غراب مصفق بجناحيه، يشق الفضاء الصامت بنعيبه، تتابعه من على شجيرة عوسج بومة رقطاء لحظة.. ثم تعود لسباتها، بينما هو.. كفزاعة نخرتها الريح وأيبسها الحر واقف، يمسح بعينيه الكليلتين البانورما النائمة تحت نير بقايا صهد الظهيرة، سرعان ما ينقلب إليه البصر كسيرا و هو حزين!
لا جديد، و لا شيء يبعث في القلب سلوى، أو يبدد من كآبة روح أسيرة بين ظلمات آمال وانتظار.
نفس اللوحة!.
قطرب، وقتاد أشواكه منتصبة كآذان عفاريت، وكتبان رمل وحصى هنا وهنالك، ومتناثرات من أكواخ تهيم بين دروبها أشباح آدمية، تُقلى تحت الصهد...
يحس بِحرّ العشي يلسع ذراعيه العاريتين وقفاه، فيلوذ بشجرة تين كبيرة، ووحيدة خلفه ثم يجلس تحتها، فوق صخرة تٌطل من بطن الأرض.
ما كان يقاسمه المكان عدا طفلين نصبا على التينة أرجوحة من حبال ونصف إطار متهالك، يتبادلان دور المتأرجح والزاخم بكل دَعة وأريحية!. استأنس بحركتهما المنتظمة عن وحشة نفسه وهام في الفضاء الممتد أمامه من جديد يفكك أحجاره وكأنه.. يراه لأول مرة؛ توقفت عيناه على القلعة.. بدت له صرحا متناهي الأبعاد، سامقة، تناطح السحاب، نصفها في البحر والآخر ممتد في البيداء التي حوله. كان يوما خلف سورها، سور ضخم، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب! لكنه.. خالف القوانين، وكسر " كوجيتو" الثوابت...
قد أراد أن يكون فقط رحيما وشيئا ما اشتراكيا وهو يمنح ذات شتاء معطفَه لشابة من أهالي وراء السور، مما أغضب القيمين على القلعة غضبا لا يوصف، فنبذوه بالعراء وهو مذموم مع الأرذلين خارج القلعة إلى أجل غير مسمى..!
لم تشفع له حظوته بين النسيج السكاني المتجانس، ولا مكانته العلمية، وأياديه البيضاء... ولا حتى مجده...!
اندمج في عالمه الجديد.
عالم يرزح تحت طائلة الفقر والجوع والتهميش؛ متروك لحاله لا حبل سريّاً يربطه وعالم القلعة إلا قوافل من بنات وفتية من أجمل خلق الله يشدون الرحال إلى بوابة القلعة ليلة كل جمعة ليُختار منهم من يختار فيدخل، ويُرد الباقي، ثم شاحنة لنقل النفايات الصلبة التي ترمي حمولتها قرب حواريهم كل مساء إثنين... يخف الأطفال واليافعون إلى مطارحها ويعودون محملين بأدوية شارفت على الانتهاء صلاحيتُها، وآلات كهربائية، وملابس وأشياء أخرى غريبة...
رحب به أهله الجدد، وآووه وأحسنوا وفادته، وامتازوا حين وجدوا فيه المعلم، والطبيب، والمهندس، والخبير... فقد صار يداويهم بما يأتون محملين به من أدوية، ويجتهد أيضا ويعيد إصلاح تلك الآلات المعطلة والتالفة ليعاد استعمالها... ويسمع لمشاكلهم و أحيانا.. يفتيهم فيما هم فيه مختلفون...
اهتزت التينة العظيمة فوق رأسه أغصانُها وكأن عفريتا رجها رجا ، لكنْ حين تفقد ما حوله لم يجد غير الطفلين غارقين في لعبهما، واحدٌ ضام يديه، والآخر يتأرجح لوحده كبندول دقيق النبضات... لحظتئذ حَضَرَتْه ظاهرةُ الصدى(1) وعجائبَها، فتذكر كيف للكأس أن يُكسَر على تردد رنة معيّنة عن بعد، وكيف انْهار وتهاوى جسر بروتان ( Broughton ) الانجليزي المعلّق قاذفا بالجيوش إلى الهاوية ردّا على خطواتهم المنتظمة و المتناسقة! وتذكر ـ كما علموه في الجامعات والمدارس ـ أن الاتساق والانتظام أقوى من أي قوة في العالم، فهو هادٌّ وبان...
شيْ ما داخله حدث، إذ اهتزت أنفاسه، فبدنه و التمعت عيناه، وأخذ يمسح من جديد بعينيه صرح القلعة طولا وعرضا، ثم قال في نفسه: " ماذا لو...؟! " و انطلق جاريا نحو أهله، فحشر ونادى وقال:
ـ أيها الرفاق جميعكم، ودون استثناء يحن لاختراق سور هذه القلعة المحرمة، بل يتوق أن يسوى مع الأرض، فيغشاها ويكون له خيرها، ماؤها ومرعاها، وثمارها التي ما يوما قطفها وكثيرا ما تمناها.!
اليوم سندخلها وتكون لنا كما لسوانا دونما نفس تُزهق، ودون نبال أو مناجيق أو بارود وحريق.
سنهدّها ونغشاها بالغناء... بالغناء فقط ..لا غير.
ما أن أفصح عن ما جمع له، حتى أخذ الجمع يتولى ويغادر..
فقالت سيدة:
ـ ربما شظف العيش هنا والنفي أفقده عقله، وبات يرى كل مفتاح هو حل لهذه الجدران القوية!
وقال رجل:
لعل حرارة الصيف أفقدته عقله وصار يهدي...
لكنه هو لم يستسلم لصدهم بل صاح فيهم بصوت جهور:
انتظروا، هلْ يوما كذبتكم أو خذلتكم؟ ألم أخبركم بميقات كسوف الشمس، وخسوف القمر؟ أما بشرتكم كم من مرة بقدوم المطر؟
إني رجل علم، لا غيبيات. فرب رفرفة جناحي فراشة في أقصى الشرق تصير إعصارا مدمرا في الغرب! لا تستهينوا بالضعف! إن الضعف قوة!
استطاع أن يلم من جديد الجمع ويلتف حوله، وتابع حديثه:
الصوان يتفتت تحت الوقع المنتظم للمطر، والجبال تتآكل وإصرارَ الرُّخاء(2) ولن نلتمس غير الاتساق والإصرار وسيلةً لهجومنا السلمي هذا،.
سنلتف كرجل واحد حول القلعة، من الشط إلى الشط ونجعل نطرق عليها طقْ، طقْ طَطَقْ ـ طقْ، طقْ، ططق؛ بنفس الإيقاع و بذات الوقت، أي تكون حركاتنا متناغمة ومتزامنة ، وبإمكانكم أن تغنوا أو تهللوا أو تكبروا إن شئتم..! فإن ثابرنا ستتساقط ـ حتما ـ تلكم القلعة قدام أرجلكم.
ليكن موعدنا يا رفاقُ بزوغ القمر، إذا آمنتم بفكرتي، ولم تتزعزع ثقتكم بي لغرابة مشروعي...
ماهي إلا ساعات، و بزغ من الشرق القمر، أحمرُ اللون فضيّ الهالة، وكان الرجال والنساء ـ كما اتفق ـ كتلة واحد تحيط بالقلعة... تطرق على السور العظيم طرقا متناسقا منغّما وكأنه وليدُ كف واحدة... يُحسُّ به يتمدد بين الصخور والخرسانة تمددا ثم ينعكس على الأيدي كهدير موج غاضب أو شبه همهمة زلزال آتية من بعيد...
تواصل الطرق في الليل وطال، وكان كل من تعب يتخلى ليشغل مكانه شخص آخر، حفاظا على النغمة ذاتها، لكن مع غياب أي علامة مبشرة بدأ الياس يدب في النفوس وفيه هو أيضا وصار يشكك في نظريته، بيد أنه ظل متماسكا يحت الجمع على الإصرار.. والمثابرة
للأسف، لم تسقط القلعة أو يظهر بها شرخ أو صدع، وتيقن هو أن لا معجزة وراء هذا الصخّ رغم انتظامه فهمّ صائحا في الجمع بالتوقف، لكن تفاجأ حين رآهم منسحبين ناكسي الرؤوس ترهقهم ذلة ومسكنة وسط صمت مطبق كأنه الموت عينه... شقه فجأة دوي هائل مثل انفجار بركان، وثّقه انهداد سور القلعة، حتى أصبح أثرا بعد عين.
توقف الجمع المتولي للوقع بغثة، ولما استوعبوا ما وقع ركضوا نحو المدينة مقتحمين حرمتها،
*******
قبل طلوع الشمس بقليل، و وبعد غروب القمر كان غراب على مشارف السور المهدم يحاول فقء عيني جثة نصف مغطاة بالردم في حين تتابعه من بعيد بومة رقطاء من فوق شجيرة عوسج لحظة ثم تعود لسباتها
ظاهرة الصدى: ظاهرة فيزيائية Résonance .
رخاء: ريح لينة