أطلقت كلمة (الهرمنيوطيقاHermeneutics ) في الفلسفات القديمة على تلك الدراسات اللاهوتية التي تعنى بتأويل النصوص الدينية بطريقة خيالية و رمزية، ابتعادا عن المعنى الحرفي المباشر، إذ تحاول البحث عن المعاني الحقيقية و التعمق في أغوار النص المقدس.
و قد تطور مفهوم (الهرمنيوطيقا) في العصر الحديث فانتقل من البحث في الالوهيات إلى مجالات أكثر، لتشمل العلوم الإنسانية كالتاريخ و علم الاجتماع و علم الإناسة و النقد الأدبي...
و اشتقت كلمة (الهرمنيوطيقا) من الفعل اليوناني (Hermeneuein) و يعني (يُفسر) و(يوضح)، و الاسم (Hermeneia) يعني (التفسير) و (التوضيح). و الأصل اليوناني للكلمة: استعمال آليات و مساعدات لغوية للوصول إلى كُنْه الأشياء، و اللغة هي الآلية الأولى لعملية الفهم[1].
و قد ارتبطت (الهرمنيوطيقا) عند اليونان بتفسير النصوص المقدسة و نقلها من مستوى اللاهوتية إلى مستوى البشرية، كما هو الشأن (بالإله هرمس Hormes) الذي كان يتقن لغة الآلهة ثم يترجم مقاصدها و ينقلها إلى بني البشر، و هو إذ يفعل هذا كان عليه أن يغبر المسافة الفاصلة بين تفكير الالهة و تفكير البشر، فهو إذن يحمل النبأ الجلل...و لا يمكن أن يكون الإنسان ((هرمسيا)) ـ أي حاملا للرسالة ـ إلا إذا كانت له القابلية لعملية التجلي.[2]
الهرمنيوطيقا عند ((شليرماخر)) Schleirmacher(1768ـ1834)
اتسع مجال (الهرمنيوطيقا) و أعطيت له دلالات أخرى مع((شليرماخر)). فحول المصطلح من نطاق اللاهوت و تفسير النصوص الدينية، إلى تفسير كل النصوص، و قدم هرمنيوطيقا موضوعية Objective Hermeneutics تقوم على فهم الوسائط اللغوية التي يسلكها و يعتمدها المؤلف للتعبير عن فكره.يقول:(إن مهمة الهرمنيوطيقا هي فهم النص كما فهمه مؤلفه، بل أفضل مما فهمه)[3].
فعلى يد ((شليرماخر)) تخلت الهرمنيوطيقا عن مهمتها الأولية المتمثلة في متابعة المعنى لتصب جل اهتمامها على وضع القوانين و المعايير التي تضمن الفهم المناسب للنصوص، أيا كانت هذه النصوص في تحققها الملموس[4].
الهرمنيوطيقا عند ((يلهلم دلثاي))Dilthey(1833ـ1911)
فالأسس التي وضعها ((شليرماخر)) في عملية الفهم فتحت الباب امام نظريات أكثر شمولية على يد الفيلسوف((يلهلم دلثاي)). إذ عرفت الهرمنيوطيقا مع هذا الأخير بعدا جديدا، فهو يرى أن (الفهم)Understanding في العلوم الإنسانية يناظر(التفسير) Explanation في العلوم الطبيعية، فإذا كان التفسير يهتم بربط أحداث ملاحظة بعضها بالبعض الآخر وفقا لقوانين الطبيعة، و التي لا تخبرنا عن الطبيعة الداخلية للأشياء و لا عن العمليات التي تقوم بدراستها، فإن الفهم يحاول أن ينفذ إلى المعاني الموجودة داخل الأشياء، أي المعاني التي تمكننا من معرفة الحالات الباطنية الخاصة بنا، بمعنى أن الفهم يرتكز على ما نسميه بالرؤية الداخلية للطبيعة البشرية التي نمتلكها جميعا[5].
و من هنا فالتأويل الصحيح عند ((دلثاي)) يمكن أن يستنبط من طبيعة الفهم، حيث يقول:(يهدف التأويل إلى عملية فهم التعبيرات و الإشارات و الرموز التي تمثل الأساس الذي تبنى عليه معرفتنا بذاتنا و معرفتنا بالآخرين، و ينطلق هذا الفهم عندما تستيقظ التمثلات العقلية عبر تدفق الأحداث النفسية لما يحدث بداخلنا)[6].
الهرمنيوطيقا عند ((هيدغر))Heidegger (1889ـ1976)
أما ((هيدغر)) فقد حاول أن يبحث عن منهج يكشف عن الحياة من خلال الحياة ذاتها، أو تفسير مفهوم الوجود Being عند الإنسان بطريقة تكشف عن الوجود ذاته. و اعتناق هذا الفكر كفيل ـ في ما يرى ((هيدغر)) ـ بالقضاء عهلى كل الصيغ المجردة و المفاهيم الجوفاء، و يستبعد أيضا المشكلات الزائفة التي تحجب الظواهر و المعطيات بدلا من أن تكشفها[7].
كما استخدم ((هيدغر)) المنهج الفينومينولوجي في تعليله للوجود الإنساني في خبرة أساسية هي ( خبرة الوجود في العالم). فالإنسان يحيا في حال من الفهم للوجود يسميها:Dasein،أي (الفهم الانطولوجي للوجود)[8]. هذا الفهم ليس مجرد معرفة نظرية، و إنما هو نحو من أنحاء الوجود، إنه هو ذاته الوجود. و على هذا الأساس يقيم ((هيدغر))هرمنيوطيقا للوجود الإنساني تتصل بالأبعاد الانطولوجية للفهم و من خلال وسيط هو اللغة، فاللغة ليست مجرد أداة يملكها الإنسان إلى جانب غيرها من الأدوات، و إنما هي ما يضمن إمكان ظهور الوجود و انكشاف بعد أن كان مستترا، إنها الوجودي للعالم[9].
الهرمنيوطيقا عند ((غادامر))Gadamer (1900ـ2002)
و قد سار على خطى ((هيدغر)) الفيلسوف ((غادامر)) الذي نقد (الهرمنيوطيقا المنهاجوية Methodologisme) و بذلك طرح (الهرمنيوطيقا الفلسفية) التي تنطلق من مفاهيم ثلاثة أساسية هي: (التفسير) و (الفهم) و (الحوار)، و هذه المفاهيم ترتبط ارتباطا جدليا في العملية الهرمنطقية . فإذا كانت الهرمنيوطيقا ـ بوجه عام ـ هي اتجاه في التفسير، فإن التفسير ذاته لا يكون ممكنا إلا من خلال الفهم و الحوار، لكن الفهم بدوره لا يكون فهما خاصا من دون الحوار، فالفهم يتحقق من خلال حوار تنفتح فيه الذات على الموضوع أو الأنا على الآخر[10].
الهرمنيوطيقا عند((بول ريكور))Ricœur(1913ـ2005)
في سنة 1986 ألف ((بول ريكور)) كتابا سماه: من )النص إلى الفعل:From text to Action)، و كتب افتتاحية لهذا الكتاب تحت عنوان: (نحو مفهوم جديد للتأويل) فأقام (هرمنيوطيقا علمية) قائمة على تفسير النصوص وفق مناهج و قواعد تحكم التأويل.يقول ((ريكور)) في هذا الصدد:(نحن في حاجة إلى تصحيح مفهومنا الأولي للهرمنيوطيقا، من عملية التأويل الذاتية للنص، إلى عملية تأويل موضوعية تكون فعلا يقوم به النص)[11]. و قد اختلفت دلالات التأويل عند ((ريكور)) باختلاف مضانها الفكرية.
فنألفه في مرحلة اهتمامه(بالرمزية) يعرف التأويل بقوله:(علم قواعد فك الشفرات الخاصة بلغة الرموز الدينية).و قد حدد ثلاث مراحل متكاملة للتعبير عن مضمون التفكير من خلال الرمز:
• المرحلة الأولى: تتمثل في فهم الرمز انطلاقا من الرمز ذاته، شريطة أن يكون هذا الفهم نتيجة لمسيرة فينومينولوجية.
• المرحلة الثانية: هدفها فك رموز الرسالة التي يحملها الرمز.
• المرحلة الثالثة: و هي فلسفة خالصة تقوم على التفكير انطلاقا من الرمز.
هذه المراحل تضع ـ على حد قول ((ريكور)) ـ :معالم حركة الفهم التي تنبثق من الحياة داخل الرموز نحو تفكير منطلق من الرموز[12].
و نجده في مرحلة اهتمامه (بالبنيوية) و (الفرويدية) يركز على العلاقات الجدلية بين مختلف التأويلات، فيقول:(سنحافظ دائما على العلاقة مع المذاهب التي تهتم بممارسة التأويل بطريقة منهجية)[13].
أما في المرحلة الأخيرة من اهتمامه بتأويل النصوص ، وجدناه يؤكد على أن التأويل هو معرفة المعنى الموضوعي للنص الذي يريده المؤلف،و ما على القارئ إلا أن يلتقط شفرات النص و يُطِع ما يطبعه فيه النص و ما يوحي به إليه. و بالتالي ترتبط ذاتية المؤلف بذاتية القارئ، أو بالأحرى علاقة جدلية تربط بين خطاب النص(المؤلف) بخطاب التأويل(القارئ) فيحيل كل منهما إلى الأخر، و يصير النص يحقق اكتماله داخل الذات المؤوِلة[14].
و من هنا نجد أن ((ريكور)) لم يهتم بتنظيم التأويل في خطوات واضحة و آليات محددة كما فعل ((شليرماخر)) و ((دلثاي)) و ((غادامر)) و إنما تعامل معه بطريقة علمية موضوعية و قام بقراءة شمولية لأهم تيارات الفلسفة المعاصرة.
عادل مصطفى: فهم الفهم، مدخل إلى الهرمنيوطيقا، نظرية التأويل من افلاطون إلى غادامير،رؤية للنشر و التوزيع، القاهرة، 2007، ص34. [1]
المصدر السابق، ص24.[2]
سعيد توفيق: في ماهية اللغة و فلسفة التأويل، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، بيروت، 2002، ص87.[3]
شرفي عبد الكريم: من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، ط 1 الدار العربية، بيروت لبنان 2007.ص 24.[4]
محمود سيد أحمد، فلسفة الحياة((دلثاي نموذجا))ص61.[5]
Rudolf A .Makkreel.Dilthey : Philosopher of the Human Studies .Princeton University Press. New Jersey.1975;p 314 [6]
رجب محمود، لمحات عن فلسفة هيدغر، دار الثقافة للطباعة و للنشر و التوزيع، القاهرة، 1974،ص 25ـ26.[7]
إبراهيم أحمد، انطولوجيا اللغة عند مارتن هيدغر،الدار العربية للعلوم، بيروت، منشورات الاختلاف، 2008، ض65.[8]
المصدر السابق،ص 66ـ65.[9]
سعيد توفيق: هانز ـ جيورج غادامر، المشروع القومي للترجمة القاهرة،1997، ص11. [10]
[11] بول ريكور، من النص إلى الفعل: أبحاث التأويل، ترجمة محمد برادة، و حسن بورقية، عين للدراسات و البحوث الإنسانية و الاجتماعية، الجيزة،2001، ص120.
Paul Ricœur ; The Symbolism of Evil ;p 350 . [12]
بول ريكور، صراع التأويلات،ترجمة منذر عياشي، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، 2005، ص42. [13]
محمد هاشم عبد الله، ظاهريات التأويل، قراءة في دلالات المعنى عند بول ريكور، مجلة التسامح، سلطنة عمان، السنة الثالثة، شتاء 2005، ص118.[14]
د: عبد الحكيم درقاوي