لا أحد يعرف سرَّ ابتسامة حسن سعيد التي لا تفارقه، طفولته لم تكن كلها سعيدة، لكنه كان يراها كذلك، لم يغير فيه موت الأم ولا فقدان الأب.
طُرِد حسن سعيد من المدرسة لأن مديرها اعتبر تعابير وجهه ساخرة أكثر مما يجب.
لم يكن له إلا صديق واحد، عزيز، كسب ثقته لأنه امتدح ملامحه الملائكية.
عمل حسن في مطبعة بدخل ضئيل، لم يشعر بالتعب، رآه بعين الرضى.
ابتسم يوم طرق الحبُّ بابه، طار من الفرح أسابيعا، أغرقته الحبيبة بالشروط، بيت مستقل، عرس في صالة أفراح فارهة، شهر عسل في فندق على شاطىء البحر، اعتبر مطالبها
علامة خير ليتخلص من عبئها الثقيل ونظر إلى حبها كخطأ قابل للتصحيح.
ساعده صديقه عزيز على نسيان خطيبته فتزوجها بدلا منه، ولم يعاتبه حسن أبدا.
أفضال عزيز عليه لم تتوقف هنا، فقد نصحه بالانتساب إلى حزب ثوري، قبل حسن سعيد النصيحة، كان رجلا لا يخاف، ومولعا بالمغامرات الخطرة، لكنه فوجىء برجال المخابرات يلقون القبض عليه، فقد كان الحزب محظورا، أودعوه السجن لعامين دون محاكمة.
تذكره قاض يوم فاض السجن بساكنيه، أخرجه من سجنه الأول، وحوله إلى زنزانة منفردة يوم صارت شاغرة من قاطنها السابق.
حكمت عليه محكمة عادلة بتهمة توهين النفوس، قضى خمسة عشر عاما في حبس جديد، شكر القضاة على حكمهم المخفف.
تعجَّب سجانوه من ابتسامته التي لا تفارق محياه، ظنُّوه قديسا، ورأى آخرون أنه معتوه.
خرج من السجن إنسانا آخر، شعر بالسعادة عندما عرف أنه نجا من حرب مدمرة، اعتبر السجن منحة كبرى، وشكر صديقه عزيز الذي استقبله بالدموع والأحضان.
تكرمت عليه الحكومة براتب تقاعدي، واعتبرت فترة سجنه عملا مستمرا.
زاره عزيز، وأهداه فكرة عبقرية لشراء بيت في قرية هادئة في أطراف البلد، رآها فرصة العمر، فالبيت رخيص، صغير ولكنه نظيف.
أنهى عزيز المعاملات الإدارية لشراء بيت الصديق، فالدنيا مازالت بخير.
استمتع حسن سعيد بسكنه الجديد بضعة أعوام.
أقسم المسعف، الذي جاء متأخرا ساعتين، لينقذه من نوبة قلبية، أنه كان مبتسما حتى ظنه حيا، كان حسن في حياته كالأموات لا يشكو، عاش راضيا ومات مرضيا.
بحثوا عن إنسان يعرف حسن سعيد ليتولى دفنه، نشروا خبرا في الصحف والمجلات، لم يأتِ أحد ليتعرف عليه إلا بعد شهرين تقريبا، جاء أخيرا صديقه القديم والوحيد.
تقدم عزيز بطلب للسلطات، حسن سعيد كان مقطوعا من شجرة، والمنزل الذي كان يسكنه قدمه له صدقة، ولكنه مضطر الآن لاسترجاعه، فالحي أبقى من الميت، عرض الصديق وثائقه، واستعاد المنزل الريفي.
دفن عزيز الجثة لوحده، كان حسن سعيد ما يزال يبتسم، وهو في طريقه لمعانقة تراب الأرض.
كفكف عزيز دموعه، وهو يتمتم:
رحمك الله يا حسن، عشت ومت سعيدا، بعيدا عن مكر البشر.