقة، و بمفاتيح بيت جدهم القديم في "كرم الندى"، وما زالوا حتى اليوم يحلمون بالعودة.