إن دعاوي " نهاية المثقف "، في اطار ما يعرف بخطاب النهايات، لم تفعل سوى أن أكدت، ربما بقوة، على ضرورة الثقافة والمثقفين، ويكمن مصدر هذه الضرورة في ارتباط الثقافة بالهوية خاصة في الثقافات "المغلومة" "والمهددة " مثلما نجد في العالم العربي والإسلامي. وتتأكد مشكلة الهوية، وبشكل جلي، على صعيد العودة إلى التراث الذي يعد "قضية القضايا"، ويشرح ادوار سعيد في كتابه "الثقافة والامبريالية "ان الثقافة "مصدر" من مصادر الهوية "، اضافة الى انها "مصدر صدامي " كذلك. وهو (أي ادوار سعي) يستخلص هذا المعنى " للثقافة " من حالات "الرجوع " الى الثقافة( ذاتها) والتراث(1).
ومن هنا فإن التراث لا يمثل حافزا من ناحية نسقه النظري الخالص أو مجاله التاريخي المحدود. هناك الفكر العربي،"إشكالاته المتعددة " و"ايديولوجيته المعاصرة " و" نزعاته المادية " و"ثابته ومتحوله " و"وثورته وعقيدته "... الخ، بكلام أخر: هناك الحاضر الذي يلون قراءة التراث أو المجال التراثي المشروط بمقتضياته التداولية الأساسية. الحاضر الذي يؤثر في علاقات القناص الموجبة التي تصل ما بين الماضي والحاضر، أو ما بين تاريخية القارئ وتاريخية المقروء. ثم إن هذا الحاضر. أو "تحدياته "، هو الذي يجعل العودة إلى التراث ذات "معنى ومعنى درامي" كما يقول محمد عابد الجابري أحد أبرز المشتغلين على التراث (2). وفي هذا المنظور فان ما أبدع رجالات التراث، دون أن نغفل ما تعرضوا له من قمع واضطهاد، هو ما عجزنا عن الإتيان بمثله في وقتنا الحاضر الذي اشتد فيه "استئسار الإبداع " و"تحقير العقل "، ومن هنا يمكن أن نفهم تضارب المواقف والنتائج على مستوى قراءة التراث، وعلى مستوى مكانته ذاتها ضمن لائحة القضايا التي تستأثر بالفكر العربي المعاصر. وفي جميع الحالات فإن الموقف الذي يدعو إلى "القطيعة " مع التراث بدعوى "التاريخانية " أحيانا والاندماج في العصر وحركته التقدمية أحيانا أخرى. يظل وعلى أهميته، "ضئيل " التأثير مقارنة بدعاوي العودة للتراث من أجل "تمثل " أفكاره التي نعتقد أنها "تجيب " على أسئلة الهوية / الحاضر. من الجلي إذن أن التراث ليس مشكلا نظريا أو معرفيا. وإنما هو مشكل معقد تتداخل فيه عوامل عديدة مما يجعل من القراءة فعلا تأويليا مركبا دون أن نغفل هنا مدى "التباس " هذا الفعل بالأطر الثقافية والتاريخية لدارسي التراث. بالإضافة الى المتغيرات العالمية التي تتخل بدورها في توجيه القراءة، قراءة التراث التي تعنينا هنا.
ولا بأس من الإشارة إلى خطاب "ما بعد الحداثة " وسعيا، في إطار العولمة وما ينجم عن الياتها من تبعثر، إلى ضرب فكرة " التمثل " من أساسها، وذلك بالتركيز على فكرة الكشف عن المتناقضات وزرع الشك، إن التمثل عنصر أساس، إضافة إلى انه قرين مشكلة الهوية التي سلفت الإشارة اليها، عنصر يشكل دعامة الفكر القرائي للتراث وفي ضوء فكرة التمثل يمكن أن نفهم لماذا يتم التركيز في التراث طبعا، على جانب دون سواه، وعلى شخصية دون سواها من الشخصيات الأخرى. وكل ذلك في إطارهن البحث عن " النماذج " التي تختلف من دارس لأخر حسب موقف كل دارس من التراث. وحسب " الوعي القرائي" la coscience Listante)) إذا جازت عبارة فانس جورج جادا مر - H.G Gadamer الذي يسند هذا الموقف.
في هذا السياق يمكن أن نفهم التركيز الذي حصل على ابن خلدون في فترة السبعينات - من هذا القرن - لدرجة أن هناك من اعتبر ذاك العقد بأنه عقد ابن خلدون والخلد ونية. ومن المؤكد انا تحكمت عوامل كثيرة في قراءة ابن خلدون وقتذاك، ويمكن كخيمها في طبيعة "المناخ السائد" الذي كان يحفز على تتبع "تصورات " صاحب "المقدمة "حول "الواقع " و" الثورة " و" الدولة " و" تكوين المجتمع " و" مناط السلطة "... الخ. ولما نقول بأن عقد السبعينات كان عقد ابن خلدون فهذا لا يعني أن قراءة التراث الخلدوني قد توقفت نهائيا. فهذه القراءة لا تزال متواصلة وقد تأثرت بمتغيرات الحاضر وأسئلته المغايرة بدءا من " الإحكام النظري الهائل "، في مجال العلوم الإنسانية ومعطى "الأصولية الإسلامية " في الثقافة العربية المعاصرة. وأما عقد التسعينات فقد شهد عودة لافتة لابن رشد (1126- 1198) وبلغت العودة ذررتها مع الذكرى المئوية الثامنة لوفاة فيلسوف قرطبة التي تم إحياؤها خلال العام 1998. وهي السنة التي شهدت أيضا اعادة تحقيق الكتب الأساسية لابن رشد. وأشرف على المشروع، وفي إطار مركز دراسات الوحدة العربية، المفكر المغربي محمد عابد الجابري ومثل هذا المشروع (الكبير) يعبر عن طموح إعادة قراءة نصوص فيلسوف قرطبة، وفي الواقع فان الاهتمام بخطاب ابن رشد لا يعود إلى عقد التسعينات ذاته أو الذكرى المئوية الثامنة لوفاة صاحبه. وإنما يعود إلى الأفق الرشدي ذاته... إضافة إلى أنه اهتمام ضارب الجذور سواء في الثقافة العربية أو الثقافة الغربية، وذلك من خلال ما يعرف بالرشدية اللاتينية. لقد أثار فيلسوف قرطبة إشكاليات كبرى مثل إشكاليات العقل والدين،الخاصة والعامة، السلطة الثقافية والسلطة السياسية... الخ، ولا تزال هذه الإشكاليات مطروحة بإلحاح على ثقافتنا المعاصرة، وكأن ابن رشد عاش - على مستوى الزمان الفلسفي- قبلنا بثمانية عقود. إنه كان يعبر وقتذاك عن "الحداثا المستحيلة " كما يقول ألان دي ليبيرا A..DELIBERA) ) والتي يظهر أن المجتمعات الإسلامية المعاصرة بعيدة عن أطروحاتهخا (4)، من هنا منشأ الاهتمام المتزايد بخطاب ابن رشد.
ويرجع هذا الاهتمام بابن رشد إلى مكانته الخاصة، إذ أن هناك من يرى بأن موته كان علامة على موت التفكير الفلسفي عند المسلمين.. فهو "آخر الفلاسفة العرب " و"الشعاع الأخير"، ولذلك هل نحكم عليه بأنه ينتمي "كليا للتاريخ " مع محمد اركون حين يقول: "ويبدو لنا (أي ابن رشد) كمفكر منغلق داخل حدود المعقولية القروسطية أو العقلانية القروسطية، بمعنى أخر: فانه قد أصبح الأن ينتمي كليا للتاريخ. وبالتالي فلم يعد ممكنا "استخدامه " اليوم من أجل حل المشاكل والتحديات التي تواجهنا. فعقلانيته لم تعد عقلانيتنا. هذا على الرغم من انه كان يمثل العقلانية والحداثة في زمنه وبالنسبة لعصره "(5). أم نردد مع علي حرب، حول الفكرة نفسها، في دراسة له حول محمد أر كون، قوله: "نعم نحن نفكر، اليوم بصورة مغايرة لتفكير القداس من يرنان وعرب. ولكن لا يمكن لنا أن نفكر من دونهم، حتى ولو مارسنا التفكير ضدهم "(6)، وفي هذا المنظور فإن ابن رشد "لم يمت "،ثم ان فكره يمكن أن يدرس باعتباره "فلسفة " ولا يبقى حكرا على "تاريخ الفلسفة "(7)، وهنا يمكن أن نطرح السؤال الأساس الذي صاغه ألان دي ليبيرا: "كيف يمكن لنا أن نكون رشديين ؟"(8). ومعنى ذلك ان الدارس العربي، سواء لخطاب ابن رشد أو غيره، لا يهمه أن يطرح السؤال حول ما اذا كانت لدينا فلسفة في العصور الوسطى، ومدى إسهامها في تاريخ الفلسفة. ثمة - كما أشرنا من قبل - الحاضر الذي يفرض عليه العودة إلى التراث بحثا عن الاستعارات المعرفية وعن "الإجابات " على بعض الأسئلة الكبرى التي تعصف بالثقافة العربية المعاصرة. ولذلك فإنه حتى محمد أر كون لا يسلم من تأثير الحاضر حين يتعلق الأمر"المؤمنين التقليديين " كما يسميهم تارة أو "الحركيين الأصوليين " تارة أخرى. وهنا يظهر له ابن رشد "دليلا كبيرا"، بلغته – و" شخصية إسلامية كبيرة " للاستماع إلى هؤلاء ومحاورتهم (9). وفي السياق نفسه يمكن أن نفهم "تحديده " للدور الذي يرسمه لابن رشد (والفلاسفة العرب الآخرين) والمتمثل في الحث على المزيد من التسامح والصرامة الفكرية والانفتاح الثقافي، وذلك من أجل دحض ما يسميه أر كون نفسه "الصورة السلبية والعنجهية " التي يشكلها الإنسان الأوروبي (أو الغربي) عن الإسلام والثقافة العربية (10) والا يحق لنا أن نتساءل هنا: كيف يمكن لابن رشد أن ينتمي "كليا للتاريخ "؟
وفي الواقع فان العودة إلى ابن رشد لم تتوقف منذ أن نشر المستشرق ارنست رينان كتابه حول " ابن رشد والرشدية " العام 1852 والذي نقله عادل زعيتر إلى العربية بالقاهرة عام 1957. وكما أن هذه العودة لم تتوقف داخل الثقافة العربية منذ ما يقرب من مائة عام. وإذا كان فرح أنطون قد ألف كتابا حول "ابن رشد وفلسفته " عام 1903 مستهلا إياه قائلا: "لا نعلم كيف يستقبل أبناء العصر هذا الكتاب في هذا الزمان "(11) فإن مثل هذا السؤال، على ما كان يخفيه من خوف واحترامي. لم نعد نسمع به اليوم. لقد اتسعت دائرة قراءة ابن رشد بوتائر منهجية متسارعة وخلفيات مختلفة (علمانية، ليبرالية، سلفية، وماركسية...)، أصبح معها فيلسوف ترطبة يمثل "حالة هرمينوطيقية " تسمح لنا بطرح أكثرهن سؤال حول مشكلة القراءة ومقولاتها ومنطقاتها. وفي ضوء هذه الدائرة تتكرر أسئلة كثيرة حول "ابن رشد اليوم ؟" و" ماذا بقي من فلسفته ؟" و" كيف فهم من طرف هذا المفكر أو ذاك ؟"... وفي هذا الصدد تتضارب القراءات وعلى نحو يمكن الحديث معه عن "صراع التأويلات " أخذا بأحد عناوين دراسات بول ويكور، وعلى نحو يغدو معه كذلك ابن رشد فيلسوفا لا يضاهيه أي فيلسوف - على أرض الإسلام - من ناحية ما تعرض له من سوء فهم وافتراء كما يقول ألان دي ليبيرا.(12)
وحتى نستجلي بعض علامات هذه "الحالة الهرمينوطيقية" فإننا آثرنا الوقوف عند بعض القراءات التي عنيت بفلسفة ابن رشد في النصف الثاني من عقد التسعينات، وقبل ذلك لا بأس من الإشارة إلى ثراء الخطاب الرشدي وتنو محه، وهو تنوع يخفي وحدة معينة، ويمكن الاستئناس هنا بما كان الراحل جمال الدين العلوي قد سماه، في مقدمة كتابه "المتن الرشدي". "النظرة الأفقية الكلية " تجاه التراث الرشدي. ومثل هذه النظرة، كما يشرح صاحب الكتاب، تنتقل بدارس تراث ابن رشد من التعاليم والمنطق وصناعة الطب، إلى العلم الطبيعي والفلسفة الأولى، ومن الأخلاق والسياسة إلى الفقه والأحوال والأصول والكلام. وكما ان المتن الرشدي تتوزعه صور متنوعة أو أشكال متعددة في التأليف. تتراوح بين المختصرات، والجوامع، والتلاخيص والشروح، والتعاليق، والمقالات، والمؤلفات الموضوعة. بالإضافة إلى تنبيه صاحب الكتاب إلى ان ابن رشد لم يقتصر على النظر في الإرث الفلسفي لأرسطو فحسب، بل أقدم أيضا على شرح وتلخيص وانتصار مؤلفات علماء وفلاسفة اخرمن إسلاميين، وغير إسلاميين، أمثال افلاطون، وبطليموس واقليديس، والاسكندر، وجلينوس، وفورفوريوسر، وابي نصر الفار ابي، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد الجد، وابن توعرت، وابن بدجة.(13) من الجلي إذن أن المتن الرشدي غني ومتداخل، ويهمنا هنا أن نكتفي بفهم بعض الدارسين المقاربة لفلسفة ابن رشد، وبالتالي النموذج الذي يستخلصونه من فلسفته، ويظهر أن هناك اختلافا جليا بين المقاربة والمشارقة على مستوى قراءة ابن رشد. فالمشارقة (المصريون) يستندون في قراءاتهم لابن رشد على مطلب التنوير. إن ما يركزون عليه لا يفارق التأكيد على "الاستنارة " و" أنوار العقل " أو "الاستنارة العقلية ". وهم بتركيزهم على التنوير، في منحاه العام، يحاولون الرد على "الأصولية الإسلامية " التي أصبحت "واقعا ثقافيا وتاريخيا"، مما فرض على المثقف أن يعيد النظر في خطابه سواء الخل الجامعة أو خارجها، والتنوير، كما يعبر عن ذلك جابر عصفور، تلميذ طه حسين وأحد أكبر المدافعين عن راية التنوير في مصر، هو من أجل التصدي "للمفكراتية " و" رمال الإظلام الكثيف "(14)... وهؤلاء وهم يدافعون عن التنوير، يعلقون أمالا عريضة على الدولة وإن كان البعض يشترط فيها أن تكون "مدنية "، وفي جميع الأحوال فإن هذا موضوع طويل، ويهمنا أن نشير إلى أن هذا التنوير هو ما يعيد بعض المفكرين المقاربة النظر فيه، إن التنوير تعرض، ويتعرض، لانتقادات كثيرة في إطار ما يعرف بـ "دما بعد الحداثة "، وينتقد من الأساسي الذي قام عليه وهو العقل (15)، إن مشكلة الدولة أو "ألة الدولة " أو علاقة المثقف بالسلطة، لا تزال مطروحة بقوة على المثقفين المقاربة، ولا تزال هذه المشكلة توجه العديد من الكتابات والدراسات، ثم ان المثقف المغربي ظل دائما محسوبا عل المعارضة، ومن هنا يمكن أن نبحث، في نظري، عن تفسير لتركيز بعض الدارسين المقاربة على جانب المثقف في خطاب ابن رشد، ويمكن أن نؤول أيضا بأن هذا الموضوع يعبر عن بعض وجمره السؤال الملح حول المثقف المغربي من ناحية علاقته بالسلطة بشكل عام. إضافة إلى أن معالجة مثل هذا الموضوع قد تتلبس بعض أشكال "الإنسداد السياسي" الذي نعيشه في المغرب "الراهن ". وموضوع المثقف يكتسي أهمية بالغة، يقول الباحث السوسيولوجي الطاهر لبيب في هذا الصدد: "والأعمال الكبيرة الني أنجزت حول تكوين العقل العربي أو المفكر العربي يجب الا تفهم على أنها أعمال حول تكوين المثقف العربي، المثقف ككائن اجتماعي غائب أو مطرود منها لأن حضوره ليس من صلب اهتمامها".(16) ولذلك فان أطروحة المثقف في علاقته بالدولة، تعفينا من تلك النظرة المبسطة لـ "نكبة " ابن رشد. النظرة التي تنصرف الى القول بأن فيلسوف قرطبة: "لم يكن شهيدا للفكر، بل عاش منعما في كنف السلطان باستثناء عشرين شهرا نفي فيها إلى "أليسانة " حين غضب السلطان عليه، لكنه عاد بعدها قاضيا ومقربا من بلاط الحكام على نقيض المفكرين الأخوين الذين تعرضوا للنفي معه (17) ونكبة المفكر، كما يقول أحد المتحدثين عن ابن رشد، ليست الدليل الأهم على عظمة فكره، ولكنها حتما الدليل القاطع على انحطاط الفكر وانتشار الغباء في المجتمع الذي يعيش فيه المفكر ويكتب (18). وفي الواقع فإن نكبة ابن رشد امتدت إلى عشرات سنوات كما يلاحظ المفكر المغربي محمد عابد الجابري.(9ا) وأطروحة المثقف تجعنا ننظر الى المشكل، بشكل أعمق، وعلى نحو يمس فلسفة ابن رشد والحاضر في أن. وهو ما يمكن أن نستخلصه من قراءة محمد عابد الجابري نفسه، وعلي أومليل وعبدالفتاح كيليطو كذلك. إلا أنه تجدر الإشارة إلى كتابات اخرى مغربية عنيت هي الأخرى بالخطاب الرشدي على نحو ما نجد عند الراحل جمال الدين العلماء في كتابه "المتن الرشدي" الذي سلفت الإشارة اليه. وبنسا لم حميش في دراسات متفرقة، ومحمد المصباحي الذي نشر مؤخرا "الوجه الحداثي لابن رشد" (1998) ومن قبل "إشكالية العقل عند ابن رشد"(1988)... خصوصا وان ابن رشد "شخصية ذات قيمة تداولية " بالنسبة للمغاربة كما يقول طه عبدالرحمن، ومصدر هذه القيمة ان هذه الشخصية ذات وجود تاريخي وفكري بالنسبة لهؤلاء.(20) ونحن عندما نقول بـ"القراءة المغربية " فإننا لا نسلم،"الفاصل المعلق " بين المشرق والمغرب، إلا أن هذا لا يمنع من الحديث عن "الخصوصية " التي تؤثر في القراءة ذاتها والخلفيات التي تسندها، فالكتاب الأخير. مثلا.حول "الوجع الحداثي لابن رشد" يسوغ فيه صاحبه تصورا للحداثة الفلسفية التي يقول انه يأخذها في معناها الحالي التنويري. ويضيف بأن هذه اللحظة الحالية من الحداثة تتميز بالمرونة والقابلية للاختلاف والتساكن مع التراث. ويعلق بأن "عقلانية " اليوم أضحت مرنة للغاية، ولم يعد للبرهان والعلية والضرورة والذاتية والعقل الواحد تلك القيمة التي كانت لها من قبل، فعصرنا الحالي-والقول دائما له هو أقرب ما يكون إلى الغزالي وابن سينا وابن عربي منه إلى ابن رشد، على أن أهم انجاز قام به ابن رشد، في نظره، هو ارساء العقل النظري في قلب الشريعة.(21) ويبقى أن نشير إلى أن بحث "الوجه الحداثي لابن رشاء" لا يشغل إلا حيزا صغيرا. ذاك أن الكتاب - وكما يقول صاحبه في نص المقدمة - يتضمن أبحاثا متباينة في بواعثها ومقاصدها، بالاضافة إلى أن القراءة، التي تنتظم الأبحاث، هي أقرب إلى القراءة "المحايثة " منها إلى القراءة "المحدثة " التي يغري بها العنوان، ولابد من التأكيد أيضا، وقبل الانتقال إلى قراءات هؤلاء، على أن ما سيهمنا هو قراءات هؤلاء ذاتها وليس نصوص ابن رشد، ولا أحد يشك، في وقتنا الحاضر، في أهمية الفكر القرائي صراع التأويلات، إن المشكل هو مشكل القراءة، مشكل: (كيف نقرأ التراث ؟) دون أن نفصل ذلك عن معرفة (ماذا نقرأ ؟) كما يقول التفكيكيون.
لنبدأ إذن من محمد عابد الجابري وقر ادته لنكبة ابن رشد، ووجا المثقف ضمن هذه النكبة، وللإشارة فهذا الأخير واحد من المفكرين الذين يؤكدون الإنتقال من الخلد ونية إلى الرشدية، لقد سبق له أن أنجز دراسة مستقلة حول "العصبية والدولة "(19) عند ابن خلدون، وكل هذا قبل أن يصبح اسمه مقرونا بمشروعه الكبير "نقد العقل العربي" الذي كرسه لدراسة تكوين العقل العربي ونظمه المعرفية ومستوياته السياسية، وهو في ثلاثة أجزاء وينتظر أن يصدر الجزء الرابع منه. ولقد فتح هذا المشروع نقاشات لم يفتحها أي مشروع درس التراث العربي. وتعرض صاحبه لانتقادات عنيفة في أحيان. وأحيان كثيرة، وسبب ذلك ان صاحبه دشن عهدا قرائيا جديدا صدم الحساسية الثقافية السائدة خاصة تلك التي "تؤدلج " التراث. ومن بين الانتقادات التي وجهت له انا لم يدرس موضوع المثقف ضمن تكوين العقل العربي، وهو ما سيلتفت اليه في كتابه "المثقفون في الحضارة العربية "(1995) الذي يدرس فيه محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، وهذا الكتاب في نظري من أهم الكتب التي نشرها مفكرنا بعد "العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته "(1990) (نقد العقل العربي.ج3) وهو، في هذا الكتاب يعرض لأطروحة المثقف الذي سيصطدم بالة الدولة. غير أن ما تجدر الإشارة اليه هنا هو أن صاحب "نحن والتراث " لن يلتفت إلى موضوع المثقف بسبب هذا الانتقاد أو غيره. فهو مفكر نسقي، ولا يمكن أن نفصل بين دراساته، ان خطابه موحد، وان كنا لا نعدم بعض العلامات الدالة على تطوره، وفي هذا السياق يمكن أن نفهم ربط البعض بين هذا الكتاب والجزء الثالث من "نقد العقل العربي" أي "العقل السياسي العربي "حتى وإن كانت هذه العلاقة لا تقدم نفسها بشكل مباشر، ويمكن الربط بينهما من ناحية إحدى الخلاصات التي توصل اليها مفكرنا في الكتاب الثاني حين يقول: "إن المسألة بالنسبة الينا تتلخص في القضية التالية: كل كتابة في السياسة هي كتابة سياسية متحيزة، ونحن متحيزون للديمقراطية والتحيز للديمقراطية في الدراسات التراثية يمكن أن يتخذ أحدى سبيلين: إما ابراز "الوجوه المشوقة " والتنويه بها والعمل على تلميعها بمختلف الوسائل.. وإما تعرية الاستبداد بالكشف عن مرتكزاته الايديولوجية (الاجتماعية واللاهوتية والفلسفية). وقد اخترنا هذه السبل 0الأخيرة لأنها أكثر جدوى. إن الوعي بضرورة الديمقراطية يجب أن يمر عبر الوعي بأصول الاستبداد ومرتكزاته..."(22) ويضيف محمد عابد الجابري أن "تعرية أصول الاستبداد ومرتكزاته " يندرج ضمن مشروعه العام "نقد العقل العربي" (23)، بالإضافة إلى أن مفكرنا يشير في نص مقدمة "المثقفون في الحضارة العربية "، الى الاستراتيجية العامة التي تحركه، وينعتها بدد استراتيجية التجديد من الداخل " (تجديد ثقافتنا من الداخل ".(24)
يعتمد فحمد عابد الجابري مقولة "المثقف "، ويدافع بها عن أطروحة كتابه المشار اليه قبل قليل، وعلى هذا المستوى فهو ليس من الذين يتركون البياضات، فقد نتفق معه أو نختلف. خاصة من حيث النتائج، إلا أنا لا يمكن أحضر دراساته، فهي تظل متماسكة من ناحية المنهج، وهو يعبر، في نص المقدمة، عن "شعوره بالفراغ " حينما بدأ يفكر في موضوع: المثقفون في الحضارة العربية، ومصدر هذا الشعور، في نظره دائما، أن العبارة لم تجد في ذهنه مرجعية ترتبط بها، فهي مهزوزة ولا سند لها، ولذلك فهو يتصور أن المسألة تستلزم بناء مرجعية لمفهوم المثقف في الثقافة العربية.(25) والمرجعية في تصوره قرينة مطلب التبينة: تبينة مقولة المثقف التي هي مقولة عصرية حداثية، وفي الواقع فإننا لا نجد هذه المقولة في تراثنا، وانما نجد ما يوازيها أو يعبر عنها من تسميات مثل "الأديب " و"الفقيه " و" حامل القلم "... وإذا كانت مقولة "المثقف " تقودنا إلى كتابات انطونيو جرامشي (1891-1937) التي مال اليها المثقفون العرب بعد هزيمة العام السابع والستين (26)، فإن محمد عابد الجابري يتحفظ في هذا الصدد. إذ يقول: "إن وجهة نظر جرا مشي جديرة بالاعتبار فهي أراء تجديدية في النسق الماركسي نفسه، وأهم من ذلك أنها مهمة، ولكنها مع ذلك محكومة بالنسق الذي تنتمي اليه وبالتالي تفرض على الباحث توصيفات معينة وتمارس عليه نوعا من الهيمنة تجبره على الاتجاه بالبحث الوجهة التي تخدم النسق الذي تشكل هي جزءا منه، وذلك على حساب الرؤيا الحرة للواقع كما هو"( 27) ويضيف بأن فهم جرامشي للمثقف يجعلنا "ننخرط في عملية هي أقرب إلى تفسير التاريخ العربي الإسلامي منها إلى البحث عن طريقة لتوظيف مقولة " المثقفين ". بحمولتها المعاصرة > في التماس نوع من الرؤيا أوضح للحياة الثقافية في هذه الحضارة (28) وفي الواقع فإن تصورات جرا مشي هي ذات بعد " إيمائي". مثلما أنها- في جانب منها- ذات صلة بإيطاليا مثل دراسته حول " المسألة الجنوبية " التي يعتبرها ادوارد سعيد أهم دراسات انطونيو جرامشي. لكن في مقابل ذلك يعتمد محمد عابد الجابري دراسة جاك لو كوف " المثقفون في العصر الوسيط" الصادرة في الخمسينات، ثم دراسة ألان دي ليبيوا " التفكير في العصر الوسيط ". وللإشارة فهذا الأخير، وقد سلفت الإشارة اليه من قبل، يعد من أبرز المشتغلين على الفلسفة في العصر الوسيط خصوصا وأن هذا العصر لا يرتبط - في نظره - بالزمان المسيحي والزمان اليهودي فحسب، وانما بالزمان الإسلامي أيضا، لقد حاول - كما قيل عنه - إزاحة ستار النسيان عن الدور الحاسم الذي لعبه الإرث الفكري العربي الإسلامي، خصوصا الرشدية بكل تياراتها اللاتينية واليهودية.(29)
وعملية الأخذ بالمقولات تبدو (مبررة)،وهي التي تمنح القراءة طابع " الإحكام النظري " مثلما تجعلها قرينة الانتاج المعرفي والضبط المفهومي. ثم إن الفلسفة لم تعد "تأملا" كما كان يقال. وإنما صارت خلقا للمفاهيم، ومن المؤكد أن مثل هذا السؤال الكبير المطروح على الفكر الفلسفي العربي المعاصر. هو ما يجعلنا نسأل حول الغاية من التبينة التي أشار اليها محمد عابد الجابري، وقبل ذلك تجدر الإشارة إلى الأطروحة الأساسية في الدراسة. ويمكن كخيمها في مناط "السياسة " التي يعرض في ضوئها صاحب الدراسة لمفهوم المثقف في التراث. يقول في هذا الصدد: "وإذا نحن رجعنا إلى تاريخ محن العلماء في الإسلام، فإننا سنجدها ذات أسباب سياسية، وفي الأغلب الأعم منها، فليس هناك في الإسلام من العلماء من تعرض للاضطهاد والمحنة من طرف الحكام من دون أن يكون لذلك سبب سياسي ".(30) وأما بالنسبة لنكبة ابن رشد، فهو يقول: "إن سبب النكبة لا يمكن أن يكون إلا سياسيا ".(31) والنص السياسي الوحيد لابن رشد هو "جوامع سياسة أفلاطون "، أما كتاب "السياسة " لأرسطو فلم يستطع ابن رشد الحصول على ترجمته العربية التي تمت في المشرق، ويضيف محمد عابد الجابري: ان فيلسوف فرطبة لم يلجأ إلى شرح جمهورية افلاطون إلا بعد أن يئس من الحصول على كتاب "السياسة " لأرسطو. ويضيف في موقع أخر أن المشروع الفلسفي لابن رشد كان يتحرك في النطاق الأوسطي وحده، معتبرا ما قبل أرسطو مرحلة "ما قبل العلم " لكون الفلسفة والعلم فيها لم يكونا يعتمدان اليقين والبرهان بل مجرد الرأي الذي يعتمد الجدل في الغالب ".(32) و" المسألة المنهجية "، حسب محمد عابد الجابري، التي واجهت فيلسوف قرطبة هي تحويل نص افلاطون من محاورة تعتمد الجدل الى نص يعتمد التحليل والتركيب، وأيضا التخلي عما لا يدخل في قول العلم، كالحكايات الاسطورية وما شابه. وهذا ما جعل كتاب جوامع سياسة أفلاطون، في نظر محمد عابد الجابري دائما، أحسن كتاب في السياسة في الإسلام. وأعمق من الكتب الأخرى المؤلفة في الموضوع وأكثر منها التصاقا بالواقع العربي الإسلامي. ولا يستثني مفكرنا إلا مقدمة ابن خلدون التي تتجاوز السياسة إلى العمران البشري جملة. ومصدر هذه امكانة اللافتة (أي جوامع سياسة أفلاطون) لهذا الكتاب تكمن في طبيعة الشرح التي تنتظمه. إلا أن كلمة شرح ينبغي التركيز على مدلولها العميق،لأن الأمر يتعلق،"هيئة جديدة " لنص الجمهوية. "جوامع سياسة أفلاطون " ليس مجرد شرح أو تلخيص، انه بلغة الجابري دائما نص افلاطوني لكن أعيد بناؤه بطريقة حررته من القضايا الميتافيزيقية والأقاويل "غير العلمية ". فابن رشد لم يسجن نفسه في الإطار الذي تحرك فيه افلاطون، بل لقد تصرف كـ"شريك في انتاج النص ". سيصير النص الأفلاطوني وبعد "إهمال " المدخل والخاتمة وتعويضهما بأشياء من عند ابن رشد، نصا سياسيا محضا، ومتتم "تبيئته " في الحقل الثقافي الحضاري العربي الإسلامي. وفي هذا السياق يمكن أن نشير مع ماجد فخري في كتابه "ابن رشد فيلسوف قرطبة " إلى استهلال ابن رشد كتاب الجوامع بتعريف العلم السياسي (أو المدني لم وبيان صلته بالعلوم النظرية، على طريقة ارسطو لا على طريقة افلإطون.(33) وعلى مستوى أخر حذف ابن رشد منه ما حذف، وأضاف اليه ما أضاف من إشارات إلى وقائع وأحداث من تاريخ العالم العربي والإسلامي والأندلسي خاصة، ومثال محمد عابد الجابري على ذلك إشارة ابن رشد إلى ثورة قرطبة على المرابطين وقيام حكم جماعي فيها من كبار قضاة الفقهاء والأعيان. إضافة إلى أن نص ابن رشد ليست فيه أية إشارة أو عبارة فيها ثناء أو إشادة بالخليفة الموحدي وانجازاته، هذا هو السبب الأول في النكبة أما السبب الثاني فيستخلصا محمد عابد الجابري من علاقة ابن رشد بشخص يخاطبه في نص الإهداء ويرى (أي الجابري) انه هو يحيى أخو المنصور، والأكثر من ذلك يفترض أن هذا الأخير هو الذي طلب من ابن رشد تلخيص سياسة أفلاطون في اطار التمهيد لحركته.(34) وابن رشد بدوره كان ينشد الإصلاح في الحكم والسياسة كما نشده في مجال العقيدة الدينية والعلم والفلسفة ولذلك سيحاكم، وهو لم يحاكم ولم تصادر كتبه ولم تحرق بسبب "الدين " الذي اتخذه خصومة غطاء، ظلما وعدوانا، كما جرت بذلك عادة المستبدين وسدتنهم وإنما حوكم بسبب هذا الكتاب الذي أدان فيه الاستبداد بدون هوادة.(35) ومن هنا فإنه لا يمكن أن نقول إن نكبة ابن رشد تعود إلى "أسباب شخصية،" بينه وبين المنصور كما يتصور البعض (36). إن المسألة تتجاوز " الأسباب الشخصية ذاتها" ذلك ان الدولة دائما- كما يقول عبدالله العروي في مقدمة كتابه "مفهوم الدولة ". مجسدة في شخص أوفي أشخاص، فهي عرضة لأفات الحياة البشرية، وأي تساؤل عنها تساؤل عن مستقبلها وتطورها، أو لنقل - مع الجابري - إن هذه الأسباب كتبس بالإصلاح الذي نشده ابن رشد في مجال الحكم والسياسة كما نشده في مجال العقيدة الدينية والعلم والفلسفة.(37)، ومن هنا ستكون تلك "القطيعة " بين ابن رشد والفارابي التي يشرحها محمد عابد الجابري قائلا بأن فيسلون قرطبة قد قطع مع نوع "الكلام " الذي تكلما الفا رابي في السياسة والمدينة الفاضلة وليد شن خطابا جديدا في العلم المدني، يواجه السياسة بموقف سياسي صريح وشجاع.(38) وهنا يمكن القول مع الباحث عبدالسلام بن عبدالعالي. في كتابه "الفلسفة السياسية عند الفارابي"، بأن هذه الفلسفة (السياسية) لم تستطع أن تبدع نماذج أخلاقية نابهة من صميم الممارسة الاجتماعية كما كانت تتم داخل المجتمع الإسلامي(39). هذا بالإضافة إلى أن الفارابي أراد - كما يضيف عبدالسلام بن عبدالعالي- ان يستلهم الفلسفة الإغريقية، ويقرأها في ضوء ما يمليه عليه واقعه الإسلامي لكنه لم يقع على الروح الانتقادية عند أفلاطون، وإنما ظل سجين الروح التعليمية عند المعلم.(40)
من الجلي إذن أن "الظروف الإسلامية " كان لها تأثير واسع في عملية الشرح، إضافة إلى فكرة "فردانية الفلاسفة "، ويشرح عبدالله العروي هاتين الفكرتين قائلا: (ونستحضر نصه على طوله لأهميته): "ننتبه هنا إلى أن هذه النتيجة بالذات لم أي فردانية الفلاسفة) ليست هي التي وصل اليها فلاسفة اليونان الكبار، إذ لا وجود للفردانية في مدينة أفلاطون غير أن التطورات التي حصلت بعد قيام امبراطورية الأسكندر وانهيار الجمهوريات الإغريقية دفعت الناس إلى تأويل المذهب الأفلاطوني تأويلا فردانيا. والى اعتبار الجمهورية الأفلاطونية، لا كمخطط. إصلاحي لدولة فعلية، بل كأسطورة تعين الفرد على كمس طريق النجاة بنفسه ولنفسه، فتأثر الفلاسفة المسلمون بتلك التأويلات النيو أفلاطونية لأنها كانت توافق أحوالهم وظروفهم، يحق لنا أن نقول إن تأثير الظروف الإسلامية في فهم الفلسفة السياسية اليونانية كان أكبر من تأثير الفلسفة ذات الطابع اليوناني في إدراك الفلاسفة المسلمين الوضع المحيط بهم "(41) ثم إن فكرة الشرح كفيلة بأن تشرح لنا قلة المباحث السياسية في تراثنا مقارنة مع أبحاث أخرى مثل النفس والطب، وفي الواقع لا يزال هذا الوضع قائما في الوطن العربي، إذ لا فألف المراكز والمعاهد والمؤسسات ذات الصلة بالأبحاث السياسية التحليلية والاستراتيجية.
ويمكن أن نقول، في خلاصة قراءة محمد عابد الجابري لنكبة ابن رشد، إن مصدر هذه النكبة نصه السياسي الوحيد، ومعنى ذلك أن الثقافة بالنسبة للدولة أداة أثيرة للسيطرة والهيمنة، ولذلك لم يجد المثقف بدا من الخضوع لهذه اللعبة، فالأمر يتعلق إذن بإكراهات وإرغامات، وأما بالنسبة للغاية من التبينة فتتمثل في البحث عن النموذج والمثال، وفي هذا الصدد يمكن أن نرجع إلى خلاصة ما توصل اليه محمد عابد الجابري، وإن بخصوص محنة ابن حنبل، وذلك حين يقول: "ومازالت الوضعية في خطوطها العامة كما كانت بالأمس، لنختم إذن بالقول إن علاقة المثقفين بالسلطة بالأمس (معتزلة وأهل السنة) أشبه ما تكون بعلاقة المثقفين بالسلطة اليوم (سلفيين أصوليين وعصريين حداثيين). أما جوهر هذه العلاقة فهي بالأمس واليوم "التناوب " على خدمة سيطرة الدولة وهيمنتها"(42)، ولذلك أهم ما يبقى هو هذا الموقف، موقف المثقف الثابت الذي يمكن أن نفيد منا فيتدبر العلاقة مع السلطة التي تريد للمثقف أن يظل مجرد "بوق " لها.
أما القراءة الثانية التي تستوقفنا في إطار رصد مفهوم المثقف في خطاب ابن رشد، في الفكر الفلسفي المغربي المعاصر طبعا، هي الدراسة التي أنجزها الدكتور علي أومليل في كتابا "السلطة الثقافية والسلطة السياسية "(1996). وعلي أومليل مفكر معروف بدراساته الجادة ذات الصلة بالتراث وغير التراث. وهذه الدراسات، بأسئلتها النابهة، جعلته يحتل مكانة مهمة في خارطة الفكر العربي المعاصر، وللإشارة فهو بدوره مر من جسر الخلد ونية اذ سبق له أن أنجز دراسة حول "الخطاب التاريخي" عند ابن خلدون، غير أنه بدا- في هذه الأطروحة – "أكاديميا صرفا". بل إن ما سعى اليه - وبلغته - هو "تجنب الالتباس بين العصوروالأفكار"(43) "الخلط بين عصور التاريخ والنظم الثقافية المختلفة ".(44) وما يهما كذلك، كما ورد في نص المقدمة، هو "تحديد المجال التاريخي والثقافي الذي أنتج داخله الخطاب الخلدوني". ومعنى ذلك أنه كان يسعى على أن ينأى بقر ادته عن المقايسات والتماثلات التي لا تخرج عن دائرة تمجيد الذات أو التأكيد على السبق التاريخي وقداسة الماضي. إلا أن القراءة التي تنتظم دراسة "السلطة الثقافية والسلطة السياسية " تنحو منحى آخر كما سنلاحظ ذلك بعد قليل. ويبقى أن نشير هنا الى أنه إذا كان محمد عابد الجابري لا يشير في دراسته السالفة إلى أن قر ادته لا تعدو أن تكون مجرد تأويل، فإن علي أومليل يشير الى هذا التأويل مؤكدا أهميته في ذات الوقت، وهو يقول (أي علي أومليل) في مفتتح دراسة (مستقلة) له حول ابن رشد: "كثيرا ما اتخذ الذين يدرسون التراث طريقة في البحث لا تعدو أن تكون شرحا، أي أن يعمدوا إلى أراء هذا المفكر أو ذاك، يستعرضونها ويشرحونها شرحا لا يكاد يخرج عن أن ما قاله المفكر القديم، يعودون هم ليقو لوه بكلام آخر ولا تتغير سوى التعابير".(45)
وتتضمن دراسة "السلطة الثقافية والسلطة السياسية "، وهي التي تهمنا هنا، مجموعة من الدراسات المتفرقة، لكن ثمة ما يوحد بينها، وتجدر الإشارة إلى أن القراءة التي تنتظمها "نسقية ". وهي لا تحيد عن ثابت المثقف والسلطة، ثم إن أغلب هذه الدراسات تتمحور حول التراث. وأول ما يستوقفنا في هذا الصدد عنوان الدراسة "السلطة الثقافية والسلطة السياسية ". ولا نقف عند هذا العنوان من موقع نقدي أدبي فنقول بأنه يمثل "عتبة " أو يفتح "شهوة " القراءة، ان بيت القصيد هو "الواو" العاطفة التي تصل تركيبيا ودلاليا ما بين السلطتين، ولذلك: ما هي الدلالات التي تستغرقها هذه الوار؟ هل هي تفيد المعية ؟ أم الضدية ؟ أم ما بينهما؟. وفي ضوء الدراسة فإن الحالة الثانية هي الغالبة، إن المثقف يعاني مشكلة السلطة المتمثلة هنا بالة الدولة. فهو لا يقعده على إعلان موقفه بشكل مباشر، بل يبديه بشكل مداور كما في حالة ابن رشد كما سنلاحظ بعد قليل. وفي أحيان أخرى لا يعلنه نهائيا سواء بشكل مداور او مباشر، لكن مع ذلك تعصف به الة القمع وكوى به السلطة، وهو وان كان سياسيا مع اختيار الدولة. فإنه يريد أن يكون خارج ألتها تأكيدا لمبدأ " الاستقلالية " كما في حالة الجاحظ الذي أثر "احتراف الأدب " على "مزاولة الكتابة " في دواوين الحكام، وغاية القول هنا إن الواو العاطفة لا تفيد البتة انه ثمة حدود فاصلة بين الثقافة والسياسة ؟ لأن العلاقة بينهما ليست علاقه "حدود". وإنما هي علاقة "وجود". فالمثقف لا يمكن له أن يتخلص من السياسة،فهذه الأخيرة هي مثل الهواء الذي نتنفسه دون أن ندركه، والمثقف لا يعيش مفارقا للسلطة، فهي تحاصره وكون خطابه، وهو يتحرك على أرضها وفي حال عدم التوافق معها فإنه يسعى إلى تشكيل سلطة مضادة هي- في أخر المطاف - سلطة المثقف حين يحصر دوره في مزاولة النقد بدلا من المسايرة والاندماج. والسلطة هنا ليست بالمعني الفوكوي (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشال فوكو) الذي يقود إلى ميكرو فيزيائيات السلطة، واستراتيجيات الخطاب، وتد لخل المعرفة والحقيقة.. إن السلطة هنا "مشخصة "، إضافة إلى ذلك فهي مدعمة "أجهزة الدولة الايديولوجية " إذا جازت عبارة لويس ألتوسير. ولذلك لا يملك المثقف إلا أن يتكيف مع هذه السلطة خاصة حين تظهر "أنيابها" وتتفاوت هنا أساليب التكيف والمراوغة تبعا لتفاوت المثقفين في علاقاتهم مع الدولة.
وفي ضوء هذا التحديد يمكن أن نعرج على مفهوم المثقف في الدراسة، وقبل ذلك، وكما هو معروف، هناك ما يزيد على مائة وستين تعريفا للثقافة، وهناك أكثرهن زاوية يمكن الإستناد اليها في معالجة هذا المفهوم، وحتى ان كان علي أومليل يحترس بخصوص، مقولة المثقف، طالما انها مقولة حداثية معاصرة كما لاحظنا مع محمد عابد الجابري كذلك، فإنه لا يسلم منها كما سنلاحظ فيما بعد، ويبقى أن نشير إلى أن الأطروحة، وعلى نحو ما يبدو لنا، التي تحرك الدراسة هي اصطدام المثقف بالة الدولة، الدولة التي تتدخل بـ"عنف " من أجل تثبيت، ما يسميه علي أومليل في إطار الحديث عن محنة ابن حنبل، "الدولنة " العلم الشرعي وترسيم مؤسسة القضاء وفرض مذهب الدولة الكلامي(46) ويهمنا هنا فكرة " الدولتة " وغديتها المتمثلة بضبط المجتمع وتوجيه علاقاته، إضافة إلى أن عملية الدولتة هي قرينة سياسة الدولة بمخططاتها التي تريد أن تجعل من المثقف مجرد "وسيط " بينها وبين العامة التي شكلت مصدر خطورة مستمرة لها.
وتجدر الإشارة إلى أن علي أومليل يركد أهمية خطاب ابن رشد، وهو ما يتأكد من قوله بأن فيلسوف قرطبة رفض ما أنجزه فلاسفة الإسلام، وما أنجزه هؤلاء لم يكن في نظره (أي ابن رشد) سوى تحريف للفلسفة " الحقة ". أي فلسفة ارسطو الخالصة، فخلطوها بالأفلاطونية تارة، وبالشريعة تارة أخرى، في عملية تأويل وجمع مفتعلين. ويضيف علي أومليل أن الغاية من رفض ابن رشد القراءة الإسلامية الأرسطية كانت هي إنشاء خطاب خارج الخطاب الفلسفي الإسلامي المعهود. مثلما يضيف ان هدف مشروع شرح ابن رشد لأرسطو إنما هو " إعادة الهوية " إلى الفلسفة، أي إلى العلم الحق، القائم على منطق " البرهان " وليس على ظنيات خطابية (47) وإذ ا كان محمد عابد الجابري يستخلص الموقف السياسي لابن رشد من "شرحه " لنص "جمهورية أفلاطون " فإن علي أومليل لا يستخلصه من هز ا الشرح، فهذا الأخير يصنف كتب ابن رشد صنفين: 1 - كتب يشرح فيها أرسطو، وهي أقسام ثلاثة: الجوامع والتلاخيص والتفاسير. 2 - كتب نقدية يستعمل فيها كل المعارف المتضمنة في كتب الشروح، ويوجهها ضد طائفتين من المفكرين خاصة: الفلاسفة الإسلاميين، والمتكلمين، وكلا الصنفين من الكتب يهدفان - في نظره دائما- إلى إقرار مشروع محدد.(48) وعلى الرغم من تمييزه بين هذين الصنفين من الكتب فإنه يقر بتداخلهما على مستوى الهدف الذي يجعل منهما كلا موحدا في خطاب ابن رشد، ويخلص الإشكالية الرشدية في كونها تدور داخل الأمة. تنطلق من مشروع إصلاح، وفي حدود مفهوم الإصلاح كما يقرر داخل الفكر الديني الإسلامي.(49) فعلي أومليل لا يساير إذن تلك التصورات التي تقول إن أراء فيلسوف قرطبة ومواقفه جادت متضمنة في شروحاته فحسب، ويبقى أن نسأل: أين تكمن المواقف السياسية لابن رشد؟، يجيب علي أومليل هنا قائلا: " إن بالديمقراطية، وبعدها فليختلف المختلفون ".( 57) وخلفية الديمقراطية هي التي حركت أيضا كتابه "في شرعية الاختلاف " (1991)، حين راح يبحث في دلالات الاختلاف: اختلاف المثقف المسلم مع الأخر (أقليات غير مسلمة) سواء في مرقع القوة أو الضعف، واختلاف المذاهب الإسلامية في تعاطيها للأصول والفروع وما إذا كانت توحد بين المذهب والسلطة ؟ وللإشارة هناك عودة قوية لمسألة الديمقراطية من داخل الفلسفة السياسية والتراث الفلسفي اليوناني ذاته. وهي عودة لافتة في الفكر انجلوسكسوني مقارنة مع الفكر الفرنسي، وفي هذا الصدد يمكن الحديث عن الأبحاث الرصينة للمفكر اليهودي ليو ستراوس (1899- 1973) الذي لقب بـ"الفيلسوف السياسي". والذي ارجع أزمة الفكر الحديث إلى القطيعة التي تمت بين الفلسفة السياسية الحديثة والفلسفة السياسية الكلاسيكية، مثلما ألح على أن مشكلة الفلسفة السياسية لا تنفصل عن مشكلة)الفلسفة ذاتها. دون أن تغفل تشديده الكبير على افلاطون وتلميذيه الفارابي وابن ميمون، فهؤلاء يمثلون المنابع العميقة لفكره.(58) وان هناك تصورات أخرى ترى أن الديمقراطية تجلت عند السوفسطائيين أكثرهما تجلت عند سقراط وأفلاطون وارسطو، وهو ما لم تعودنا عليه كتب تاريخ الفلسفة.(59)
أما القراءة الثالثة التي تستوقفنا بخصوص النص الرشدي فهي قراءة ناقد أدبي هذه المرة ويتعلق الأمر بعبد الفتاح كيليطو الذي فتح أفاقا جديدة في مجال قراءة التراث الأدبي والسردي بشكل خاص. وأننا اصبحنا نعيش في زمن تحول فيه أكثر من ناقد إلى ما يعرف " النقد الثقافي". أي الناقد الذي لا يتقوقع في إطار الدرس الأدبي الضيق. وهذا ما ينطبق على كتاب "لسان أدم " لعبدالفتاح كيليطو. ويهمنا في هذا الكتاب مقال تحت عنوان "ترحيل ابن رشد". ومعالجته لابن رشد تختلف جذريا عن معالجة محمد عابد الجابري وعلي أومليل. إننا إزاء قراءة تستند إلى استراتيجية مغايرة. إننا لسنا إزاء مفكر يسعى إلى "تشخيص " أنساق الفكر وأعطاب السلطة، وبالتالي اقتراح حلول، وإن في منظور غير جاهز. وذلك من أجل الاسهام في الإجابة على الأسئلة الملحة التي تستأثر بالمرحلة. إننا أمام قراءة يظهر أنها تسعي في المقام الأول الى "المتعة ". إلا أن هذا لا يعني أنها قراءة تفتقد إلى الخلفيات المنهجية والثوابت المدنية اتي تسند عادة فعل القراءة وتمنحها من ثم بعض الفاعلية والقدرة على استنبات الأسئلة الممكنة، ان نص "لسان أدم ". ككل انجازات عبدالفتاح كيليطو، يعكس فهما معنيا لتاريخية القارئ وتاريخية المقروء والأنساق المعرفية / الأنطولوجية التي تصل ما بينها. ومع عبدالفتاح كيليطو تغدو الحياة تأويلا، وان كل ما هناك لا يعدو أن يكون تأويلا على تأويل، التأويل الذي يحرك الإنسان والتاريخ، التأويل الذي "نحيا به ". والتأويل عند عبدالفتاح كيليطو يقوم على- ما يسميه - فانس جورج جاد امير،"التطبيقApplication) (الذي هو مظهر مكون (بالكسرة والشدة على الواو) للفهم، الفهم الذي يقوم بدوره على أساس فينومنبولوجي( 60).والتطبيق هنا لا يحصر مشاكل التأويل في المنهج أو المناهج فحسب، هناك الذات أيضا "الوساطة المطلقة " (مقـء ´ىفىلم فجـ) ما بين التاريخ والحقيقة. تلك الوساطة التي يردها هيجل في أساس الهرمينوطيقا (61) من هنا فإن "لسان أدم "، موفي جانب منه، "السان كيليطو" أيضا.
وأهمية قراءة عبدالفتاح كيليطوفي كونها تلتفت إلى موضوع "الترحيل " بخصوص ابن رشد، أي الى موضوع لا يخل عادة في إطار الاهتمام بالإشكالات الكبرى عند ابن رشد مثل "الفصل ما بين الحكمة والشريعة " أو خلود النفس أو الشرح... الخ وموضوع "الترحيل "يدخل بدوره في إطار النكبة التي تحدث عنها محمد عابد الجابري وعلي أومليل، ويبحث صاحب "الأدب والغرابة " في نسق الترحيل..وهو لا يركز على بعد المثقف في خطاب ابن رشد، هو يتحدث عن الفيلسوف ويكرر عبارة "فيلسوف قرطبة "على امتداد الدراسة. وإن كان يشير الى "احرق كتب الفلسفة " و"
الأوامر السلطانية " و" تشتت التلاميذ" و" شراسة الناس من العامة وهم يطردون ابن رشد بسفالة من خارج قرطبة ". وعنصر الفيلسوف في خطاب ابن رشد لا يخفى عن ذهن علي أومليل الذي سلفت الإشارة اليه،بل هويري انه من النادر أن يجتمع الأمران في شخص واحد فيكون فقيها وفيلسوفا.(62) ويضيف: "إن المفارقة في الشخصية الثقافية لابن رشد، هي أنه كان يصبح ويمسي على الناس وهو "يلعب " دور الفقيه، ثم هناك الوجه الأخر، وهو شخصيته الثقافية الحقيقية، كما كان يردها لنفسه: وهي انه فيلسوف يعطي لعلمه الفلسفي القيمة الأولى"(63) والخلاصة هنا أن الفيلسوف ليس هو المثقف، لكنهما اجتمعا في شخصية ابن رشد، ويمكن أن نستأنس هنا بالتمييز اللافت الذي أقامه ليو ستراوس. وقد سلفت الإشارة اليه قبل قليل. بين المثقف والفيلسوف: فالأول مفهوم سياسيو أخلاقي، أما الثاني فهو يسعى الى المتعة، وحتى إذا ما سعى إلى غيرها فلا يسعى اليه في المقام الأول (64) ولقد كان وراء نكبة ابن رشد شرحه لكتاب "جمهورية افلاطون " وفي هذا الشرح كشف عن موقفه كما لاحظنا في القرادتين السابقتين، أما ابن رشد في قرادة عبدالفتاح كيليطو فهو كما سنرى- يسعى إلى الفلسفة أو يبدو مهموما بها.
ويقول عبدالفتاح كيليطو في مفتتح نص "الترحيل ": "في شهر مايو 1199م تحرك موكب جنائزي في مراكش اتجاه قرطبة، طوال أيام وأيام. سار الموكب عبر الجبال والوديان حتى البحر المتوسط، ثم: بعد أن قطع المضيق، تابع سيره البطيء والشاق حتى عاصمة الأندلس، هناك دفنت جثته، جتة ابن رشد والواقع ان هذا دفن ثان، لأن الإمام دفن شهورا قبل ذلك، في مراكش، هو الذي كان يتأرجح بخصوص حشر الأجساد، قد أخرج إذن من القبر ورحل إلى المدينة التي ولد بها". (65) وإذا ما سألنا حول سبب هذا الترحيل فإن عبدالفتاح كيليطو يجيب دقائلا: "يمكن تأويل هذا القرار بأنه تكريم للفيلسوف. وطريقة للاعتراف بقيمته، وتشريف ذكراه، غير انه من وجهة نظر أخرى، يمكن كذلك الاعتقاد بأن جثة ابن رشد لم يكن منظورا اليها بوصفها منبعا للكرامات والنعم، فلم يحتفظ به في الأرض الافريقية، وطرد من جنوب المتوسط، وفي القبر الذي ظل فارغا يقال إنه دفن به الولي أبوالعباس السبتي ".(66).
ويضيف كذلك: "لا ابن عربي، ولا ابن الحكم، ولا ابن جبير بمستطيع تخمين أن ترحيل جثمان ابن رشد، سيكون له بالنسبة لنا نحن، مدلول دقيق: رفض ارسطو، وترحيل الفلسفة إلى اللاتين (67) وفي ضوء هذه الفكرة ويمكن أن نستحضر نعت محمد عابد الجابري فلسفة ابن رشد بأنها "فلسفة مستقبلية ". ومعنى ذلك انها أقرب إلى فكر عصر النهضة في أوروبا على الرغم من ارتباطها بارسطو، وهل هناك فيلسوف لا يرتبط بأرسطو بشكل من الأشكال كما يضيف صاحب "نحن والتراث.(68)
وخلاصة عبدالفتاح كيليطو أن: "دفن ابن رشد لم ينشه بعد ".(69) وهي خلاصة لافتة، ومفادها أن حدث "الترحيل " لا يزال قائما. وهو ما يمكن أن نلاحظه في محاولات "اغتيال العقل " وطمس العقلانية، إضافة إلى الاضطهاد الذي تعرض له بعض المفكرين مثل "ترحيل " المفكر المصري المستنير نصر حامد أبوزيد، من هنا إذن كان دفاع القراءات المشرقية (المصرية بشكل خاص) عن معطى التنوير في أثناء التعامل مع الخطاب الرشدي أو غيره من الخطابات الأخرى التي تسمح بمثل هذه الأ ليات الدفاعية، وهو ما لا نلاحظه في المغرب لاعتبارات تاريخية وثقافية محددة، ويظهر أن خلاصة كيليطو (السالفة) يمكن أن تفيد أيضا أن حدث "الترحيل " لا يزال أفقا للتأويل، لكن في المنظور الذي يفضي إلى التأكيد على أهمية الخطاب الرشدي ذاته. ان ابن رشد في قراءة عبدالفتاح كيليطو يسعى الى مزاولة الفلسفة عكسن ابن رشد في قراءة كل من محمد عابد الجابري وعلي أومليل الذي يسعى (أي ابن رشد) إلى تكريس أفق النقد/ نقد الانسداد والاستبداد اللذين تفرضهما الة الدولة القامعة التي ترى في المثقف ما يهدد علاقتها مع العامة التي هي مصدر تمركزها وتسلطها، وهذه إشكالية لا تزال قائمة، وإن كان مفهوم المثقف قد تغير جذريا بسبب الزلزلة التي تعرض لها من أساسه.
الهوامش والاحالات
1- ادوار سعيد: الثقافة والامبريالية، ترجمة د. كمال أبو ديب، الأداب، بيروت، 1997، ص 59.
2- د. محمد عابد الجابري: المسألة الثقافية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994، ص 91.
3- P89.1976Hans George. Verite et Methode. Seuil.
4- Alain de Libera: la ohilosphie medievale.
Put. 2eme edition. 5991. PI 56.
5- محمد أركون: الإسلام والحداثة / مواقف 59- 60، صيف -خريف 1989، ص 21.
6- علي حرب: نقد النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، 1995، ص 93.
7- أوليفر ليمان: ماذا بقي من فلسفة ابن رشد، ترجمة مقداد عرفة منسية / دراسات اندلسية (تونس)، العدد 20، يونيو 1998، ص 19.
8-.175ذ. Alain de Libera: la philosophie medievale
9- محمد أر كون: الإسلام والحداثة/ مواقف (مرجع سابق) ص 25.
10- محمد أر كون: ابز رشد الفكر العقلاني والايمان المستنير، ترجمة: هشام صالح / عالم الفكر، المجلد 27، العدد الرابع، ابريل - يونيو 1999، ص 23، ص 25.
ا ا - فرع انطون: ابن رشد وفلسفته، دار الفارابي، 988ا، ص 41.
12- Alain de Libera: la philosophie medievale. P161.
13- أنظر: جمال الدي العلوي: المتن الرشدي، دار توبقال، الدار البيضاء 1986، (نص المقدمة).
14 - أنظر يحيى بن الوليد: التراث والقراءة - دراسة في الخطاب النقدي عند جابر عصفور، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1999.
15- أنظر: قضايا في نقد العقل الديني،ترجمة هاشم صالح، دار الطيعة، بيروت 1998.
16- د. طاهر لبيب: العالم والمثقف والانتلجنسيا / الانتلجنسيا العربية (كتاب جماعي)، الدار العربية للكتاب، تونس (بدون سنة النشر)، ص 11.
17- أنظر: تغطية (ابز رشد في جامعة القاهرة: رؤية نقية تنزع القداسة عن "ابو لوليد"، تغطية عماد الغزالي/جريدة "الحياة " "اللندنية)، الأحد 17 يناير 1999، العدد 13100.
18 - جورج تامر: تلخيص ابن رشد لكتاب افلاطون في السياسة ومشكلة التراث / "الحياة " الخميس 27أغسطس 1998، العدد 12959.
19- أنظر: نص المقدمة التحليلية للدكتور محمد عابد الجابري/ الضروري في السياسية / مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، ابن رشد، نقله عن العبرية د. احمد شحلان، مركز الدراسات الوحدة العربية، 1998، ص 36.
20- حوار مع طه عبدالرحمن على هامش ندوة "ابن رشد ومارسته في الغرب الإسلامي"، ابريل 1978/ أقلام، العدد 4، أكوبر1978، ص 16.
21- محمد المصباحي: الوجه والحداثة لابن رشد دار الطليعة، ص 29، ص 30، ص 35.
22- د. محمد عابد الجابره: العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، المركز الثقافي الحربي، الدار البيضاء/ بيروت (بدون سنة النشر)، ص 365.
23- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
24- د. محمد عابد الجابري: المثقفون في الحضارة الحربية، مركز دراسات اكل حدة العربية، 1995، ص 66.
25- المصدر نفسه، ص 9.
26 - أنظر: د. طاهر لبيب: جرامشي في الفكر العربي/ جرامشي وقضايا المجتمع المدني(كتاب جماعي)، دار كنعان، دمشق 1991، ص 164- 180.
27 - د. محمد عابد الجابري: المثقفون في الحضارة العربية، صص 20-21.
28- المصدر نفسه، ص 21.
29- أنظر في هذا الصدد:
- عبدالرحمن اليعقوبي: الحضور الرشدي في الفكر الغربي الوسيط / مقدمات مغاربية،ت العدد 15، شتاء 1998، صص 78-87.
- هاشم صالح: ابن رشد في مرأة الفكر الفرنسي المعاصر/ عالم الفكر (مرجع سابق) صص 177- 198.
30- د. محمد عابد الجابري: المثقفون في الحضارة العربية، ص 66.
31- المصدر نفسه، ص 31.
32- نص المقدمة التحليلية لمحمد عابد الجابري/ ابن رشد: الضروري في السياسة، ص 44.
33- ماجد فخري: ابز رشد فيلسوف قرطبة، منشورات دار المشرق، الطبعة الثانية، (بدون سنة النشر) ص 119.
34- د. محمد عابد الجابري: المثقفون في الحضارة الحربية، هى148.
35 - نص المقدمة التحليية لمحمد عابد لمجاهري/ ابن رشد الضروري في السياسة، ص 39.
37- نص المقدمة التحليلية لمحمد عابد الجابري/ الضروري في السياسة، ص 27.
38- المصدر نفسه ص 26.
39- عبدالسلام بنعبد العالي: الفلسفة السياسية عند الفارابي، دار الطليعة، بيروت، 1979،ص130.
40- المصدر نفسه، ص 137.
41 - عبدالله القروي: مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، الطبعة الخامسة 1993، ص 161.
42- د. محمد عابد الجابري المثقفون في الحضارة العربية، ص 15 1.
43- د. علي أومليل: الخطاب التاريخي- دراسة لمنهجية ابن خلدون، معهد الانماء العربي (بدون سنة النشر). ص 197.
44- المصدر نفسه، ص 222.
45- د. علي أومليل: التأويل والتوازن / أعمال ندوة "ابن رشد ومارسته في الغرب الإسلامي"، جامعة محمد الخامس " 21- 23أبريل 1978، ص 225، وقد نشر في كتابه "في التراث والتجاوز"، المركز الثقافي العربي، 1990.
46-". علي أومليل: السلطة الثقافية والسلطة السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية " بيروت، 1996، ص 38.
47- علي أومليل: في التراث والتجاوز، ص 8-9.
48- المصدر نفسه، ص 23.
49 - المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
50 - د. علي أومليل: السلطة الثقافية والسلطة السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996، ص 280.
51- المصدر نفسه، ص 8. 2.
52- أنظر: ابراهيم اعراب: المثقف والسلطة - قراءة في كتاب: "السلطة الثقافية والسلطة السياسية "/ العلم الثقافي، 13 فبراير 1999.
53- محمد اركون: قضايا نقد العقل الديني، ص 56. 54- في التراث والتجاوز، ص 43.
55 - انظر:
Umberto Eco: Interpratatopn et surin terpretation, Trd: Jean Pierre 1996 Comefti, Puf,
56- حوار مع علي أومليل / أقلام (مرجع سابق)، ص 23- 24.
57- د. على أومليل: السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص 26.
58- أنظر: نص التقديم للترجمة الفرنسية:
؟-Leo Strauss: Quest ce que. la philosophie politique? Trad: Olivier Sedeyn Puf, 1992.
59- أنظر:
- philosophiques, Douziemme annee, No 71/81. 6991/7991. hes Grees et la democratie/ revue Tunisienne des etudes.
60- George Gadamer: Verite et Methode.. P71. P148.
61- Ibid. PI 58.
62- د. علي أومليل: السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص 197.
63- المصدر نفسه، ص 204.
64- أنظر: نص تقديم الترجمة الفرنسية:
Benichon- Sedeyn. Presses Pocket.1989.. decrire. Trd: Leo Strauss La persecution et Lart Leo Strauss Lo
65- عبدالفتاح كيليطو: لسان ادم، ترجمة عبدا لكبير الشرقاوي، دار توبقال، الدار البيضاء، 1995، ص 63.
66- المصدر نفسه، ص 63.
67- المصدر نفسه، ص 65.
68- د. محمد عابد الجابري: نحن والتراث - قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، الطبعة الرابعة، ص. 25.
69- عبدالفتاح كيليطو: لسان أدم، ص 67.