شكل سؤال الاختلاف داخل الثقافة العربية الإسلامية، ذلك المجال المغلق الذي قلما تم الحديث عنه أو نفض الغبار عليه، على الأقل باعتبار الاختلاف نمط عيش وعلامة على مدى تحقق التواصل والتفاهم، بيد أن التاريخ وبالرغم من هاته التعتيمات التي حاولت القذف بالاختلاف داخل فضاء النسيان، فإنه دوّن لنا ما تم اعتباره فيما بعد بغياب ثقافة الاختلاف في موروثنا العربي الإسلامي، حيث سنقف بادئ ذي بدء عند بعض من الأمثلة التي تصور لنا محنة الاختلاف، ثم سنعرج بعدئذ إلى أسباب وعلل ذلك، متسائلين طبعا عن الجانب اللاشعوري الذي كان وراء فشل غرس ثقافة الاختلاف في تراب الذهنية العربية، والذي ورثناه حتى اليوم لدرجة أنه أضحى دَيدَنَ مجالنا الذي لا فكاك منه، والدليل على ذلك هو سعينا حاليا لنشر ثقافة الاختلاف، حيث لا نطلب عادة إلا ما ينقصنا.
إن من الحوادث والأمثلة التي يسجلها التاريخ وهو يصور لنا محنة الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية، لا تعد ولا تحصى لدرجة أنه كتبت حولها مؤلفات عدة، وبحوث جامعية أكبر من ذلك بكثير وإن لم تتم الاستفادة منها بالشكل المرغوب فيه، لهذا فإن تركيزنا في هذا المقام سيكون مقتصرا فقط على بضع أمثلة من تاريخنا لا غير، والذي وسم دوما بإنشاد التشابه حيث أن أبرز دليل يمكن أن نصادفه في هذا الأمر، هو نبذ كل أشكال الاختلاف التي كادت تسود في ثقافتنا الإسلامية إبان بدايتها، ولا شك أن حروب الردة خير مثال على ذلك، مما يبين أن البعض قد تجنب الاختلاف خوفا من القتل أو التنكيل، لكن وفور وفاة النبي تعرت عدة حقائق اعتبرت في حياته مسكوتا عليه، إذ بدل العمل على نشر قيم الاختلاف والانتباه إلى أن الإمبراطورية الاسلامية لم تعد مقتصرة فقط على منطقة الحجاز، سقطنا في ما سمي بعصر الفتن، والحروب الطاحنة بين الصحابة والتابعين، كمعركة الجمل وصفين وكربلاء، وما... مما يبين لنا أن العمل على استثمار الاختلاف جاء بالسيف وليس بالحوار، وأن الكلمة العليا ليست هي الحجة القوية والفاعلة، بقدر ما أن الكلمة العليا هي لصاحب القوة والسلطان.
والحال أن النتيجة تحدثت بعدد الرؤوس المقطوعة المعلقة على أبواب المدن، وليس بالفكرة السديدة، حيث أهدرت دماء أقرب المقربين للنبي كعلي بن أبي طالب، ومصعب بن الزبير، والزبير نفسه عندما علقت جثته على مشارف الكعبة، والحسين بن علي الذي علق رأسه هو الآخر على أبواب دمشق، وسعد بن عبادة، وطلحة بن عبيد الله، ومالك الأشتر، وخارجة بن حذافة... فما كان من الذين لهم رأي آخر حول طريقة الحكم، إلا التسليم بالأمر الواقع وإخفاء النوايا الحقيقية طمعا في الحياة، أو تكوين دويلات صغيرة حيث كل حاكم يرى نفسه الأحق بلقب أمير المؤمنين وخليفة المسلمين دون الآخر، فحكمنا على نهاية الاختلاف قبل أن يضع أوتاده، ومن بعده أعلنا التعصب للرأي وأن خير دفاع على فكرتنا هو السيف وليس الحوار، هو القتل وليس التعايش، هو الاستبداد وليس التنازل لفائدة الرأي القوي.
بعيدا عن دسائس دار الخلافة والحكم، عاش الاختلاف أيضا محنة عظيمة في المجال الفكري، حيث كان الفكر الذي يحمل بين طياته منطقا جديدا عكس ما هو سائد، إما أن يتم نحره قبل انبلاجه أو أن حامله يؤمر بما يريده الحاكم إن باسم السلطة السياسية أو المرجعية الدينية، فيجد نفسه أمام واقع لا فكاك منه، حيث سجل تاريخ أجدادنا الأولين من قتل أهل الفكر والمعرفة والحكمة، ما لم تشهده العرب من قبل، لهذا وكما نعرف، فإنه لن نقف مشدوهين أمام التعذيب الذي تعرض له أديبنا عبد الله بن المقفع، الذي كانت أعضاءه تقطع أمام عينيه الواحد تلو الآخر، إلى أن أنهكت قواه وهلك فيما بعد، نفس الأمر حدث أيضا مع الحلاج وفي ذلك قصة شهيرة اعتبرت شتيمة للعرب، دون المرور على ما حدث للحسن بن الهيثم حين وضع في السجن، وما تعرض له عمر الخيام من شتى أشكال التنكيل، ولنا في المغرب الإسلامي أمثلة عديدة أبرزها ما تعرض له أبا الوليد بن رشد القرطبي، ومحيي الدين بن عربي، والقرطجني المغربي...
إن هذه الاغتيالات التي وسمت تاريخنا، والمعارك الكبيرة التي دارت بين المسلمين أنفسهم، لم تكن إلا أمّارة وقرينة على غربة الاختلاف عندنا، لدرجة أننا لا زلنا نحمل هذا الإرث لحد الساعة، صحيح أنه إرث ثقيل، لكن علاج الداء يبدأ من تعريته وتشخيصه وليس بقذفه ومحاولة نسيانه، والحال أن في هذا الأمر علل عديدة أبرزها بنية الثقافة العربية التي كانت ثقافة رعوية من جهة، أي أن عقلية القطيع هي السائدة، حيث أن كل دابة فكرت في الخروج عن القطيع إلا وتعرضت للضرب إلى أن تدخل، بالتالي كل من فكر في الخروج عن ما تؤمن به الجماعة يعتبر شخصا خارجا عن ملتها مادام الشاذ لا يقاس عليه، وثانيا لأن نظام العيش في ثقافتنا كان ولا يزال نظام عيش قبلي، حيث العصبية هي المرجع بغض النظر عن رأيها وسداده.
إن غربة الاختلاف في ثقافتنا العربية الإسلامية، وما تعرض له كل صوت يخالف الرأي السائد، هو الذي جعلنا نعمل دوما على إنتاج نفس الفكر ونفس الثقافة داخل مستنقع راكد، هو الذي جعل فكرة قتل الأب غائبة عنا، هو الذي جعل الجديد شيئا ينبغي الحذر منه، هو الذي أسقطنا في براثن الانحطاط والجمود، وهو الذي جعل الاختلاف يعيش محنته وأزمته التي لا زالت تلقي بضلالها لحد الساعة، بل جعلت منا عنصر توجس من طرف باقي الثقافات، ومحط اتهامات وتمثلات أكثرها يجانب الصواب.