ربّما، لو حاولنا أن نبحث فيما وَصلَنا من الثقافة العقلية القديمة عن أعمق الفلسفات وأفضلها، لن نجد بين الفلاسفة أفضل من أفلاطون (427 -347 ق. م) بالقياس إلى ثقافة زمنه، والوسائل المتوفر منها، وبصيرته النافذة في عصره وعصور قادمة والتي تكشف عنها آراؤه في دول العقل، وأنواع الحكومات، وطبيعة كلِّ نظام سياسي ومزاياه. وهذا العمق في فهم المشكلات الإنسانية الذي لم يبلغه أي فيلسوف في عصره، هو الذي يدفعنا لعرض وجهات نظر أفلاطون في النظام السياسي الأمثل، لكونه يمثل إلى حدٍّ بعيد قمَة حدود الإدراك العقلاني للضرورات والحاجات الإنسانيّة. وإنَّ دراسة حدود هذا الإدراك ومقارنته بالفهم الروحي لنفس المسائل سيكشف لنا عن الفرق بين مقتنيات العقل، ومقتنيات الروح، وفهم كل منهما للمشاكل الإنسانية، والحلول التي سيبني بهما كلاهما جمهوريته الفاضلة. ولا خلاف بين الفريقين على بناء هذه الجمهورية، ولكنَّ الخلاف هو في الأسس التي سيقوم عليها كل بناء، وهو خلاف ما زال قائماً في عصرنا، ويفرض علينا أن نتعامل معه كأمرٍ واقعٍ لا بدَّ منه، وإن كانت نتائجه الظاهرة للعيان تدفعنا بالضرورة للطموح إلى الجمهورية المثلى التي لا تأكل فيها الحروب خبز الإنسان ومأواه ومستقبله. وإذا كان لا بدَّ من دوام هذا الخلاف، فليكن، ولكن بصلح كصلح الحديبية بين الفرقاء، لفتح باب الحوار بدلاً من إطلاق النيران فمن يدري؟ ربما سيكون عدو الأمس صديقاً. وحتى إذا لم يتحول إلى صديق فلا حاجة للتفكير في قتله أو إكراهه على الإيمان، بما يؤمن به كل فريق. وإن من مصلحة الإنسانية تفويض الأمم المتحدة بحلِّ الخلافات بين الشعوب وفقاً لمعايير واحدة، بهدف نشر رايات السلام العادل فوق كل ربوع الأرض، لإتاحة الفرصة أمام كلّ شعب للتسابق مع الآخرين على بناء جمهوريته الفاضلة في جو السلام والأمن.
ولا بدّ لتحقيق هذه الأهداف من وقف سباق التسلح، وتحويل كل الأسلحة إلى مناجل وهو أمل قديم وحلم من أحلام البشرية يجب تحقيقه بعد أن توفّرت كلّ الإمكانات المادية، ونضجت كل الظروف لإنجازه. ولكن ما يلزمنا هو توفر الإرادة العملية لتحقيقه، لأنَّ أبسط الأشياء يحتاج إنجازها إلى جهودنا، وإنّ كلّ طريق لا بدّ لنا من تسخير أنفسنا وجهودنا من أجله قبل أن يصبح صالحاً للسير عليه. وربما إنه من الغريب، بل والعجيب أن يفشل قادة، من المفترض أنهم حكماء العالم، في صنع السلام، وأن يستمروا في صنع الحروب والتخطيط للحروب القادمة، بإنتاج مزيد من الأسلحة، رغم أنهم يعرفون أكثر من غيرهم بأن تكلفة السلام أقل بكثير من تكاليف الحروب، وإنّ موارد الأرض تكفي لإطعام أضعاف عدد السكان الراهن. ولكن هل هو مرض قابيل وذريته الذي قتل أخاه رغم سعة الأرض في ذلك الزمان الذي كان يستطيع فيه قابيل أن يتصرف بقارة كاملة دون أي معارضة. لهذا السبب ستظل الجمهورية الفاضلة ممكنة التحقيق. فماذا أعدَّ لها أفلاطون؟ وكيف رسم معالمها بريشته؟ وهل ستلقي قمة الحكمة العقلية أي الفلسفة مع الشريعة كما رأى ابن رشد.
المدينة الفاضلة:
إنّ المدينة الفاضلة، التي دعا أفلاطون مجتمعه لإقامتها، أو تلك التي يمكن أن تستمد تشريعاتها من الوحي، لا يعني أنّها ستخلو من الشر، لأنّ الشر لا يمكن إزالته من العالم، وهو جزء أصيل في الطبيعة البشريّة. وإنّما يعني أنّ النظام الفاضل سيلاحق الأشرار ويحاكمهم محاكمة عادلة دون أي مراعاة أو محاباة لموقع الشرير أو منصبه. ومثل هذا النظام ستكون قوانينه سارية على كافة المواطنين، وإن اختلفت مواقعهم في الحياة العامة أو أدوارهم في عملية الإنتاج. وبتجسيد مبدأ المساواة العامة الحقيقي لا يجوز أن تكون السلطة أداة لتحقيق المزايا والمكتسبات، ولا أن يكون المال وسيلة لاستعباد الناس واستغلالهم. ولكن هل بالإمكان بناء مثل هذه الدولة الخالية من القهر في عصرنا، الدولة التي لا يتصرف فيها الحاكمون كعصابة لسرقة أموال الأمة والأمم الأخرى بالتعاون مع الشركات الكبرى، وإن تركوا للناس حق الصراخ، كما يحدث في النظام الرأسمالي. أو كما يحدث في الدكتاتوريات التي تستبيح أموال المواطنين ودماء كل المعارضين، وتتحول الدول على أيديهم إلى شركة عائلية، ليس للمواطن فيها أي حقوق، ولا حتّى حق الحياة؟. هل ستقودنا جمهورية أفلاطون الفاضلة إلى المساواة والحرية ولو نظرياً؟.
إنّ أفلاطون ببصيرته النافذة سيضع أمامنا صورة للأنظمة السياسية التي تمثّل كل واحدة منها مستوى من الطبيعة الإنسانية "في الفرد ثلاثة عناصر هي العقلي والغضبي والشهوي، يقابلها في الدولة الحكام والمنفذون والمنتجون" (الجمهورية -113). ولكنه سيعود لتقسيم عناصر النفس الإنسانية تبعاً لوظائفها قائلاً "ندعو علم النفس الذي به تعقل -القوّة الذهنيّة -والقسم الذي به تجوع وتعطف وتختبر تقلّب الرغبات الأخرى نلقّبه بلقب غير العقلي أو القوّة الشهوية وهي حليفة اللذّة والانقياد" (137). ولكن ما هو موقع القوّة الغضبيّة ودورها "فهل المبدأ أو القسم الذي به نغتاظ ثالث متميّز عنهما؟ وإلا فإلى أيّ القوّتين هو أميل بطبيعته؟" (38). سيقرر أفلاطون أنّ "في النفس كما في الدولة ثلاث قوى متمايزة هي: المفكّرة والمنفّذة والمنتجة. يقابلها في النفس ثلاث قوى، ثالثتها الغضبيّة، حليفة الذهن الطبيعيّة ما لم يُفسِد بناء النفس سوء التربية" (39). فالعوامل التي ستوجّه تصرّفات الإنسان هي النفس وهي القوّة الناطقة بلسان الغرائز. أو العقل وهو القوّة المفكّرة التي ستتّخذ القرار في الاستجابة لطلبات النفس أو رفضها وفقاً لموازينه الخاصّة. بينما ستكون القوّة الغضبية أو الهوى أو الحماسة كما يمكن أن نسميها العنصر الفعّال في ترجيح كفّة إحدى القوّتين، ذلك لأن العقل لا تتغيّر أحكامه، فالكذب لا يقبله العقل وإن برّرته المصلحة، والنفس لا تتغيّر طلباتها، وهي عندما تطلب الطعام لا يهمّها إن كان حلالاً أو حراماً، كما لا يتغيّر طعمه لهذا السبب. ولهذا فإنّ من سيحسم الأمر عند تقابل حكم العقل وحكم النفس وتضادهما، إنمّا هي العاطفة، الهوى، بالانحياز إلى العقل أو إلى النفس. ولكن ما هو سبب الانحياز السيئ أحياناً؟ إنّه "سوء التربية" كما يقرر أفلاطون. وبما أنّ التربية لا تخاطب النفس وإنّما تخاطب العقل فإنّ المشكلة الرئيسيّة ستنجم دائماً عن عجز العقل وضعف مقاومته للإغراءات التي ترغب النفس في الوصول إليها. وبما أن الدولة بطبيعتها مماثلة لطبيعة الإنسان، لهذا فإنّ الدولة الصالحة هي التي تخضع لأحكام العقل وقراراته. ولكن أيّ عقل هو الذي يجب أن يحكم ما دامت العقول مختلفة؟ سيقول أفلاطون إنّه الفيلسوف، لأنّ الناس ولو كانت لهم عقول جميعاً، إلاّ أنّ الإدراكات العقلية تختلف من فرد لآخر، ولهذا فإنّ العمّال يمثّلون قوّة النفس الشهوية، والجنود الذين يدافعون عن الدولة يمثلون القوّة الغضبية، أمّا الفلاسفة فهم يمثلون سلطة العقل. وبما أنّه لا يمكن إلغاء عناصر النفس الإنسانيّة التي تسبّب الشر الناجم عن الجهل، كما لا يمكن تحويل الناس كلّهم إلى فلاسفة، فإنّه لا بدّ لإيجاد نظام عادل من التنسيق بين قوى الإنسان الثلاث بإعطاء كل واحدة وظيفة في عملية بناء الدولة "إنّ ما يجعل الدولة عادلة هو التزام كل من أقسامها الثلاثة عمله" (140). ولهذا سيكون "من الجوهري أن يكون الحكم في قبضة الذهن لكونها حكيمة، فتقوم بتدبير مصالح النفس كلّها، وتكون مملكة الحماسة في النفس بمثابة حليفة ورعيّة" (140). ولهذا يستنتج أفلاطون بأنّه "لا يمكن زوال تعاسة الدول وشقاء النوع الإنساني، ما لم يملك الفلاسفة أو يتفلسف الملوك والحكّام، فلسفة صحيحة تامّة. أي ما لم تتحد القوتان السياسيّة والفلسفيّة في شخص واحد. وما لم ينسحب من حلقة الحكم الأشخاص الذين يقتصرون على إحدى هاتين القوّتين" (172). إنّ أفلاطون سيشبّه الدولة بالسفينة لبيان الخطر المحدق بها في حال تسلّط القوى غير العقليّة عليها، ولهذا سيقول لمحاوره "تأمّل ماذا تكون النتيجة إذا انتقينا ربابنة السفن باعتبار ثروتهم، دون جدارتهم الفنيّة، ورفضنا ذا الجدارة في الملاحة لفقره.. أفتستثنى الدولة من هذا الحكم، أم ترى أنّه يشملها؟" (24).
إن الدولة التي لا يقودها العقل ستسود فيها الفوضى لأنّ القسم الغضبي أو الشهوي سيقوم بدور العقل، وهو عمل لا يناسبهما ممّا سيؤدي إلى مرض الدولة، كما يمرض الجسم باعتداء عناصر النفس على بعضها "هذه الظاهرة في النفس كظاهرة الصحّة والمرض في الجسم" (143). وهي ستنشأ "عن تنازع ناشب بين القوى الثلاث، تنازعاً به تتعدّى هذه القوى حدودها، وتتدخّل فيما ليس من اختصاصها" (143). وهي ستنشأ "عن تنازع ناشب بين القوى الثلاث، تنازعاً به تتعدّى هذه القوى حدودها، وتتدخل فيما ليس من اختصاصها" (143). إنّ الدولة مثل الإنسان ستمرض إذا لم تقم كلّ قوّة بوظيفتها خير قيام. ولهذا لا بدّ من تحكيم العقل في الدولة التي تسعى لتحقيق سعادة شعبها، أو في الشعب الذي يريد السعادة لنفسه. وبناء على حكم فلسفة العقل، فإنّ أفلاطون سيضع الأمس النظريّة لهذه الدولة.
قوانين دولة العقل:
إنّ أفلاطون سيرفض في دولته الفاضلة أي أساطير تمسّ بمكانة الألوهية كما يفهمها فالدولة بالنسبة إليه لكي تكون صالحة لا بدّ أن تؤسس على الإيمان بالله "كل حروب الآلهة التي رواها هو ميرس، يجب حظرها في دولتنا" (68). لأنّ الواجب أن "يوصف الله في كل حال على ما هو في ذاته. سواء كان ذلك في الشعر القصصي أو الغنائي أو الروائي، هذا هو الحق.. فلا نسند الخيرات إلى غيره، بل نفتّش عن علّة الشرور في غيره لا فيه" (68). "فالله تعالى كلي النقاوة والحق في القول والفعل، فلا يغيّر ذاته، ولا يخدع الآخرين، لا بالرؤى، ولا بالكلام، ولا بالظواهر الخادعة، في يقظة ولا في منام (73). إنّ الله في مفهوم أفلاطون هو "علّة الخير" (68). ولهذا يرفض "الإدّعاء أنّ الإله الصالح علّة شر كائن من الناس فهو قول يجب أن نحاربه بما أوتينا من قوّة. لأنّ المبدأ الذي تتضمّنه أسطورة كهذه شعراً أو نثراً، لا يقال ولا يسمع في المدينة، ولا يبيحه من يروم خير الدولة وارتقاءها شيخاً كان أو فتى. لأنّها أقوال تنافي طهارة الحياة. وهي ضارة ومتناقضة" (70). لقد شاهد أفلاطون ببصره في زمنه، وببصيرته المستقبل، وما سيؤدّي إليه التجديف على الله، والإلحاد من أخطار على المجتمع، حيث سيصبح كل شيء مباحاً عند من لا يؤمن بالله. وإن كتابات تلك المرحلة التي عاصرها أفلاطون تدلّنا بأن الشعب اليوناني كان يعتقد بتعدّد الآلهة كما تدلّ على ذلك الأساطير، وكان يؤمن بالحساب بعد الموت. ولكن الأساطير كانت تَنْسب كثيراً من أعمال الشر والغدر إلى الآلهة، كما في الإلياذة والأوذيسة، وقد أراد أفلاطون أن يصحح مثل هذه القصص التي تليق بالآلهة، وأن يمنع نشرها وتداولها، ليس لأنّها تسيء إلى الآلهة فقط بل لأنها تسيء إلى المجتمع، لأنّه إذا كانت الآلهة تخدع وتغدر وتكذب، كما تقول الأساطير، فإنّ المجتمع سيقتدي بها ما دامت الآلهة هي مَثله الأعلى. ولهذا سيمنع أفلاطون في جمهوريته مثل هذه القصص غير الصحيحة في نظره، لأنّ الله هو علّة الخير، وإنّه "لو كان تغيره تعالى ممكناً فلا يمكن أن يكون ذلك التغير إلى مثل أدنى. لأننا لا نقدر أن نقول بوجه من الوجوه أن نقول بوجه من الوجوه أنَّ فيه تعالى شيئاً من النقص جمالاً وسموّاً" (71). إنَّ أفلاطون لا يقدم هذه الآراء لشعوره بحاجة مدينته لفكرة الله والحساب بعد الموت، بل لاقتناعه بوجود إله صانع للْكَوْن، وبأنّ هذا الإله يُجسِّد الكمال والجمال والخير لا يتغير لأنّه لا يوجد من يؤثّر عليه كي تتغير صفاته، وهو المؤثّر على الأشياء: "إن الله جوهر بسيط فلا يتكيّف، ولا يخرج عن المظهر اللائق بذاته "لأنّه كما قال لمحاوره "إذا تغيّر كائن عن شكله العادي، أفليس بالضرورة أنّ ذلك التغير قد حصل، حتماً بفعله هو، أو بتأثير آخر؟" (70). وبما أنّه لا يوجد فاعل مؤثّر على الله، وإذا تغير الله فبفعل من ذاته، لهذا فإنّ الكامل لا يقبل النقص، وعلَّة الخير، لا يرضى بأن يكون علّة الشر. ولهذا سيقرر أفلاطون في جمهوريته أنّ "أولى الشرائع الإلهيّة، التي توجب على خطبائنا ومؤلفينا أن يطبقوا خطبهم وتآليفهم عليها، هي أن الله تعالى صانع الخير ليس إلا" وسيقول له محاوره: "ولقد أقمت الدليل القاطع على صحتها" (70). إنّ الألوهيّة عند أفلاطون هي حقيقة قائمة لا يجوز إنكارها، بل إنّه آمن بإله واحد لأنه "جوهر بسيط، فلا يتكيَّف" وهو لذلك لا يتعدد، وإنه سيؤكَّد هذا الاعتقاد في كتبه الأخرى، "السفسطائي" و"طيماوس" و"الفيلفس" و"فايدروس" و"المأدبة"، كما إنه سيقول بأن النفس الإنسانية خالدة، وبسبب هذا الخلود سيكون نصيبها السعادة أو الشقاء تبعاً لأعمال صاحبها. ولذلك فإن أكبر النعم التي ستحققها النفس الواعية لمصيرها، ستكون في تجسيد روح الألوهيّة بحبها للخير. وهذا ما يكشف عنه الحوار في "ثياتيتوس": "إنّ عقوبة الظلم ليست مجرد آلام جسدية أو موت قد يحدث أحياناً أن يفلتوا منه بل هو عقاب واقع لا مفرّ منه.
ثيودورس: وأي عقاب تقصد..؟
سقراط: هناك نموذجان منه يا صديقي يوجدان في عالم الحقيقة: الأول إلهي سعيد أمّا الثاني فخلو من روح الإله، كلّه تعاسة. وهم لا يتبينون ذلك لأنّ شدة جهلهم تمنعهم من الإحساس بأنهم إنما يتشبّهون بالمثال الثاني حين يرتكبون الظلم ويبعدون عن المثال الأول وحياتهم بأكملها التي تشبه النموذج الثاني عقاب لهم" (ثياتيتوس -92). إنّ أعلى مستويات السعادة ستتحقق للإنسان بتخلقه بصفات الألوهيّة التي لا يصدر عنها إلا الخير، وإنّ أشدّ أنواع التعاسة ستكون من نصيب مَن لا يحسّدون مثال الخير الأعظم، وستزداد تعاستهم بقدر بعدهم عنه، لأنّ نفوسهم ستخلو عند ذلك من روح الألوهية. إنّ أسباب هذا الحكم تعود لاقتناع أفلاطون بقدرة الإنسان على الاتصال بالروح الإلهيّة، بل لأنّه يعتبر هذا الاتصال والتواصل هو الهدف الأسمى الذي يجب أن يسعى إليه البشر لتحقيق سعادتهم. حتّى الحبّ الجسدي عند أفلاطون لا يمثّل إلا مرحلة متدنية في حياة غير الحكماء، ولهذا السبب ستكون نظرته إلى العلاقة بين الجنسين في الجمهورية كإنجاز لعمل لا يعلق عليه أهمية كبيرة إلاّ بقدر ما هو ضروري لتنظيم العلاقات الاجتماعية بما يخدم المدينة الفاضلة. أمّا الحبّ الحقيقي فهو حبّ الحكمة وحبّ الروح التي تُمثّلها، أي الله، لأن كلّ إبداعات البشر هي فروع مستمدة من الأصل ولهذا سيفاجأ الذين يبحثون في "المأدبة، فلسفة الحب" عن الحبّ الجسدي حيث سيجدون أنفسهم هدفاً للنقد، وفي موقع متدني روحياً "كلّما ارتقى الإنسان زاد حبه للخلود، وقوي الدافع إليه، أمّا أولئك الذين تتجه غريزتهم الخلاّقة اتجاهاً جنسياً محضاً. وتراهم يحسبون أنهم يضمنون لأنفسهم الخلود بإنجاب الأطفال. ولكن هناك غيرهم تكون ميولهم الخلاّقة روحية، ويحملون بالروح لا بالجسد، ويخلقون ذريّة روحيّة، وأزيدك بأنّ هذه الذريّة هي الحكمة والفضيلة عامة، فالشعراء وأصحاب الحرف الذين يبتدعون أشياء يستحقون من أجلها أن يسمّوا مبدعين وخلاّقين. ولعل أعظم وأشرف فرع من فروع الحكمة هو الذي يتناول تنظيم الدولة والأسرة وهو الاعتدال والعدل" (المأدبة -67). إنّ ما قدّمه أفلاطون يكشف عن سبب كتابة الجمهوريّة، وعن مفهوم الحب كحب روحي ليس فيه للجسد إلا دور الوسيط للانتقال من الصنعة إلى الصانع، من الصورة إلى المعنى "يبدأ المرء بنماذج الجمال في هذا العالم يجعلها درجات يرقى بها عاجلاً غايته ذلك الجمال الأسمى المطلق من نموذج للجمال الحسي إلى نموذجين ومن نموذجين إلى الجمال ككل، ومن الجمال الحسّي إلى الجمال الخلقي، ومن الجمال الخلقي إلى جمال المعرفة، ومن المعرفة بفروعها المختلفة إلى المعرفة المطلقة التي يكون موضوعها الوحيد الجمال المطلق فيعرف آخر الأمر ماهيّة الجمال المطلق.. في ذلك المكان لا في غيره ينبغي للمرء أن ينفق عمره يا سقراط في تأمّل الجمال المطلق.. كم تكون سعادة الرجل الذي يحظى برؤية الجمال المطلق، ويطلع على ماهيّته طاهراً لا يدنسّه دنس، ونقياً لا تشوبه شائبة، بدلاً من الجمال الذي يشوبه ويدنّسه لحم الإنسان وألوانه، وهو كتلة من المادّة القذرة الفانية. من يصل إلى هنا يستطيع أن يدرك الجمال الإلهي حيث يوجد بمعزل عن كلّ شيء، وحيداً فريداً. أتحسب أن الرجل الذي يتأمّل الجمال المطلق ويتحد به، أتحسب أنّ حياته تدعو إلى الشفقة والرثاء؟. ألا ترى أنّه في ذلك المكان وحده الذي يرى الجمال المطلق بالملكة التي يمكنه رؤيته بها ألا ترى أنه يستطيع الإتيان ليس فقط بصور منعكسة للخير بل بالخير الحقيقي، لأنّه لا يتّصل بظلّ الحقيقة ولكن بالحقيقة ذاتها؟. وإذا ما جاء بالخير وربّاه أصبح أهلاً لحبّ الله ويتحقق له الخلود إن كان من الممكن أن يظفر آدمي بالخلود" (المأدبة -70). هذا النص يكشف عن اعتقاد أفلاطون بإمكانيّة اتّصال الإنسان مع الله. وفي نصّ أخر سيبيّن كيف يمكن أن يكون الإنسان وسيطاً لنقل الرسائل الإلهيّة "بالمملكة التي يمكن رؤيته بها"؟ وهي بالروح. فما هو الحب إذاً؟ وما هو دوره في حياة الإنسان؟ ستجيبه ديوتيما العرّافة -مَنْ يعرف -إنّه روح عظيم يا سقراط وكل ما من قبيل الروح فهو وسط بين الآلهة والبشر.
سقراط: وما هي وظيفته؟:
ديوتيما: هو أن يترجم للآلهة وينقل إليهم ما يصدر عن البشر ويترجم للبشر وينقل إليهم ما يصدر عن الآلهة، صلوات البشر وقرابينهم وأوامر الآلهة وحسن جزائها على ما قدّم من قرابين، ومن جهة أخرى حيث كانت الأرواح وسطاً بين الآلهة والبشر فإنّها تملأ ما بينها من فراغ، وتربط أطراف الكل في واحد. وهي الوسيط لجميع النبوات ولفنون الكهنة الخاصة بالقرابين والتلقين والرقي وجميع ضروب العرافة والسحر. ومع أنّ الإله لا يمتزج بالإنسان فقد يمكن الاتصال والتحادث بينهما عن طريق هذه الروح، إن في اليقظة أو في النوم ويسمى العارف بهذه الأمور رجلاً روحانياً، على حين يسمى العارف بالأمور الأخرى المتصلة بالفنون أو الحرف صانعاً. وثمّة أرواح كثيرة وهي ضروب مختلفة، الحبّ نوع منها" (فكرة الألوهية عند أفلاطون -155 /المأدبة -ص 60). إنّ اعتقاد أفلاطون بإمكانية اتصال الإنسان مع الله يفتح أمامنا نافذة جديدة لفهم رأي أفلاطون بنفسه ودوره، فهل كان ناقلاً للأفكار الناجمة عن "الاتصال والتحادث -مع الله -بالروح"؟. أفلاطون لن يقول شيئاً عن هذا الأمر الغامض، ولكن من يستطيع أن يدّعي إمكانية الاتصال مع الله غير العارف به والمتذوِّق له..؟ إنّ علاقة أفلاطون مع أستاذه سقراط ستكشف عن هذه المسألة الغامضة في موقف أفلاطون، فإذا كان أستاذه قد اعتقد بأنّه يطيع الله فيما يتصرف به وهو بين أيدي قضاة يتوقع منهم أن يحكموا عليه بأقسى العقوبات لاختلافه معهم حول مفهوم العبادة والآلهة، فإنّه لا بدّ أن يكون لدى سقراط مثل هذا الوعي أو الظن بإمكانية الاتصال مع الله، وبأنّه ينفّذ أمره، وإلا ما كان سيعرض نفسه لحكم الإعدام. ففي دفاعه عن نفسه قال للأثينيين: "إذا أنتم برأتموني على هذه الشروط فإني مجيبكم بالتالي: إنّي أعزَّكم أيّها الأثينيون وأحبكم، ولكنّي أطيع الإله أكثر مما أطيعكم، وطالما بقي فيَّ نفس وكنت قادراً على ذلك، فلن أتوقف عن التفلسف وعن حثّكم، موضحاً في كل مناسبة لمن ألقاه في طريقي منكم، ومتكلماً على الطريقة التي اعتدّت عليها" (فكرة الألوهية عند أفلاطون -62). ما هو معنى هذا الدفاع الذي نقله أفلاطون عن أستاذه، وآمن به، وأعاد التأكيد عليه في كتبه..؟ وبذلك ستغدو الجمهورية دولة دينيّة بكل معنى الكلمة، مما يفسر طبيعة النظام المقرر والغاية منه، في دولة وإن كان دينها العقل إلاّ أنّ الفلاسفة الذين سيحكمونها يتلقون من الله بالروح ما يجب عمله لشعبهم. لذلك لن يكون هدف أفلاطون حرية الناس كما تفهمها الأمم الغربية في نظامها الرأسمالي، وكما ظنّ فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) مستنداً على تحريف الروح الأفلاطونية، أو سوء فهمه لها، حيث سيمثل النظام الرأسمالي في وعي أفلاطون، سواء في إطلاقه للحريات الفردية والاقتصادية مرحلة من -انحطاط التاريخ -الذي سيقود إلى الديكتاتورية، وليس نهاية التاريخ وكماله.
إنّ أفلاطون يريد أن يبني دولة العقل والحكمة القادرة على الأخذ بيد شعبها إلى السعادة بوضع كل مواطن في العمل الذي يتناسب مع إمكانياته، وليس بتسليم قيادة السفينة إلى أعمى لأنّه أكثر ثراء، كما يحدث في النظام الرأسمالي. ولهذا سيرفض أفلاطون في جمهوريته كلّ أشكال الانحطاط التي تنشرها الآن الرأسمالية في الحضارة المعاصرة. إنه سيرفض الإلحاد، وكلّ أشكال الثقافة المنحطة من شعر وقصص وموسيقى وكل ما يقود إلى الانحلال الخلقي والتخنث، مما يعني أنّ الرأسمالية المعاصرة لو أتيح لها أن تحاكم أفلاطون فإنّه لن ينجو من الحكم عليه بالإعدام، لأنّ من شروط الحكم الصالح "قمع الذات التي تستلزم استرسالهم -أي المواطنين -في الطعام والشراب والهوى" (الجمهورية -81). وهذا يتعارض مع رأسمالية الاستهلاك والأكل والإباحية. كما إنّ أفلاطون سيُحرِّم الغشَّ في جمهوريته "ولا يُسْمَح لأحدِ رجالنا أن يقبض رشوة أو يكون محبّاً للمال" (82). كما إنه سيقيم رقابة على الفنون "تشمل أساتذة كلّ فن، فنحظر عليهم أن يطبعوا أعمالهم بطابع الوهن والفساد والسفالة والسماجة، سواء في ذلك رسوم المخلوقات الحيّة، أو الأبنية، أو أي نوع آخر من المصنوعات. ومن لا يستطيع غير ذلك فننهاه عن العمل في مدينتنا، لكي لا ينشأ حُكَّامنا في وسط صور الرذيلة نشوء الماشية في مراعٍ رديّة، فتتسرّب الأضرار إلى نفوسهم فتفسدها، بما تلتهم يوماً فيوماً من الأقوات في مختلف المواقع. فيجتمع في نفوسهم مقدارٍ وافرٌ من الشرِّ وهم لا يشعرون. وعلى الضدِّ من ذلك أولاً يجب علينا أن نستدعي فنّيين من طراز آخر، فيتمكّنون بقوة عبقريتهم من اكتشاف أثر الجودة والجمال. فينشأ شبابنا بينهم كما في موقع صحي، يتشرّبون الصلاح من كلّ مَرْبَعٍ تنبعث منه آي الفنون، فتؤثر في بصرهم وسمعهم كنسمات هابّة من مناطق صحية، فتحملهم منذ حداثتهم، دون أن يشعروا على محبة جمال العقل الحقيقي، والتمثّل به، ومطاوعة أحكامه" (الجمهورية -94). ولهذا سيحدد المباح من الآلات الموسيقية والأنغام بما يساعد على الرقي الخلقي وتنمية المشاعر الجمالية "يجب أن يُسنَّ لهم نظام شديد التدقيق في الأغاني والألحان، والآلات الموسيقية فلا يسلّم لأمة كاملة آلات موسيقية تُنشئ فيها الرخاوة وتثبط العزائم. فيحظر عليهم كل الآلات الموسيقية، إلا العود والقيثارة والزمر. ويحظر عليهم أيضاً كل الألحان المركّبة والبسيط من هذه هو المباح لهم. وغرض كل هذه القوانين هو أن يتربّى ويرتقي في عقول التلاميذ الشعور بالجمال والاتساق والاتزان، وهي صفات تؤثر في سجيتهم وفي علاقاتهم المتبادلة" (75). إنّ التدريب على الموسيقى سيستمر مدى الحياة كالرياضة، ولكن "الموسيقى يجب أن تنتهي في محبة الجميل" (97). أي المعنى الروحي للجمال، لا الصورة، ولا ما يثير الغرائز ويدفع إلى شرب الخمور، الذي لا يُحبّذه أفلاطون وخاصة للحكام "لأنّ الحاكم، على ما رأى، هو آخر شخص في الدنيا يباح له أن يشرب فيفقد صوابه" (97). إنّ أفلاطون لا يريد أن يبني مدينة محاطة بأجهزة البوليس والمحاكم والمستشفيات بترك الحبل على غاربه للفاسدين والمفسدين. إنه يريد أن يؤسس لحماية المجتمع من الأمراض، والتقليل من الحاجة إلى الدواء، لأنه "إذا انتشرت في المدينة الأمراض وصور الفجور أفلا نضطرّ لإنشاء المستشفيات والمحاكم" (99). إن الحماية من الداء أفضل من المعالجة بالدواء، ولهذا لا بدّ إضافة للقضاء العادل والرياضة والموسيقى من وضع برنامج تعليمي لتهذيب النفوس لأنه "إذا لم يتغذَّ ذلك الذوق باكتساب المعرفة، أو طلب العلوم، ولم يشترك في المباحث العقلية ومنازع العرفان، ألا تضعف نفسه فيصبح أصم وأعمى البصيرة لافتقاره إلى المنبهات، والغذاء الروحي.. فيصبح رجل كهذا أميّاً.. يهجر كل ما هو من ملكوت العقل، ويعمد إلى حلّ مشاكله، كالوحش الضاري، بالقوة والخشونة، ويعيش بالجهل وسماجة النفس بلا اتزان ولا جمال" (105). كما إنّ دولة الحكمة والشجاعة والعفّة والعدل التي يريدها أفلاطون، لا يصحّ فيها توريث المناصب للأبناء، ويدعو لفتح الباب فيها أمام كافة الشعب لأخذ المواقع التي يستحقونها بجدارتهم لكي تكتمل دائرة العدالة "إنه يجب إقصاء مَنْ سفل من مواليد الحكام إلى فئة أدنى، ورفع من تفوّق من أنسال العامة إلى مصاف الحكّام. والقصد من كل ذلك تأهيل كل فرد من سكان المدينة لممارسة الفن الذي أهلته الفطرة له" (118) رغم أنه من جهة ثانية أكّد أنّ إمكانات الناس المعرفيّة متساوية من حيث الباطن، أو ما هو فيهم بالقوة، وإن عجزوا عن تحصيلها بالفعل. وذلك بسبب سلوكهم وظروفهم وميولهم التي منعتهم من الاهتمام "بموضوع العلم الأسمى" فكان "الخير الأعظم عند العامة هو السرور، وعند الخاصة هو البصيرة" (198) ولهذا سيعطي أفلاطون لكل إنسان استحقاقه في دولة العدل. ولكن الخطأ الذي سيرتكبه سيبدو في طلب المستحيل برغبته في تجريد الناس من عواطفهم الإنسانية، حتّى إنّ جمهوريته بإضافة هذه القوانين إليها ستبدو جمهورية آلات، لا بشر. فالزيجات ستقررها الدولة "فالنساء اللائي يبدين ميلاً إلى الفلسفة أو الحرب يجب أن يصبحن الحكام أو المساعدين، ويشاركنهم في واجباتهم -أي للقادة -ويصرن أزواجاً لهم. ويجب أن تكون علاقات الجنسين المتبادلة تحت مراقبة القضاة، وأن تبارك بإجراء المراسم الدينية. ويفصل الأولاد عن والديهم، ويربون في معاهد خاصة تنشئها الحكومة" (146). كما إن أفضل الرجال والنساء في الجمهورية وبما أنهم القادة والقدوة الحسنة فإنهم يجب أن يجردوا من المال وحتى العواطف، ولذا يجب "أن تكون أولئك النساء لا استثناء أزواجاً مشاعاً لأولئك الحكام. فلا يخصّ أحدهم نفسه بإحداهن. وكذلك أولادهم يكونون مشاعاً فلا يَعْرفُ والد ولده ولا ولد والده" (157). بل إنه سيفرض على النساء المتميزات" أن تتعرى أزواج حكامنا في تمرينات الجمباز، لأنهن يستترن ببرد الفضيلة بدلاً من الثياب" (157). وسوف يسعى مع الشعب إلى "ترويج أفضل الرجال بأفضل النساء، وأن نقلَّ تزويج أدنياء الرجال بمثيلاتهم من النساء. وأن يوجه الالتفات إلى تهذيب أولاد الأولين، وإهمال أولاد غيرهم، إذا كنت تروم الحصول على أرقى دولة" (160). كما أنه سيحدد عدد الزيجات لمنع زيارة الولادات "لكننا نترك عدد الزواجات، لاستحسان الحكام، بحيث يحفظون الموازنة في عدد السكان، من غير زيادة ولا نقصان.. فتظل مدينتنا، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، لا أكبر مما هي ولا أصغر" (160). ولهذا السبب "إذا حبلت إحداهن عرضاً، في غير الحالة المقررة، فلا يرى جنينها النور. وإذا لم تتمكن من ذلك فيلزم التخلص من الطفل على أساس أن ثمرة اجتماع كهذا لا تجوز تربيتها" (162). وربما سيلاقي أبناء من يسميهم الآباء المنحطين نفس المصير، حين يتحدث عن مستقبلهم بشكل غامض حيث "يحمل الموظفون أولاد الوالدين الممتازين إلى المراضع العمومية، تحت عناية مرضعات.. أمّا أطفال الوالدين المنحطين وكل الأطفال المشبوهين، فيخفونهم قاطبة في مواضع مستترة مجهولة تلائمهم" (161) وبالنسبة لأبناء الممتازين "تتخذ الاحتياطات اللازمة لكي لا تعرف والدة طفلها" (161) وسيُحرّم أفلاطون الزواج من الأبناء والأمهات والجدات والحفيدات.. وحين سيسأله محاوره "ولكن أنّى تعرف بناتهم آباءهن والأقارب الآخرين الذين ذكرتهم؟" (162) في مثل هذا المحيط الذي لا تعرف فيه أنساب المواليد. سيجيب أفلاطون بشكل غامض وكأنّ الفكرة لم تنضج في ذهنه "يحظّر على الأخوة والأخوات مسّ بعضهم بعضاً، ولكن الشريعة تبيحه إذا أصابتهم القرعة ووافقت كاهنة -دلفي على ذلك" (162). هل يفعل أن يتخلى أفلاطون عن الحب والعواطف، وإنسانية الإنسان، وأن يصبح الزواج اقتراعاً، والأبناء دجاجاً بنقلهم إلى مراعي الدول لرعايتهم، لكي تقوم دولة الآلات البشرية؟ هل هذا هو العقل ودولة أفلاطون البائسة؟ وهل شعر أفلاطون كم ناقض نفسه عندما قسّم الأطفال إلى فئتين، فئة تستحق الحياة والتربية والرعاية، وفئة ستساق إلى مصير مجهول لأنها من آباء جاهلين، مع أنه لا ذنب للأبناء فيما فعله أباؤهم، ونظرية أفلاطون في المعرفة كما بيّن لنا، تقرر أنّ إمكانيات جميع البشر المعرفية متساوية. سيختم أفلاطون كلامه في النهاية عن نظام الجمهورية بقوله لمحاوره "قد اتفقنا يا غلوكون في النقاط الآتية: إذا أريد انتظام الدولة، أفضل انتظام، وجب تقرير شيوعية النساء والأولاد والتهذيب في كل فروعه. كذلك شيوعية المناصب في حالتي السلم والحرب. وأن يكون الملوك ممن أظهر أعظم مكانة في الفلسفة، وأشدّ ميل إلى الحرب.. يضاف إلى ذلك أننا سلمنا أنه متى رسخ مركز الحكام لزم أن يحلوا جنودهم في مساكن مقررة الأوصاف، ولا يباح فيها، حسب قرارنا، مُلك شخصي، بل تكون ملكاً مشاعاً للجميع. وقد قررنا تحديد حال البيوت، إذا كنت تذكر، إلى أي حد تأذن لهم أن يقولوا عن شيء ما إنّه ملكهم الخاص.. إننا قررنا أن لا يمتلك أحدهم ثروة.. وجزمنا أنه يحق لهم كحكام وجنود أن يتناولوا من الأهالي رواتب سنوية مقابل حكمهم. وأن يحصروا جهودهم في السهر على أنفسهم وعلى المدينة" (236). ورغم كل الصعوبات التي سيثيرها تطبيق هذا النظام المخالف في بعض تصوراته لطبيعة البشر، ومخالفته لما تعارف عليه الناس في حياتهم، فإن أفلاطون مع اعترافه بالصعوبات سيقول إن إقامة مثل هذه الدولة ممكنة في حال وصول فيلسوف إلى السلطة "إن نظريتنا في الدولة والنظام ممكنة التطبيق، وليست مجرد رغبة، وإن يكن تحقيقها صعباً. ويقوم إمكان تحقيقها بوسيلة واحدة، وهي أن تناط السلطة التامة في الدولة بفيلسوف واحد يشعر شعوراً عميقاً بخطورة الحق والشرف الناشئ عنه، ويحتقر الفخفخة احتقاراً شديداً، ويعتبر العدالة أسمى الواجبات وأحقها، فيُجْري -كخادم ومحب خاص للعدالة إصلاحاً كاملاً في دولته" (232). إنها أحلام أفلاطون التي بشّرت بالحاكم الصالح، أو توقّعت ظهوره، ومهدت لكثير من الديكتاتوريات التي حكم عليها أفلاطون بأنها أسوأ أنظمة الحكم في العالم، فادعى قبل أفلاطون وبعده كثير من الحكام بأنهم حكماء وفلاسفة، بل ويمتّون بصلة للآلهة. ولكن برنامج الحكام الصالحين والمطلقي الصلاحية لم يتغير، وعجزت حكمتهم التي زعموا امتلاكها عن إقامة أي دولة صالحة، وضاعت أحلام أفلاطون في الهواء، حين لم يصل هذا الملك، أو الحاكم، الفيلسوف إلى موقع القيادة في بلاد اليونان أو في غيرها طوال التاريخ. وقد ردد جميع الحكام ما قاله لويس الرابع عشر سراً أو علناً "الدولة أنا" وحين ثار الفقراء في فرنسا، وطالبوا بالخبز سألت ماري أنطوانيت بسذاجة "لماذا لا يأكلون الكاتو". ولكن الرأسمالية الذكية ستقترح حلاً آخر حين سيُضْرِب العمال لنفس الأسباب في أمريكا، وسيقول توماس سكوت رئيس شركة الخطوط الحديدية، في بنسلفانيا من 1874 -1880، لزملائه "أعطوا العمال والمضربين عدة أيام معدودة غذاء من الرصاص والبنادق، وسترون كيف سيمتصون هذا النوع من الخبز" (الحلم والتاريخ -151). فالرأسمالية لم تكن مضطرة لتجميل صورتها قبل قيام الثورة الشيوعية، ولهذا بطشت بكل من عارضها وإن كانوا من أبنائها. لقد حكمت القوة والمال العالم، وهزمت دولة العقل، والأنظمة التي خاف منها أفلاطون ورفضها بقيت في التاريخ. بل إنّ الدولة الفاضلة المرسومة بطموح الروح وأنوارها كان مصيرها لا يقل سوءاً عن دولة العقل، فما هو الباقي من الدول والأنظمة والحكومات التي رفضها أفلاطون لأنها دون مستوى العقل..؟
موقف أفلاطون من الأنظمة المعاصرة:
إنَّ الدول بأهدافها وسياساتها الخيرة أو الشريرة ستظل قائمة، وكل نظام سيزعم بأنه النظام الأفضل. وقد شاهد أفلاطون كل أنواع الأنظمة في زمنه، وسمع ادعاءاتها، وكان لا بدّ له لتبرير تقديم البديل (الجمهورية) من نقده لها، وإبداء رأيه فيها بالقياس إلى الميزان الوحيد الذي اعتبره صالحاً لبناء أي نظام سياسي، وهو حكم العقل. ولهذا فإنّ أفلاطون وإنْ انتقد كلَّ الأنظمة القائمة، فإنَّ رفضه لها كقبوله، سيكون على درجات، بقدر قرب كلّ نظام من مفاهيم العقل أو بعده عنه. لقد عاصر أفلاطون خمسة أنواع من الأنظمة "يمكن قسمة الحكومات إلى خمسة أنواع كبرى هي:
الأرستقراطية والتيموكراسية والأوليغاركية والديموقراطية والاستبدادية" (234) ورأى أفلاطون أنّ كل نظام بسبب غياب حكم العقل والعدل، سيحمل في رحمه الجنين الذي سيقود إلى ولادة النظام القادم بشكل طبيعي. فما هي صفات كل نظام..؟ وما هو النظام الذي سيولد منه ليكون وارثاً له..؟
سيتحدث أفلاطون عن النظام الأرستقراطي بشكل مختصر. وهذا النظام كما يصفه أفلاطون ستتميز قيادته بالحنكة والشرف والحماسة والكفاءة في إدارة البلاد، ولهذا سيحكم عليه بأنّه "عادل وصالح" (237). ولكن مشكلة هذا النظام تكمن في أنّ الحاكم فيه سيورث سلطته لأبنائه الذين سيكونون أقلّ كفاءة وحكمة منه لأنّهم لم يعانوا ما عاناه، ولهذا سيكون هدف الوارثين الاستفادة من مزايا السلطة المغرية والمتاحة أمامهم بدلاً من متابعة العمل في بناء الدولة، ومن هنا سيظهر القائد التيموكراسي "الإنسان التيموكراسي.. يمكن تمثيله لنفسنا بابن الأرستقراطي، الذي أغرته العوامل الردية على العروج عن اقتفاء آثار والده. فتنمو محبّة الثروة التي أدخلتها التيموكراسية نوعاً. وتتزايد حتّى تحوّله إلى الأوليغاركية، التي لبابها جعل الثروة أساس الجدارة" (235). إنّ التيموكراسية ستنشأ من الأرستقراطية حتماً في الجيل الأوّل أو الثاني عندما "يمتلك أفضلهم بقوّة السلف عن غير جدارة ذاتية" (238)، ممّا سيؤدّي إلى انقسام في السلطة وصراع بين أجنحتها، ولكن"النزاع المتبادل بين الحزبين ينتهي بالتفاهم المتبادل والاتّفاق على اقتسام الأراضي والبيوت، واستبعاد أصحابها المسالمين، وتحويلهم إلى طبقة سفلى كعبيد أرقاء للخدمة في الحرب والدفاع عن سلامة أسيادهم.. فالتيموكراسية، هي مرحلة، وسطاً بين الأرستقراطية والأليغاركية" (239). إنّ "خُلق التيموكراسي، الذي يمثّل الدولة التيموكراسية.. إنّه ابن رجل فاضل، ولا يبعد أنّه سكن مدينة ساء نظامها، فتجنب الرفعة والمرافعات، وأمثال ذلك ممّا يلابس الروح المتمردّة، مؤثراً الخسارة على المشاغبة" (241). أمّا سبب انحراف الأرستقراطي عن سياسة سلفه فذلك بتأثير الأشرار الذين سيعرضون عليه الشهوات، ممّا سيقوده إلى "اعتزال أفضل حاكم.. البحث العقلي الممتزج بالفلسفة، وهو وحده بوجوده واستقراره يقي صاحبه، ويمكّنه من الاحتفاظ بالفضيلة مدى الحياة" (240). هذا الابتعاد عن عالم العقل، والانحدار باتجاه عالم الشهوات سيؤدي بالدولة إلى النظام الأوليغاركي. وفي ظل هذا النظام سيكون "قدر الرجال بثروتهم، فيحتكر الأغنياء الحكم، وليس للفقير فيه حظ ما.. فيتهافتون على حشد المال، فيفقدون الفضيلة ويفقدون قدرهم. ومتى علا قدْر الثروة والمثرين في الدولة بُخست الفضيلة والفضلاء.. فيسنّون شريعة هي لباب النظام الأوليغاركي.. وينفّذون شريعتهم بقوّة السلاح، إذا لم ينجحوا قبلها بتأليف الحكومة بالأراجيف التي سبقوا فنشروها.. فتخسر مدينة كهذه وحدتها، وتصير اثنتين، الواحدة مؤلّفة من الفقراء، والأخرى من الأغنياء. والفريقان ساكنان معاً يكيدان أحدهما للآخر" (243). إنّ انقسام المجتمع إلى فقراء يعملون، وأغنياء مترفون لا يعملون سيؤدّي إلى "نشوب حرب أهلية. ولا تضرم منازعات الأحزاب أحياناً دونما تأثير خارجي.. فتنشأ الديموقراطية بفوز الفقراء، فيقتلون بعض خصومهم، وينفون غيرهم، ويتّفقون مع الباقي على اقتسام الحقوق والمناصب المدنية بالتساوي ويغلب في دولة أن تكون المناصب بالاقتراع" (249). ولكن ما الذي ستحقّقه الديمقراطية لشعبها. سننقل أهم السمات التي رأى أفلاطون ببصيرته أنّها تنطبق على كل دولة ديمقراطية، وهي سمات موجودة في ديمقراطياتنا المعاصرة رغم كل التحسينات التي أدخلت عليها لمواجهة الشيوعية. ويقول أفلاطون "الحريّة، هي أجمل ما في الديموقراطية... إنّ الحرية في هذه الدولة تبلغ أقصى مداها" (256) ولكن سيكون لهذه الحرية ضريبتها ونتائجها الضارّة "الديموقراطية كالأوليغاركية تقتلها الرغبة الزائدة فيما تحسبه خيرها الأعظم" (256)، أي الحريّة، وما ستسببه من فوضى، حيث "تتسرب عدوى الفوضى الفاشية في الدولة إلى البيت، وتنتشر في كلّ ناحية، وأخيراً تتأصّل حتّى في البهائم" (256) ولا يقصد أفلاطون بالبهائم الحيوانات، وإنّما الناس الذين هم في فهمهم وسلوكهم كالبهائم، ففي هذه الدولة الحرّة سيفلت البهائم من الناس، طالما أنّ الحرية حطّمت كلّ قيد وإن كان ضرورياً للمجتمع، وستكون النتيجة "أنّ البهائم تمتلك حريّة في هذه الحكومة أكثر من كل حكومة أخرى. وعلى هذا القياس تتمادى الحيوانات الأخرى في الحريّة.. إنّ الأهالي، نظراً إلى شدّة إحساسهم، لا يحتملون أدنى إشارة إلى الاستعباد.. إنّ الأمر ينتهي بهم إلى ازدراء الشرائع المكتتبة والشفاهيّة لئلا يروا، على دولهم ظلّ سيّد" (257) إنّ الحرية الفرديّة المطلقة التي لا يقيّدها قيد المعرفة ولا الأخلاق، سيندفع مالكها وراء الملذّات "حيث فشت الإباحة رتّب كل فرد نظام حياته وفقاً لملذّاته... وعليه أرى أنه ينشأ في هذه الجمهوريّة أعظم تباين في الخلق.. وقد يكون هذا النظام أجمل النظم، لأنّه مزخرف بكلّ أنواع السجايا، فيلوح جميلاً كالثوب المزركش بكل أنواع النقوش. وقد يعجب الكثيرون بهذه الجمهوريّة كأجمل الأشياء، إعجاب النساء والأولاد بالثياب الزاهية الألوان" (250). فالديموقراطية بما تتيحه من مساواة ستكون على الأرجح "جمهوريّة مستحبّة، ملوّنة، تعامل جميع الأفراد بالمساواة سواء كانوا متساوين أو لا" (251). وستؤدّي هذه الحريّة إلى إفلات المجرمين من قبضة العدالة "أو لم نلاحظ أنّ أناساً محكوماً عليهم بالإعدام، أو بالنفي، في هذه الدولة، لا يزالون يسرحون في عرض الشارع، ويمرحون مرح الأبطال في ميدان العرض، كأنّ لا أحد يراهم أو يسأل عنهم" (251). ما هي الحالة التي ستسيطر على المجتمع عندما تتساوى الفضيلة والرذيلة، والحكمة والجهل، وتصبح قيم الخير والشر نسبية في مجتمع حر لا يتّفق على أيّ شريعة أو حقيقة ويظن أنّ الخير الأعظم هو جمع المال. من المؤكّد أنّ الفساد سيسود،وسيوصف "الحياءُ بالحماقة، وتطرحه خارجاً كأسير حقير، وتطرد العفاف مهاناً، ملقّبةً إيّاه بالجبان. أو لا تبرهن بمساعدة الشهوات الأخرى العديمة النفع، على أنّ التوفير والاتزان فظاظة وجهل فتبعدهما إلى ما وراء الحدود؟.. فبهذه الصورة تخلي نفس أسيرها + أيّ المواطن + من الفضائل، وتحلّ محلّها المخازي الكبرى، وتتقدّم إلى إرجاع التمرّد والتهتّك والوقاحة، تصحبها السفاهة والشراهة بحاشية كبيرة وأبّهة عظيمة وهي متجهمة فتفخّمها وتلقّبها ألقاباً أنيقة. فتدعو السفاهة حسن التربية، والتمرّد دماثة، والفوضى حريّة، والتهتّك فخامة، والوقاحة شجاعة، أو ليس هذا هو الطريق الذي فيه يهوي الشباب..؟ ومتى تقدّم في السن.. وقيل له إنّ بعض اللذّات صالح شريف، وبعضها سافل شرّير.. يهزّ رأسه لدى سماع هذه الأقوال هزّة الإنكار، مصرّاً على أنّ الشهوات كلّها متماثلة، وتلزم رعايتها على السواء.. فيعيش يوماً فيوماً، يساير الشهوة الطارئة -آونة يشرب على نغمات الموسيقى مع مزاولة التمارين الرياضية -وآونة يكسل فيهمل كلّ شيء، ثمّ يعيش عيشة طالب الفلسفة، ويغلب أن يشترك في المصالح العموميّة وينهض إلى الخطابة، مدفوعاً إليها بعامل حالي، وتارةً يقتفي خطوات كبار القوّاد، متهافتاً على امتيازاتهم، ثمّ يتحول تاجراً حسداً منه للتجّار الناجحين. وليس في حياته نظام ولا قانون رادع. بل يعكف على مسرّاته، وحريّته وسعادته، إلى نهاية الحياة" (254). أليس هذا هو السلوك الذي ستصل إليه كلّ أنظمة الحرية في العالم، سواء في اليونان القديمة، أو في عصرنا الراهن..؟ لنقرأ هذا الوصف للمجتمع الأمريكي الذي لا يختلف في تفاصيله عمّا كان عليه الحال في جمهوريات اليونان الحرّة قبل ثلاثة آلاف عام تقريباً. يقول هامش ماكري: "إنها لصورة كئيبة للمجتمع الأمريكي تلك التي رسمها أليستركوك، المذيع المحنّك البريطاني المولد، والذي قد عاش في الولايات المتحدة لعدّة سنوات. إنَّ مشكلة أمريكا كما يزعم، لم تكن ناجمة عن فشل اقتصادي، حتّى ولا عن الفكرة التي روَّجها بول كينيدي والقائلة: "بترهّل الإمبريالية" ولكنها ناشئة عن التفسّخ الأخلاقي. إنّ معدل الجريمة تتجاوز بانتظام السنوات الماضية ما عدا الأسوأ منها. والجرائم العشوائية في الشوارع تضاهي ما ورد في مدوّنات القرن الثامن عشر. كما تشكل المخدرات وباءً يضرب جميع طبقات المجتمع وجميع الأعمار. وقد صحونا لِتَوِّنا لنكشف أنّ نظام التربية والتعليم في أمريكا كان لوقت طويل، وربّما لعدة عقود، يعتمد معايير متساهلة ومضطربة، بحيث أنّ أقلية كبيرة على الأقل وربّما أغلبية من خريجي المدارس الثانوية هم أنصاف متعلمين. وقد سجّل أليستركوك أعراضاً أخرى للانهيار الثقافي؛ مثل سوء استخدام الحرية، وفشل المحاكم في تعريف وكبح الفجور. والانحطاط السحيق في الأخلاق العامة، وكما جاء في قول جيبون: "الغرابة ترتدي رداء الأصالة، والتهوّر أصبح يدعى حيوية" وينتهي بالقول إلى أنه سوف يكون هناك نقطة انعطاف تاريخية كبيرة، أو نهاية دراماتيكية ما، من مثل حرب أهلية أمريكية ثانية، أو وصول دكتاتور شعبي، أو عودة طارئة إلى الصيغة الخيّرة للاشتراكية الوطنية التي أرساها فرانكلين روزفلت" (العالم عام2020 -92). هذه هي النتيجة عندما تعطى الحرية لمن لا يستحقها، ولا يُحسن التصرف بها، ولا ينظر إليها كمسؤولية إنسانية تفرض عليه واجبات نحو نفسه كإنسان أولاً: عليه أن يثبت أنه يستحق منحة الحرية المعطاة له من الله بإثبات إنسانيته التي يتميز بها عن البهائم وهي العقل، وثانياً: نحو مجتمعه والعالم بإثبات هذا التعالي الإنساني بالرحمة والحب والأخلاق والعطف على البشر، وليس بالإساءة إليهم، وإلاّ فما هو معنى الإنسانية والحرية، إذا لم تجمعنا رابطة الأنس بالآخرين ومحبة الخير لهم..؟ هل بالوحشية أو الغرائز أو الأنانية نستطيع أن نثبت إنسانيتنا..؟ لهذا لا يجوز أن تكون حبال الحرية طويلة جداً لمن لا يُحسن استخدامها وضبطها بميزان العقل، لأنّ من يحطمون ميزان العقل لن تُنْتج حريتهم إلا البلاء والمصائب لأنفسهم ومجتمعهم. وما حدث في الماضي للمجتمعات الحرّة يحدث الآن ما هو أسوأ منه في المجتمعات المماثلة. لنقارن بين ما استنتجه أفلاطون عمّا سيؤول إليه أمر الإنسان الحر الذي لا تحكمه موازين العقل مع طلبات الإنسان في مجتمعات الحرية. يقول أفلاطون: "إنّ بعض اللذائذ والشهوات غير الضرورية هي مما تنكره الشريعة، ويظهر أنّها تؤلف قسماً أصليّاً في كلِّ إنسان. فإنْ ضبطتها الشرائع والرغبات الفضلى في النفس، بمساعدة الذهن، فإمّا أن تزول زوالاً تاماً أو يبقى عدد قليل من الضعيفة منها، ولكنها في قسم آخر من الناس تظل كثيرة وقوية.. إني أشير إلى الشهوات التي تثور في النوم، حين يكون القسم العقلي الأليف، الحاكم في النفس نائماً. والقسم الحيواني الوحشي المملوء طعاماً وشراباً، قائماً على الخليفتين. وقد طار عنه نومه، اشتغالاً بسدِّ أشواقه الخاصة. ففي تلك الحال ليس هنالك ما لا يجرؤ على عمله، لأنه مطلق اليد، خالٍ من كلِّ شعور بالحياء أو التفكّر، فلا يستنكف عن شر اتصال نجيس، بوالدته، أو بأي إنسان أو حيوان، ولا يتردد في ارتكاب أنواع القتل، والانغماس في أنجس المآكل. وبالاختصار لا حدّ لجنونه ووقاحته" (266) إنّ ما توقعه أفلاطون في مجتمع الحرية، أو ما سيمارسه المستبدُ الذي لا يضبطه العقل ولا يخاف من أي رادع، وشريعته هواه، هو الداء الذي سيصيب مجتمع الحرية إلى درجة أنّ ما يعتبره أفلاطون مرضاً سيغدو مطلباً صحيّاً، بل علاجياً على طريقة معالجة السرقة بإباحتها، والاعتراف بأنها طبيعية بدلاً من إدانة اللصوص. لقد استشرى مرض الجنس وانهارت كلّ الضوابط لوقفه، الدينية والأخلاقية، فماذا كانت نتيجة منحة الحرية..؟ إنّ بعض الناس سيسعون إلى المزيد من الانحدار. سيقول رايموت رايش: "إنّ أحدث نمط عصري للإصلاح الجنسي البرجوازي يأتي من السويد.. إنّ كتاب (الأقليات الجنسية) بقلم لارس أولرستام قد أوضح نمو النزعة التي تريد أن تكون جذريّة تقدمية في البلدان الرأسمالية، وأن تتيح دونما تمييز جميع الممارسات الجنسية بين البشر، وبين الحيوانات، واعتبارهم متساوين في القيمة ونشر هذه الممارسات الجنسية بين البشر، وبين الحيوانات، واعتبارهم متساوين في القيمة ونشر هذه الممارسات الجنسية، باستثناء الأعمال التي من شأنها أن تؤدي إلى عمليات تعذيب جسدية تمارس على حيوانات أو على بشر "(النشاط الجنسي وصراع الطبقات -221) رايموت رايش، سيوافق على مقترحات أولرستام وإن كانت كما قال: "أقلّ تقدمية.. إننا نستطيع حتّى الآن الموافقة على هذه المقترحات" (المرجع السابق -222)، وفي رأي أولرستام: "فإن كلّ تمييز بين (طبيعي) و(غير طبيعي) أو مرضي في ميدان الحياة الجنسية ليس سوى مسألة تحديد أو تعريف توصي به في أيامنا الدولة والكنيسة والأخلاق. فإذا ما ألغيت هذه التحديدات القسريّة فإنّ حدّاً أفضلياً من السعادة الحقيقية سوف يتحقق تلقائياً (المرجع السابق -223). يجب إلغاء كلّ شيء وكلّ قيمة، وكلّ تمييز بين البشر. لا فرق بين من يحكمه العقل، ومن تحكمه الغرائز الجنسية وتقوده إلى كل أنواع الفجور. ولهذا يجب على الكنيسة أن تصمت وعلى الدولة أيضاً طالما أنها تستخدم هذه المصطلحات الأخلاقية لتقييم المنحرفين. ففي مجتمع الحرية لا يوجد أي فرق، أو يجب أن لا يوجد أي فرق بين القديس والشيطان، بين من ينتصر على نفسه ويكشف عن إنسانيته، وبين من يضع عقله في خدمة عورته، ويصل به الأمر إلى اقتراف كلّ الموبقات التي لا تفعلها حتّى الحيوانات.
سيدافع رايموت رايش عن هؤلاء حتّى النهاية وسيجد لهم العذر، بينما لن يعذر الكنيسة والدولة إذا دعت إلى الأخلاق، لأنّ هذا تمييز، وهو يرفض التمييز، وحتى الاتهام بالمرض، بالقول (طبيعي) و(غير طبيعي)، لأنّ مثل هذا القول يشير إلى مشكلة.. إلى مرض.. إلى حالة تحتاج للمعالجة، بينما الحالة على خير ما يرام بالنسبة لمن ينحدرون بممارساتهم الجنسية إلى مستوى لا تفعله البهائم.. سيقدم لنا رايش حالة من الشذوذ، ومع ذلك فلا شيء يثير غضبه أو معارضته من أجل إنسانية الإنسان، ولا شيء يستدعي حتّى العلاج، فهذا مزاج طبيعي "هناك محبّون للبول يتأخرون قليلاً في المباول العمومية. وأكبر ما يحسّون به من رغبة هو أن يعثروا على شخص ما يتلطف بالتبويل في قبعاتهم أو جيوبهم "(المرجع السابق -223). ما هو رأي رايش بهؤلاء..؟
إنه سيدعو الجمهور إلى الأدب معهم "إنّ سماح المرء بتلطيخ ثيابه بالبول ليس بالتأكيد حاجة جديرة بالاحترام، لكن الكيفية التي يتبجح بها الناس بإساءتهم معاملة هؤلاء الأشخاص هي مثيرة للمشاعر. فإذا لم يكن الشخص يريد أن يستجيب إلى رغبة هؤلاء الأشخاص المتواضعة فإنّ من الواجب على الأقلّ مقابلتهم بشيء من التهذيب" (المرجع السابق -223) إنّ هذا الواعظ لا يخجل من تعليم الآخرين كيف يجب عليهم أن يحترموا حرية هؤلاء المرضى، ولكنه يصمت عمّا تقتضيه مسؤولية الحرية، وعن فائدة هذه الحرية والغاية منها، فما هي فائدة الحرية لأناس سيطلبون من الآخرين مثل هذه الطلبات القذرة..؟ حتّى على مستوى النظافة والصحة العامة، لا يمكن أن يكون هذا الأمر مقبولاً في مجتمع يحرص على الصحة العامة. ولكن أليست الحرية إذا لم تضبطها الضوابط ستكون بلاء على بعض الناس وعلى المجتمع..؟ لهذا السبب رفض أفلاطون دولة الحرية المطلقة، وحذّر منها لأنه في مثل هذا الوضع سيأخذ كل فرد من الحرية مما يفهمه وما يلائمه منها. وفي ظلّ السباق المحموم على المال سيروّج الفاشلون، والطفيليون، والذين لا يحبون أن يأكلوا من عرق جبينهم لتجارة الفساد، كما هو الحال في دول الحرية، حيث تنتشر الجريمة، وتجارة المخدرات، ويتمّ الترويج لتجارة الجنس علناً، والتي ستصيب بشرورها كلَّ فئات المجتمع، وسيكون العلاج لإنقاذ المراهقات من خطر الحمل كما سيقترح رايش وأمثاله هو توفير "آلة توزيع أوتوماتيكية لحبوب منع الحمل توضع في المدارس" (النشاط الجنسي -226) وسيكون من رأي فرويد (1856 -1939) الذي طالب بالحرية الجنسية لتخليص المجتمع من الكبت، أي كعلاج طبي ودواء لتحقيق السعادة: "هو أنّ الرجل كيما يكون في حياته الحُبيّة حرّاً حقّاً، وبالتالي سعيداً لا بدّ أن يكون تغلب على احترام المرأة، وتآلف مع فكرة العلاقة المحرمية بالأم والأخت. ومن يخضع نفسه إزاء هذا الطلب لفحصٍ ضميرٍ جاد، فسيكتشف بلا أدنى ريب أنه يَعدُّ الفعل الجنسي في دخيلة نفسه، ورغماً عن كل شيء، فعلاً محطّاً لا يلطخ ولا يلوث الجسم وحده" (الحياة الجنسية -85) سيباح كلّ شيء، لأنّ السعادة هي أهمّ هدف يجب أن يسعى إليه الإنسان.. السعادة السهلة التي لا تحتاج إلى عناء.. لماذا؟ لأنّ "المذاهب الدينية جميعها أوهام" (مستقبل وهم -43) حسب رأي فرويد، وإذا كان لا يوجد جزاء ولا ثواب ولا آخرة، وإذا كانت حياة الإنسان هي هذه الحياة الدنيا، فلماذا لا يعيش حياته متحرراً من قيود العقل والأخلاق والدين..؟ لماذا لا يستثمر فرصة الحياة التي لن تتكرر في البحث عن متعة الخاصة..؟ نعم هذا هو المجتمع الذي ستكون فيه الحرية وثناً يُعبد، وسيكون من المباح باسمها وتحت رايتها ممارسة أي فعل والإقدام على أي تصرف، وتشويه الأخلاق، ورفض الحكمة وإدانة العقل، لأنه في عالم الحرية لا توجد حدود وضوابط للانحدار، ولهذا ستبدو الحكمة والعقلانية فقط شذوذاً، وإذا ما جَنَّ المجتمع فما هي فائدة العقل ومن سيصغي إليه؟ وما هو المصير الذي سيؤول إليه هذا المجتمع؟ يقول أفلاطون: "الذين لم يتعرّفوا الفضيلة والحكمة، ويقضون الحياة في الولائم وأمثالها من أنواع الانهماك قد سفلوا.. ولمّا كانوا لا يتجاوزونها فإنّهم لا ينظرون أو يرتفعون إلى العلل الحقيقية. ولم يمتلئوا قط باللذة الحقيقية، ولا ذاقوا لذّة حقيقية صرفاً، بل هم كالسائمة ينظرون أبداً إلى أسفل، ورؤوسهم إلى الأرض، يدنونها من موائد الطعام، حيث يشبعون ويسمنون ويلدون. ولكي يسدّوا شهوتهم البالغة بهذا التمتع برفسون بعضهم بعضاً بأظلاف حديدية ويتناطحون بقرون حديدية، حتّى يقتل بعضهم بعضاً بتأثير الشهوات الشرهة، لأنهم قد ملؤوا قسم طبيعتهم الشهواني غير الحقيقي بأشياء غير حقيقية" (الجمهورية -268). هل قامت الحربان العالميتان، وكثير من الحروب قبلهما وبعدهما إلا لهذه الأسباب..؟ من أجل المال والشهوات. وهل كان المحرّضون على هذه الحروب يحملون أي رسالة للعالم غير الرغبة في السيطرة والرفاهية المادية؟. لقد أدرك أفلاطون النتائج الطبيعية لمثل هذه الحرية المستهترة بالقيم والأخلاق التي ستدفع قادتها إلى العدوانية والحروب في الداخل والخارج، وشاهدٌ بأيّ قرون ستتناطح هذه القوى، وتوقع نهاية هذه الأنظمة وما ستؤول إليه. فالحرية المطلقة ستقود إلى الاستبداد المطلق. فالذين سلبتهم الحرية كلَّ شيء سيبحثون عن زعيم شعبي، إذ "تقضي الضرورة على المسلوبين -أي من سلبت أموالهم -بالتزام خطة الدفاع عن أنفسهم بالخطب في جماهير العامة" (الجمهورية -259). فالعامة الذين سيشكلون الأكثرية في مجتمع الحرية سيبحثون عن مُدافع عن حقوقهم، إذ "من عادة العامة اختيار بطل خاص يُوَلونه قضيتهم" (260) وعندما سيظهر هذا البطل المغامر وينجح، سيكون قد صار موضع ترحيب، وهكذا ستبدأ أولى خطوات الديكتاتورية بالظهور. ومع الوعود التي سيطلقها للجماهير المحرومة ضد الفئات المالكة، وما سيفعله من "إلغاء الديون، وتوزيع الأراضي على العموم، ولا سيما على أتباعه" (261) سيرتفع إلى مستوى القداسة في أعين الجماهير، وهذه المكانة التي سينالها ستساعده بعد البطش بخصومه الأثرياء من القضاء على كل معارض من الأصدقاء "فإذا رام الطاغية أن يستتب له الأمر، وجب أن يُنْحّي كل هؤلاء من طريقه، فلا يُبقي على ذي جدارة من أعدائه ولا من أصدقائه.. فيرقبهم مدققاً، ليرى من فيهم رجل، ومن كريم النفس، ومن نبيه، أو غني. ولحسن حظه أنه إن أراد أو لم يرد، فالضرورة قاضية عليه أن يكون عدّواً للجميع. وأن يكيد لهم حتّى يُطَهَّر المدينة منهم.. نعم فإنه يفعل ضدّ ما يفعله الأطباء في تطهير الأجسام، أولئك يُخْرِجُون من الجسم المواد الفاسدة ويبقون الجيدة، أمّا المُسْتبد فيخرج الجيد ويُبقي الفاسد.. فهو مُقيّد بأقصى ضرورة، إمّا أن يعيش بين أشخاص منحطين، أكثرهم عديم النفع، ويكون مكروهاً منهم، أو إنه لا يعيش" (262) إنّ طبيعة المُسْتبد لن تسمح إلا للطفيليين بالعيش معه، الذين يحسنون كيل المديح لكل ما يفعل. وبهذا المديح سيصاب المُستبد بجنون العظمة "ونعلم أنَّ مَنْ جَنَّ، واختبل عقله، يحلم ويسعى إلى أن يسود الناس والآلهة أيضاً" (269). وفي هذه الحالة سيعيش متحرراً من كلَّ قيد، وستصيبه أمراض الحرية المطلقة، وسيكون "ديدنه من ثمّ الولائم والأفراح والحفلات والحظايا، وكل ما هو من هذا النوع، وصحبته أناس خضعت عقولهم خضوعاً تاماً للشهوات المستبدة في داخلهم (269). وهكذا "إنّ أشدّ حرية وأعظمها تضع أسس أشدّ استبداد وأثقله" (258). فالحرية التي ستخلق الفوضى والبؤس ستسلم نفسها في نهاية المطاف للديكتاتورية. ما هو الحل إذا كان هذا هو مصير كل الأنظمة التي يصنعها البشر -طفولة فشباب فكهولة وموت -، كما رأى أفلاطون، واستنتج ابن خلدون في تاريخه. سيحيلنا أفلاطون، في نص غريب يدعو إلى التأمّل والحيرة، إلى الشريعة الإلهية لبناء النظام الأفضل، سيقولّ "إنّ الأفضل للإنسان أنّ يحكمه مبدأ إلهي عادل. ويجب أن يكون ذلك المبدأ في داخله إذا أمكن، وإلا فرض عليه الحكم من الخارج + أي بالقوّة + ليسود التلاؤم علاقاتنا الاجتماعية باعترافنا بسيادة واحدة عامّة. وغرض العادل الخاص حفظ التلاؤم بين الظاهر والباطن، وهو الذي يفرغ نفسه في قالب الجمهوريّة الكاملة، ولا شك، توجد في السماء إن لم يكن على الأرض" (الجمهورية -266) إنّ السؤال المحيّر الذي يفرضه علينا هذا الرأي، هو هل كان أفلاطون يشعر بأن جمهوريته، التي اقترحها، تستمدّ شريعتها وأحكامها من وحيٍّ إلهي؟. وكان كتاب الجمهوريّة محاولة نظريّة لإنزال ما في السماء إلى الأرض، أي إنّ الجمهورية نظام سماوي قبل أن يكون أرضيّاً.
عالم العقل وعالم الروح
إنّنا لا نستطيع أنّ نميز بين ما كان في الجمهورية أو في كتب أفلاطون الأخرى، من عالم العقل أو من عالم الروح إلا إذا فهمنا الفرق بين العالمين، والفرق بين المعلومات الصادرة عن كل منهما. وإننا باختصار سنذكّر بأهمّ مزايا معلومات كل من العالمين لتبيين الميزان الذي ستزن به مستوى العلوم الأفلاطونية ومراحل تطوّرها ومصدرها. وهذا ميزان يمكن أن نستخدمه للتحقّق من صحة كل معرفة روحيّة. فما هي مزايا المعرفة الروحيّة؟.
1-إنّ المعرفة الروحيّة تعتمد على توجّه الإنسان إلى الله للحصول على المعلومات، حيث ستنتهي مهمّة الإنسان عند ضبط هذا التوجّه وتحقيقه بالسلوك المعروف، وانتظار التلقّي من الله. ولهذا ستظل أيّ معلومات يطلبها السالك بيد المرسل أي الله لا بيد المستقبل، ولذا لا يستطيع الواصل أن يعرف كل ما يريد، وستظل معلوماته مستمدّة من العقل ومن الروح، حتّى وصوله إلى مقام العبوديّة. فإذا وصل، لا ينطق إلا من الروح.
2-إنّ المعلومات الصادرة عن العقل تخطئ وتصيب، أمّا المعلومات الصادرة عن الروح فإنّها لا تخطئ أبداً. وبهذا الميزان نستطيع أن نميّز بين معلومات أفلاطون الروحيّة والعقليّة، أو غيره من العارفين. ولكن هذا التمييز لا يعرفه إلا الخبير.
وإنّنا لا نعني بهذا الحكم إنكار صحّة أحكام العقل أحياناً.
3-إنّ معرفة عالم العقل تتعلّق بالظاهر من العالم، أمّا المعرفة الروحيّة فإنّ تعلقها بباطن العالم، والعالم الظاهر بالنسبة للروح هو جسر للعبور إلى الحقائق، وبالنسبة للعقل هو حجاب لا يستطيع اجتيازه.
إنّ ما نستطيع أن نستنتجه بتطبيق هذه المقاييس على فكر أفلاطون بشكل عام والجمهوريّة بشكل خاص يدلّنا بأنّ أفلاطون كانت له إطلالات على عالم الروح إلا أنّه لم يتمكّن كلّ التمكّن، وظلّ في تأرّجح بين عالمه العقلي وعالمه الروحي. ومن هنا جاءت الجمهوريّة لبشر يعيشون في عالم غير الأرض، ولبشر لا تشبه حياتهم حياتنا.
نعم إنّ الجمهوريّة نظام سماوي إلى حد كبير، ولهذا لا تصلح لأن تكون نظاماً لكوكب موارده محدودة، وسكّانه لا يمكن أن يبلغوا الرقيّ الروحي الذي تحتاجه مؤهّلات الروحانيين، بسبب تفاوت الجهود البشريّة المبذولة من أجل المعرفة. وفي الأرض لا بدّ من تذوّق الحب الإنساني للانتقال من الصورة إلى المعنى. ولا بدّ من الأسرة والأولاد لإدراك العلاقة بين الله والإنسان من خلال العلاقة بين الآباء والأبناء أي الحب الطاهر الذي أساسه العطاء بلا حدود. إنّها طبيعة الحياة وتجلّي الحقائق الإلهية في الصور المادّية، لتحريك المشاعر وإيصال المعاني إلى القلوب. فإذا قطعنا هذه الصلات فإنّنا سنكون مثل الذي يطالب الطفل بتصوّر معنى الأبوّة وهو غير مؤهّل لها كأب وإنّما كابن. ثمّ إنّنا في عالم الأرض نشاهد بالحواس ولهذا نرغب في مشاهدة من نحب بالعين، وهذه قوانين الأرض التي لا نستطيع أن نتجاوزها حتّى لو أردنا، بينما في عالم الروح نشاهد بالبصيرة، ولا يوجد بالنسبة للبصيرة مسافات أبعد أو أقرب، ولهذا لا يغيب عنّا من نحبّ عندما نريد، ولا يختفي الأولاد حتّى لو اختفوا. ثمّ إنّ أفلاطون ناقض نفسه عندما اقترح قتل الأولاد الذين ولدوا بشكل غير شرعي. فما هو ذنبهم بميزان العدل؟. كما أنّه أخطأ عندما اقترح وضع نظامين للتعليم والرعاية، نظام لأبناء الأخيار، ونظام لمن هم في مستوى أدنى. فالعدل يفرض علينا أن نسأله ما ذنبهم؟، ونظريّته في المعرفة الإنسانيّة تتناقض مع حكمه على أبناء الأشرار. فإذا كان قد دافع عن رأيه القائل كل إنسان مؤهّل بطبيعته للمعرفة، وبأنّ المعلّم هو كالولاّدة التي تساعد على توليد ما يعرفه الإنسان وإظهاره، بنقله من الوجود بالقوّة إلى الوجود بالفعل، وقد دافع عن هذا الرأي في "الثئيتتس" كما في الجمهوريّة "وقد أعلن في الجمهوريّة أنّ التعليم في حقيقته ليس إيلاج معرفة ما في النفس، غريبة عنها، وإنّما إعادة توجيه الروح.. وردّ إلى خط النور" (الثئيتتس -24). وهذه الحقيقة تطابق الوحي القرآني (وعلم آدم الأسماء كلّها( (البقرة /31) فكيف ولماذا وعلى أيّ مقياس وميزان اعتمد لكي يحكم على أطفال بالقتل، وأطفال بالإهمال؟. وما هي أسباب هذا التخبّط الأفلاطوني، أليس لأنّ عالم العقل الذي يخطئ ويصيب هو الذي استمدّ منه أفلاطون أغلب أفكاره، فاقترح بعد الجمهورية أنظمة متعددة للدولة تختلف في تنظيمها عمّا اقترحه في كتابه الجمهوريّة، ممّا يدل إلى أنّه لم يتوصّل إلى تصوّر النظام الأمثل بشكل مؤكّد ولو نظريّاً. ولهذا كان لا بدّ له من إعادة النظر في جمهوريته وآرائه كلمّا تعمّقت تجاربّه، وتغيّرت مفاهيمه الفكريّة. وهذا ما لاحظه محقّق نص "التِيْمئس" المترجم للعربيّة بعنوان "طيماوس" الأستاذ "ألبير ريفو" من أكاديميّة الفلسفة بباريس.
فقال "في الفن الأفلاطوني، مهما بلغ من دقّة المنهج وعمق التفكير، قسط لا يجبر من الحريّة والارتجال، يفوت دوماً حكم العلماء المنقبين وحكمهم بالطبع محدود. ومع ذلك، فلا يقدر المرء أن يمتنع عن إبداء هذه الملاحظة: يُستغرب أن يكون أفلاطون قد وصف نظام الدولة المثلى، على أوجه تختلف ذلك الاختلاف كلّه؟ فالجمهورية والشرائع واكْرِتيسَّ ومقاطع من السياسي تعرض لنا ضروباً متباينة من المثال الأفلاطوني. وهذا التباين بالذات نلفيه بين علم التيمئس الطبيعي ونفس العلم في الباب العاشر من كتاب الشرائع. ألا يعني ذلك أنّه يستحيل في نظر أفلاطون أن يخط للدولة الكاملة مخطّط لا يتغيّر "طيماوس -25). سيحاول "سُوزمل" في معرض دفاعه عن أفلاطون أن يفسّر تناقضاته بشكل يزيل هذا الاتّهام أو يبرره "لقد فرض سوزمل بهذا الشأن فرضيّة خياليّة لبقة، وادّعى أنّ الدولة المثلى التي يبغي أفلاطون الكتابة عنها، يستطيع المرء أن يتصوّرها في شكلين أو حالتين مختلفتين، في الماضي وفي المستقبل. فاكرِتيّس يعنى بوصف النموذج المستمد من الماضي. وهرمكراتس يكلّف بوصف دولة المستقبل المثلى. إلاّ أنّ سوزميل يعمد إلى برهانٍ دقَّة النظر فيه تفوق قوّة الحجّة. ففي زعم أفلاطون يتم تطوّر الكون خلال حقب، قوام كل منها عشرة آلاف سنة. والحال إنّ تسعة آلاف عام قد انصرمت منذ بدء العالم، حسب معطيات التيمِئس واكْرتيسَّ، ألا يعني أفلاطون إذا أنّنا نقارب من نهاية الحقبة الأولى من حياة الكون، وأنّ طوراً جديداً على وشك أن يبدأ قريباً؟. لقد رذل اشتينهرت صنوف التحايل هذه المفرطة اللباقة. ولكنّه لم يفعل إلا ليعرض تحايلاً آخر غير مقبول كسواه "(طيماوس -24). لقد فشل التبرير، وظلّت تناقضات أفلاطون قائمة في أذهان النقّاد بالاستناد إلى نصوصه التي لا يمكن أن تفهم أسبابها إلا بردّها إلى العقل الذي يخطئ ويصيب مهما بلغ من الكمال، وليس إلى الروح التي لا تخطئ، لأنّ علمها من مصدر إلهي. لقد حاول أفلاطون أن يعطي للفيلسوف صفة لم يملكها، أي القدرة على المعرفة بالروح. ولهذا مجّد الفلسفة والفلاسفة ومنحهم أرفع المناصب لاعتقاده أنّ عقل الفيلسوف لا يخرج من عالم النور إلى الظلمة، أي لا يخطئ، وإن أخطأ فلديه القدرة على التصحيح "فالحكماء الذين يهذّبهم في جمهوريّته، يشبون ولا ريب حكماء، وعليهم أن يستمدّوا حكمتهم وسعادتهم على السواء، من تأمّل الخير الأسمى. هذا، ولن يبلغوا ذاك التأمّل وتلك المعاينة السعيدة، إلاّ في نهاية مطاف طويل، محطّاته هي بالضبط، درجات الرياضات المتعاقبة، واكتماله هو علم الجدل أي الديالكتيك ولكن هل يطوف بهم هذا المطاف، ليتلبّثوا فيه إلى ما لا نهاية؟، كلا، عليهم أن يهبطوا مسرعين إلى "المغارة" وماذا يعملون فيها؟، سوف يألفون "النظر إلى الظلال القائمة، لأنّهم بعد استئناسهم بالعتمة، سيرون أفضل من الآخرين بألف مرّة، ويتبيّنون كلّ صورة وما تمثّله. إذ سبق لهم أن رأوا مُثل الجمال والعدل والخير والحقيقة. والآن ما هي العمليات التي يدأب أهل الكهف على القيام بها + إشارة إلى أهل الكهف في الجمهوريّة + وهذه العمليات ينجزها الفيلسوف بادئ بدء إنجازاً سيئاً جداً، إذ لا تزال عيناه مليئتين بضياء الشمس العقليّة الساطع. ولكن عندما تعتادان وتألفان العتمة، فهو عندئذ يتقنها خير إتقان ويبذّ فيها الجميع... وهل هذا إلا علم الطبيعة بالضبط، الطبيعة الكونيّة أو الطبيعة البشريّة؟ وهذا العلم ليس بالعلم الحصري. وما هو، في أدنى درجاته حسب حوار غُرغيس، سوى "ذاكرة واقعيّة لما يحدث عادة". وليس في أعلى درجاته حسب الفيلفس حوارنا هذا، ولن يكون حسب التيمئس سوى ظن ومحاكاة للحقيقة" (الفيلفس ـ 108). لا شكّ أن أفلاطون قد دقَّ أبواب الروح كأستاذه سقراط، وفُتحت أمامه إلى حدّ ما، ووصفه لإنجاز الفيلسوف السيئ في البداية لأنَّ "عينيه مليئتان بضياء الشمس العقلية الساطع"، أي لاعتماده على المعرفة العقلية، يدل على تمييزه وإدراكه للفرق بين عالم العقل وعالم الروح كمصدر للمعلومات. ولهذا مجدّ الفلسفة بالقياس إلى عصره، حيث لا توجد شرعية إلهية موثوقة يمكن قبولها عقلياً، فاجتهد على قدر طاقته ليصيغ من العقل والروح جمهوريته التي ظلّت ناقصة، وظلّ يعدلّ فيها، لأنّ الجانب العقلي فيها لم يسمح لها بالاكتمال. لقد كان أفلاطون بالقياس إلى عصره يعرف أكثر من كلِّ الفلاسفة، ومن الجمهور، ولهذا عانى ما عاناه من المعارضة، ومن السخريّة، ومن الإحساس بالغربة بين قوم لا يفهمونه. وكما قال أوغست دييس "أفلاطون يلفت نظرنا إلى ذلك، بقوله: ـ لا نعجبنّ من أن الحكيم الذي ينتقل من التأمل إلى إسفاف وقائع الحياة، يبدو مُغفّلاً خليقاً بالهزء، حينما لا تنفكّ عيناه في انبهار ولم تألفا العتمة بعد، ويضطر وهو على هذه الحال، في المحاكم أو في مقام آخر، أن يصارع ظلال العدل، وأشباحاً يبتدعونها، وأُناساً يشرحونها، وهم لم يروا قط العدل بالذات ـ فتلك هي الفترة الزمنية، وتلك هي الحالة، وقد عزلها استطراد الثئيتتُس، وحباها إنْ صحّ تعبيرنا بنفحة الأزليّة، وأشاد بها ومجدّها، غير أنّ الثئيتتس إذ يمجِّد فيلسوفه على هذا الوجه في نفوره من عصره، يطبق في فعله هذا مبدأ الجمهورية القائل: "هناك ضربان من المكفوفين: مكفوفون لعبورهم من الظلمات إلى النور، ومكفوفون لعبورهم من النور إلى الظلمات. فهؤلاء دون أولئك، هم المستحقون امتداح حالهم وإطراء حياتهم" (الفيلفس ـ 109) سيعلق أوغست دييس على تناقضات أفلاطون وطموحاته بقوله: "إنّ أفلاطون فنان، وإنه رسول أيضاً" (الفيلفس ـ 110).
وسوف نفقد باستمرار عند أفلاطون كما عند الحلاج الشاعر طموح الرسول كلّما التقينا بالفنان، والعكس صحيح. ومن هذا التأرجح بين الفن والرسالة، وقع أفلاطون في كثير من الأخطاء لحساب الفن الساحر، الذي لم يتح لصاحبه رؤية ظلال الحقيقة دائماً، وكانت نزعته العقلية الغالبة قد أغلقت عليه بشمسها الساطعة الجزء الأهم من بوّابات عالم الروح، وإن تمكّن من ولوج بعض أبوابها، وقطع مسافة في عالم النبوّة بفهمه لحقيقة الرؤيا، حيث قال عنها "إنّي أتصوّر أنّ الإنسان حين تكون عاداته صحيحة عفيفة، وقبلما يذهب للنوم، يثير قسمه العقلي، ويغذّيه بالأبحاث الجميلة السامية، وبالتأمّلات الداخليّة... فيواصل هذا دروسه مستقلاً نقيّاً. ويغذّ السير إلى الأمام حتى يفهم ما لا يزال غير مفهوم، إمّا عن الحاضر أو المستقبل.