أعياه المكوث في بيته على مدار الأيام المنصرمة. فجلوسه المنتظم في إحدى زوايا البيت كان قد أثارفي نفسيته انقباضا بلغ حد القرف.
هادئا كان الفضاء الذي يقطنه ويعيش على إيقاعه، ومع ذلك لم يدرك بشير في تلك اللحظة ارتسامات أناس حدثوه عن جاذبية هاته القرية. فانبهارهم برونق طبيعتها جعلهم يضفون عليها أسماء كزمردة الأطلس، وجوهرة سيمير اميس ثم جنة عدن. إلا أن بشير لم يكن من هؤلاء ولا من أولئك. كان بشير وحيدا في أعماق وحدته منذ أن حط رحاله هنا في منتصف شهر دجنبر حيث استقبله وابل من المطر و رياح باردة..
دل بشير بعيد مدة على هذا المقهى الذي يحضن مرتاديه ممن تؤلف بينهم آواصر قربى قبلية أو وشائج صداقة تشكلت بفعل الاحتكاك اثناء العمل.. كراس خشبية هنا وأخرى بلاستيكية هنالك. رصيف المقهى زليج بني شديد القتامة. ركيزتان قويتان من الإسمنت المسلح منتصبتان وسط باحة المقهى تحجبان شع عناكب في الزوايا قبالتك..
دخان السجائركثيف.كثيف جدا. كخيوط تتعالى في تثاقل باتجاه السقف. يستقبلك في اللحظة ذاتها التي تدلف إلى المقهى.صياحات تتخللها لكنة موسيقية أخاذة تنساب مع عذوبة نسيم الصباح. قهقهات عالية تتخللها سعالات حادة تكاد تمزق بعض الصدور. عيون تصوب نظراتها صوب الباب. أصوات الزبائن المرابضين زمرا تتنادي على " شعيل" النادل اليافع الذي تخاله من أول نظرة مضللة أنه أكبرمن عمره:
-قهوة كحلة!!..
-قهوة مهرسة!!..
-براد بالشيبة!!...
-نص نص.
-لوح شي ديطاي..
انزوى بشير قريبا من هذا الجيش الاحتياطي للعمل أمام طاولة اسود لونها وتآكلت جنباتها من سوس الخشب ..وجوه شاحبة إلا قليلها شحوب لوحة "موريلو" المعلقة بمسمار صدئ على الجدارخلف الكونتوار...يظهر أن أولمبياد أوراق اللعب انطلقت اليوم في عز الصباح مع أغاني شجية ل" موحا وموزون" و"بناصر وخويا" التي تصدح من مكبرصوت موصول بآلة مسجلة لتختلط وجلبة عشاق أوراق اللعب:
الطالاج كومبلي آمعلم..
ارشم روندة
اشري !!! ...140 ..
140 في لكحل ..
أر أنت حبل
يا الله شكون يغنى الربعين؟ ..
تصاعد الصخب واحتد معها مخاض الذاكرة، فطفق بشير يرتشف قهوته وهو يهش على جحافل الذباب المتحلق حوله مرة بحركة من يده ومرة بنفث الدخان الذي ابتلعته رئتاه عليها...
بين حين وآخر يبتسم بشير وهو يتابع عن كثب بعض الأنفار تسخرمن المهزومين بوضع قطع من صفحات الجرائد على آذانهم أو إثباتها تحت قلنسواتهم أو بمناداتهم بألقاب ألصقت بالبعض منهم ذات طفولة مضت ..
وتستمر جولات اللعب اللامتناهية. وتمر اللحظات كطيف خيال والجريدة ماتزال على الطاولة و الفنجان أمام بشير أضحى مترعا بالذباب...
حديث الذاكرة احتد واشتد ليصبح فياضا ممتزجا مع زمن مكرور لم يألفه من قبل فيشرد بصر بشير نحو الجبل والمرتفعات القريبة. "تازركونت" تبدو حقا رائعة من بعيد بالسرو والتنوب الأخضر المتشح بالسواد. ولم يستيقظ بشير من غفوته إلا على صوت "شعيل" : "بغيتي نزيدك الما أو نجيب لك شي ديطاي؟"...
لم يقرأ بشير جريدته هذا الصباح؛ فقد غادر المقهى تاركا خلفه صخبا يعلو كلما انهزمت زمرة من لاعبي الورق ...