"المرأة ترياق لكل سم"...ردد هذه الكلمات وهو يسير في الشارع الطويل الذي لا ينتهي، تزكم أنفه تلك الروائح الكريهة المنبعثة من المجاري المتعفنة والبالوعات المتناثرة على حافتي الطريق. تناسى كل ذلك وراح يدندن بأغنية قديمة حفظها زمن الصبا. سار وهو يسابق خياله ويتلهى بمحاولة دوسه، وكان ينجح في ذلك كلما تجاوز عمود من الأعمدة الكهربائية الواقفة في حياد أشبه ما تكون بحراس يراقبون الغادين والرائحين، تكشف هوياتهم بضوئها الأبيض الساطع. كان ظله يطول ويقصر حسب بعده أو قربه من إحدى الأعمدة. راقت له لعبة الظل كما سماها وراح يقضم بها الوقت، فالموعد المحدد لوصوله إلى المنزل رقم 9 ما زال أوانه. يريد ألاّ يتقدم وألا يتأخر. هو يحب المواعيد الدقيقة، ويحرص على الدقة في مواعيده، لم يسبق له أن أخلف موعدا أو تأخر عنه. شهد له كل من عرفه بدقته المتناهية، ولم يسبق أن عاتبه أحدهم على تأخره عن موعد يوما، يلغي كل أشغاله للوفاء بالوعود والحضور في المواعيد...هكذا تعود منذ طفولته. ألف ذلك منذ حرم من مشاركة أصدقائه مباراة في كرة القدم ضد أبناء الحي المجاور بسبب تأخره، وظل يلوم نفسه ويعاتبها حتى انتهت المباراة.
عقارب الساعة تكاد تتوقف، الساعة تجاوزت العاشرة بقليل، وهذا الشارع الطويل الممتد لا ينتهي، إنه يشبه في طوله ليالي الشتاء القاسية، فهو يعرف أن ليل الشتاء مفزع وجاف. أو قد يكون أشبه بشهر يناير الطويل. وهذا الرذاذ اللذيذ الممعن في النزول يناكده ويسعده في آن. وحده كان يمشي وحول رقبته لف الكاشكول الصوفي الذي أهدته له والدته بمناسبة عيد ميلاده الأخير. كل الأبواب من حوله موصدة، والرذاذ يصبح مطرا ترتطم قطراته بالواقيات صوتا بهيجا محببا عشقه عندما كان يتجول في شوارع لندن ذات سفر.
تحمله قدماه إلى المنزل رقم 9 من الشارع الذي يسلكه. هكذا قرأ الرقم صباحا عندما رن هاتفه المحمول معلنا وصول رسالة، قرأها مرات، وتراجع بعد أن فكر في محوها وقرر الاحتفاظ بها. سحب الآن هاتفه من جيب معطفه أعاد قراءة الرسالة "أنتظرك على الساعة العاشرة والنصف في المنزل رقم 9 من شارع العسجد". تامل ساعته اليدوية، لم يبق على الموعد سوى دقيقتين، وهاهو يقطع خطواته الأخيرة للوصول.
لم يرها من قبل، لكنه سمع صوتها مرارا. أخطأ يوما في إدخال رقم فأجابه صوتها، كان عذبا منسابا لا لوثة فيه، غير أنه يحمل مسحة من الحزن يعسر التقاطها لمن يصغي إليه أول مرة. فوجئ حين سمعها ترد على مكالمته، فأراد أن يعتذر ويقطع الاتصال، لكن أصابه عجزت عن الضغط على الزر. أسرته بكلماتها العذبة، ظل يصغي إلى أنفاسها الشاردة وهي تسمع اعتذاره، ترجته أن لا يقطع الاتصال سريعا، وظلت تحدثه عن ضنك العيش وضياع العمر وراء لهاث زائل فان لا طائل من ورائه. لم يحر جوابا وظل يمسك الهاتف وهو يضغي إليها دون أن ينبس بكلمة. فما عساه يقول لها وهو أولى بالشكوى منها. أي جسارة جعلتها تشكو وحدتها وقسوة عيشها لهذا الغريب المتطفل الذي ساقته الصدفة إلى ديارها. وأي جرأة جعلتها تحدث هذا الذي دفعته الأقدار للوصول إلى عالمها...
أدمنت الاتصال به. كانت تهاتفه في كل الأوقات، فقد فتح لها أبوابه على مصراعيها. تألم لألمها، وحزن لحزنها. حدثته عن نفسها. باحت له بأسرارها، أخبرته أنها تفكر في الانتحار رغم ثروتها الطائلة، فقد ضجت البنوك المحلية والعالمية بأرصدتها. أخبرته مرة أن كل ما تملك لا يعدو إلا أن يكون نكدا نغّص عليها متعة العيش. أحسّ أن في صوتها شجن، وأن في وحدتها شجن، وظلت تبحث عن ذاتها ، جابت أصقاع الدنيا وزارت عواصم العالم، تتناول إفطارها في مدينة وغداءها في أخرى وعشاءها في ثالثة، صادقت المشهورين من المغنين والممثلين والسياسيين. كانوا جميعا يلهثون وراء رضاها، ويمهدون لها السبل ليصلوا إلى ثروتها، عرضوا عليها خدماتهم، فتحوا لها أبواب سياراتهم وأناخوا لها مطاياهم...لكنها كانت تبحث عن الأعمق والأبعد، كانت تبحث عن روحها الهائمة المحلقة بين الآفاق، فكلما أمسكت بها تفلتت من بين أصابعها كالماء. ظل جسدها وعاء فارغا تصفر فيه الرياح.
العاشرة وثلاثون دقيقة. يقف الآن أما المنزل رقم 9. مد يده ليدق الجرس، وجد الباب مواربا. لا شك أنها تنتظره. دفع الباب بيده اليمنى، بسمل ودخل. سار في الممر الرخامي خطوات لم يحص عددها فوجد نفسه في البهو. الأضواء مشتعلة وموسيقى عذبة منبعثة من إحدى الغرف. تتبع الموسيقى ومشى وسط هالة من الأنوار الأرجوانية الخافتة، تحفه روائح عطر باريسي جذاب. فكر في الخروج والعودة إلى الشارع الطويل الممتد الذي لا ينتهي، ويهيم في هذا الليل البهيم الجارح. صوت عذب منساب مثل الذي كان يأتيه عبر الهاتف يدندن بلحن حزين، ثم يخفت، ووقع أقدام فوق البلاط المرمري، ويعود الصوت مرحبا به، لا شك أنها كانت تراقبه عبر إحدى الكاميرات.
ها هو يوقف أمام صاحبة الصوت، وها هي صاحبة الصوت تواجهه. ظل متسمرا في مكانه. العينان مبحلقتان في الفراغ وصداع عنيف يعصف برأسه. أخذت الجدران تتصدع وتهاوى السقف فارتطم بالأرض. أحس بدوار فظيع ولم يقو على الكلام. شعر بلهيب يعلو صدره وألم حاد يعتصر قلبه وابيض كل شيء من حوله وغاب عن الوجود. تهاوى، أسرعت إليه، جسدت نبضه، الجسد وعاء فارغ لا روح فيه. لم يقو على رؤيتها في هذا الوضع، ففاضت روحه وصعد معها سره إلى السماء.