هل يمكن النظر اليوم للعقل الإسلامي بنفس النظرة القديمة له؟ كيف يجب قراءة هذا العقل انطلاقا من التحولات الفكرية والسياسية التي بات يعرفها العالم؟ بل هل يمكن اليوم الحديث عن خصوصية للعقل الإسلامي في ظل كونية التقنية، والأخلاقيات العالمية التي لا تؤمن بالخصوصيات الهوياتية إلا لتفتتها وتقوضها؟ لماذا أصبح من الصعوبة بمكان إثبات فعالية ونجاعة العقل الإسلامي، هل لأنه انتهى منذ سقوط الأندلس، أم بسبب بروز قوى أخرى أكثر فعالية، عن طريقها تغيرت موازين قوى العالم؟
أسئلة وأخرى نجد أنفسنا أمام ضرورة معالجتها وليس الإجابة عليها، أمام طرحها للقراء ومناقشتها، لأن الجواب ليس وليد لحظة قراءتها بقدر ما أنه يستدعي منا الوقوف أمام تاريخ العالم الإسلامي، أمام فهم إنتاجه وصناعته الفكرية على ضوء تحولاته السياسية، مند قيام الدولة الإسلامية الثيولوجية في المشرق العربي إلى امتدادها نحو إفريقيا وأوربا وأقصى آسيا. والحال أن الحديث عن عقل إسلامي في بيئة عربية، يلزمنا بداية أن نكتب معرفين هذا العقل بأنه مجموع الصناعات الفكرية والسياسية والثقافية التي ساهمت العوامل الدينية في نشأته، كما أنه تلك النظرة الأحادية والخاصة للعالم سواء في بعدها الأنطولوجي المرتبط بالثيولوجيا، أو البعد الوجداني اللصيق بعلاقة الإنسان بالآخر.
إن من الأمر المتفق عليه، أن العقل الإسلامي وتكونه قد تأسس خلال توسع الدولة الأموية خاصة مع الخليفة عبد الملك بن مروان، الذي سعى إلى العمل على إبراز خصوصية هذا العقل بداية من خلال العمل التجريدي المتمثل في فن المعمار والزخرفة المتمثلين في توسيع المسجد الأموي بدمشق، وسك النقود باعتبار أن ذلك يدخل من باب التجريد التعاملي وتحويل البضاعة إلى قيمة نقذية ، وثانيا بفضل تشجيعه على الانفتاح على علوم جديدة ليست من البيئة العربية من شيء كالفلك وعلم التنجيم البطليمي، والخيمياء اليونانية... أما على المستوى الفكري وبسبب دخول ملل ونحل أخرى في دين الإسلام فقد تمكن هذا العقل الإسلامي من طرح السؤال على نفسه، وهي الطريقة التي من خلالها يتطور أي عقل لأنها تضفي عليه باب التجديد والإختلاف في الرؤى، مع الحفاظ طبعا على المنطلقات الثابتة، وهو ما يجعلنا نستشهد في هذا الشأن بتلك الحادثة التي من خلالها سأل بعض الصحابة النبي عن كيف وجد الله، فما كان منه إلا أن نَهَرَهُم لأن هذا السؤال يدخل صاحبه في خضم من الأجوبة المتضاربة. في عهد الدولة الأموية أصبح بإمكان العقل الإسلامي أن يطرح السؤال على نفسه، أن يحلل بنيته الداخلية من طرفه هو وليس من طرف قوة تفكيرية أخرى، أن يتساءل على صفات الله وذاته، ومسألة العدل والتكفير وخلق القرآن، وهو ما جعل من علم الكلام يتبوأ منزلة فكرية عظيمة، وإن اقتصر نقاشها الكبير على جمهور الخاصة دون العامة.
على صعيد آخر، وبالضبط داخل الفكر الفلسفي إبان الحكم العباسي، عرفت بنية العقل الإسلامي توسعا كميا وكيفيا، كيفيا تمثل في السؤال على مسألة قدم العالم بقدم الله، حيث أثبت الفلاسفة قدم العالم بما أن القرآن لم يحسم في ذلك، كما أنهم وقفوا على مسألة أخرى أو قل إشكالية أخرى وهي المتعلقة بعلم الله بالكليات فقط وليس بالجزئيات، هذا مع إثارتهم أيضا لسؤال الحشر بين الجسد والروح. أما على الصعيد السياسي فقد كان للفارابي قولا له كبير أثر على هذا المجال، من خلال سيره على نفس منوال أفلاطون في كيفية الحكم داخل المدينة الفاضلة، معتبرا ومؤكدا في الآن نفسه أن الحاكم الحقيقي لا يستمد قوة حكمه من السماء أو الوراثة، وإنما من العقل وحسن التدبير ورجاحة الرأي، وهي الصفات التي لن يكون أهل لها إلا الفيلسوف أو المفكر بلغة عصرنا الحاضر، وكميا على مستوى عدد الكتب ودور الطبع والمدارس التعليمية.
إن تفكير العقل الإسلامي في نفسه من جهة، وفي سعيه لتغيير وتطوير بنية مجتمعه من جهة ثانية، جعله يتوسع ويتقدم في مجال الطب، الذي أصبح يعتمد على التشريح بعد أن كان جسد الإنسان مقدسا، لأنه خلق من طرف صانع هو أدرى بصنعته، أي أن الطب وفي القراءة التأويلية ارتبط بمسألة مسئولية الإنسان على حياته، من ثمة فالسعي لعلاجه هو محاولة لتأجيل الموت والتي كانت سرا من أسرار السماء وقدرا يعتبر الله هو المسئول الأول والأخير عليه، من جهة أخرى وبما أن العقل الإسلامي فكر في نفسه انطلاقا من نفسه، فقد أصبح عقلا تجريديا صرفا وهو ما ساهم في تطور علم الجبر مع الخوارزمي، والبصريات مع ابن الهيثم، والطب النفسي مع ابن سينا من خلال فكرة المارستان...
إن هذا المجد الذي عاشه العقل الإسلامي لم يكتب له الاستمرار لعدة أسباب، أولاها ثقافية ذهنية، وثانيها إبستيمولوجية محضة، وثالثتها دينية تأويلية صرفة، ورابعتها سياسية خالصة، فأما الأولى فهي التي تعلقت بتغريد صناع وبنائي العقل الإسلامي خارج السرب، بسبب البنية الذهنية لتفكير جمهور العامة، حيث كان العرب منهم يتميزون بالخشونة ورفضهم للصنائع التجريدية بلغة ابن خلدون، أما سكان القَفر فقد كانت فظاظة طباعهم وشظف عيشهم وانغلاقهم أيضا، كافيا لتنامي تعصبهم القبلي بداية والذهني تثنية، في حين أن أهل العراق كانوا مهتمين بمن يحكمهم وليس كيف يُحكَمون، وفي خراسان وأهوازها لم يكن العامة إلا أهل خرافات وأوهام، وقس على ذلك في بلاد السند كلها، وإن كان جزء من خاصة فارس يحسون بتعصب العرب وقوة شوكتهم وميلهم لبعضهم البعض. أما على المستوى الإبستيمولوجي فقد وجد العقل الإسلامي نفسه أمام أسئلة جديدة توقف عن الخوض فيها خاصة في المنطق والأنطولوجيا وذلك لأسباب سياسية تعصبية، في حين أنه على المستوى الديني وجد صناع هذا العقل أنفسهم أمام منافسة شرسة من طرف الفقهاء الذين أحسوا بنهاية حظوتهم وتقربهم من الخلفاء فاستغلوا ضعف العامة وجهلهم، ودسوا أفكارهم بإلصاق تهم الكفر والزندقة على عموم الفلاسفة وعلماء الفلك والأدباء كذلك، وأخيرا لعب الجانب السياسي دورا رياديا حينما انقسم العالم الإسلامي لإمارات متهالكة، ودويلات لا تقل عنها أهمية، كل واحدة تنصب نفسها ناطقة وممثلة للمسلمين في العالم، وهو ما أدى لنهاية الحكم في الأندلس وعودة آسيا الشرقية لحكم المغول، واحتلال الأوربيين للثغور المغربية وباقي ثغور حوض المتوسط، فما كان من الصناعة الفكرية إلا أن تأفل وتنتقل لأوربا حيث تطورت وأدت لظهور عقل أوربي، عمل على سد ثغرات العقل الإسلامي.
انتهى التفكير في بلاد الإسلام منذ زمن طويل، وانتهى معه العقل الإسلامي، وساهم التشتت في ضياع تلك المكتسبات التي كانت قبلئذ محركا نحو سيادة المسلمين، حيث حل الانصياع محل الشجاعة، والتعصب محل الاختلاف، والوهن محل الكد والنشاط، إذ بات من الصعب اليوم، الحديث عن عقل إسلامي عربي، بقدر ما أصبحنا أمام ذهنية إسلامية عربية قطعت مع مكتسبات الماضي، كما لم تتمكن من العيش في معطف الحاضر، فباتت مشردمة متهالكة، ولنا في الأسئلة الافتتاحية كبير دليل على ذلك.