يخلد العالم خلال كل خميس ثالث من شهر نونبر ذكرى الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة، حيث يقف المتتبع أمام واقع هذا الفكر والحالة التي بات عليها اليوم، من خلال تنظيم ندوات وورشات وعروض فنية الغرض منها تقريب الجمهور إلى الفلسفة، ناهيك عن تبادل المعارف والمعلومات والحديث عن آخر الإصدارات وأبرز القراءات النقدية الراهنة للواقع والانسان والوجود، ولسان الحال يقول أن الفلسفة ليست فكرا يقتصر فقط على الصالونات وجدران كبريات الجامعات والمعاهد، بقدر ما أن موقعا هو الساحة مع ضرورة الانفتاح على غير المهتمين بالفلسفة شرط الحفاظ على هويتها الخاصة.
الفلسفة فكر ومعرفة زئبقية، ما إن تموت حتى تحيا من جديد، إنها كطائر الفنيق الذي يضمحل كي يبعث مرة أخرى، من هنا فالفلسفة أو موضوع الفلسفة بصفة عامة يرتبط بموضوع الساعة وبما يحف الإنسان في واقعه اليومي، إنها ترياق للأزمات والكوارث التي باتت تهدد الانسان، كما أنها موقف من مجموع السلوكات التي تضر بالحياة على هذه الأرض، الفلسفة لسان حال الوجود، وبدونها ستنهار المنظومة الأخلاقية ومعها سيعود الانسان لطبيعته الأولى ولجشعه الأول، لهذا ظهر فلاسفة العقد الاجتماعي مفترضين حالة أطلقوا عليها حالة الطبيعة، إذ من خلالها انطلقوا لوضع حدود دنيا لتصرفات الإنسان تجنبا لحرب طويلة الأمد ستأتي على الأخضر واليابس لا محالة، ومنه تم وضع القوانين والدساتير المنظمة ومنه أيضا انطلقت الإنسانية نحو منعطف آخر يضع لكل فرد منا حقوقه وواجباته، ما له وما عليه، نفس الأمر نجده أيضا عند الفيلسوف الألماني هايدغر الذي خاض نقاشا طويلا عريضا و مفهوم التقنية محذرا من أن تبسط قوتها على العالم، فيعيش هذا الأخير بعدئذ في قبضتها التي سيكون لها من العواقب ما لن يكون لغيرها، في المقابل كان ولازال يورغن هابرماس يدلي بدلوه بخصوص عديد الصفات التي بدونها لن نستطيع الاستمرار في العيش بكل رضى، حيث يبقى مفهوم الفضاء العمومي من أبرزها.
ما أثاره فلاسفة العقد الاجتماعي لازال يلقي بظلاله لحد الساعة، في المغرب اليوم، وبعد مرور ثلاثة قرون ونيف ترتكز أهم نقاشاتنا السياسية بل ومطالبنا أيضا على مسألة فصل السلط وعلى العمل بمنطق القانون وليس بعقلية العلاقات وتفضيل هذا على ذاك، إما بالحسب أو النسب أو الثروة، الدول التي تحترم نفسها يسمو القانون فوق مجالها اليومي والعلائقي، تسود فيها ديمقراطية الاختيار الحر وليس الديمقراطية المغلفة بالعلاقات، كما ينزل فيها منطق ربط المحاسبة بالمسؤولية، منزلة المركز من الدائرة، لهذا تساءل فلاسفة العقد الاجتماعي على الحاكم طارحين سؤالهم الشهير: بأي حق يحكمنا هذا الحاكم؟ وما هي حدود حكمه ومتى يخضع للمحاسبة؟ من ثمة فاليوم العالمي للفلسفة يجعلنا في المغرب نعيد سؤال التسيير كما نعيد معه الوقوف في مدى احترامنا للقانون، والدليل هو إشكالية تنزيله من عدمه والتي باتت موضة سياسيينا دون أن تجد لنفسها مخرجا، وذلك لأسباب عدة يبقى من بينها غياب التفكير في روح القوانين، من طرف المفكرين المغاربة وتشريح أسباب خصامنا المهول معه ـ القانون ـ ثم النظر للسياسة من طرف الغالبية الساحقة كبقرة من خلالها تقضى المصالح الخاصة في نسيان مخيف لنبل السياسة ووظيفتها الأساسية في تخليق الحياة العامة وتسييرها من أجل تحقيق الرفاهية والتقدم.
إذا كان المغرب اليوم وبمناسبة اليوم العالمي للفلسفة ملزما بطرح سؤال السياسي، فإنه من المهم أيضا الوقوف عند سؤال التقنية وتشريحه تشريحا فلسفيا، يربط بين طبيعة الإنسان ومهمة التقنية وخاصية الطبيعة الدقيقة التي لا تقبل أي خلل ولا أي اضطراب، صحيح أن مسألة التقنية باتت قضية كونية من خلال ثقب الأزون والانحباس الحراري وتخصيب اليورانيوم وصناعة أفتك الأسلحة، آخرها اختراع الأمراض القاتلة، لكن توظيفنا لها أخطر من توظيف الآخر لسبب بسيط هو أننا لسنا من المساهمين فيها، أغلبنا يملك ساعة في معصمه وأخرى في هاتفه النقال وثالثة في بيته دون أن يكون احترام الوقت واحترام المواعيد من طبيعتنا بشيئ، أغلبنا أيضا يملك سيارات فارهة لكنك تجده يخترق قانون السير كلما وجد سبيلا لذلك هذا إذا لم يبصق أو يرم الأزبال من نافدة السيارة في الفضاء العام، على مفكرينا إذن وبمناسبة هذا اليوم، الوقوف عند مفهوم التقنية وكيفية استعمالها وسبب خصامنا معها.
إن تشريح طبيعة المجتمع ـ والحال أن هذا التشريح ليس بيد السياسيين كما أنه ليس من خاصية مقاولينا ـ رهين بوضعه تحت مجهر فلسفي محض، مادامت الفلسفة تطرح السؤال في صميمه محاولة الوقوف عند أسبابه ومسبباته بموضوعية ودون مصلحة تذكر مادامت غايتها بدون غائية، ومادام المفكر أيضا مهموما بإشكالياته العالقة ليس لغرض الربح وإنما لغرض إشكالياته نفسها.
القانون إذن وضرورة التفكير فيه فلسفيا، على غرار اسبينوزا ولوك و مونتسكيو وروسو وفولتير وجون راولز وجاكلين روس هو ما سيجعلنا نعيد ترتيب اختياراتنا وتوزيع مهامنا على منطق قوة الحجة وليس حجة القوة، على أساس عطاءنا ومدى مساهمتنا في الحياة العامة، وليس على نسبنا أو ثروتنا، كما أن وقوفنا لبرهة أمام هذه الإشكالية هي ما ستجعلنا نضع الأصبع على سبب خصامنا وتعاليم القانون حيث نرى فيه الحق متعامين على الواجب، ناسين طبعا أن الحق مكمل للواجب والعكس بالعكس، لهذا كان لزاما علينا أيضا إثارة نقطة الفضاء العمومي متسائلين على طبيعته وهل هو موجود عندنا، وحدها الفلسفة من ستقدم لنا جوابا على هذا الإشكال بعد التشريح طبعا، إذ لا يعقل أن نهتم ببناء ملاعب كرة القدم بدل التفكير في تشييد مكتبات ومراكز للبحث العلمي، كما لا يعقل أن نتحدث عن فضاء عمومي يغيب فيه الأمن كما تغيب فيه أدنى شروط العيش من نظافة واحترام لخصوصيات الغير وهلم جرا.
إن الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة ليس حدثا من خلاله نحتفل بهذا الفكر الهرم عن طريق عرض أسماء الفلاسفة ومناقشة أفكارهم فقط، بل إنه محطة للوقوف عند مدى مساهمتنا في الفكر الكوني، ومدى قوة الثقافة المغربية ووزنها إلى جانب دول المعمور، كما أنه مناسبة للتنديد بما أصبح عليه حال الإنسان اليوم في عالمنا الإسلامي العربي، حال إما تسكنه لغة التعصب ونبد الرأي الآخر، لدرجة الذبح والسحل والتلذذ والتشهير بذلك، أو تمجيد الزعيم واعتباره المخلص الواحد والأوحد دون محاسبته ودون الوقوف عند زلاته، وما الفلسفة إلا ترياق الأمم للتخلص من إحساسها بالدونية وزرع الأمل في روحها الخامدة، وإضفاء طابع الخلق على هممها الإرتكاسية.