ساد الاعتقاد منذ بداية القرن الماضي أن الذكاء قدرة عامة أو عامل أحادي يتوقف عليه كل شيء في حياة الإنسان. غير أنه منذ الثمانينات تصدى جيل جديد من السيكولوجيين لهيمنة هذا المنظور التقليدي للذكاء، حيث عارض فكرة وجود شكل واحد متراص من الذكاء، وأسس لمنظور أوسع منفتح على عدة قدرات، مكن من تكوين فكرة أوسع عن إمكانيات النجاح في الحياة مقارنة مع الإمكانيات المحصورة التي كان يتحدث عنها الذكاء التقليدي QI.
ويعتبر عالم النفسHoward Garden ، من جامعة هارفارد Harvard بالولايات المتحدة الأمريكية، من أوائل هذا الجيل الذي تجاوز المنظور التقليدي للذكاء واقترح فكرة الذكاء المتعدد (1983). وتابع عالم النفس سالوفي Yale Peter Salovey من جامعة ييل بالولايات المتحدة، خطوات Garden، حيث أسس لمنظور أوسع للذكاء يعترف بالدور الأساسي للمشاعر في التفكير وأهمية القيم النابعة من القلب في حياتنا، والغائبة عن المنظور المعرفي الصرف. وقد سمى هذه القدرات العاطفية بالذكاء الانفعالي أو العاطفي (1990) intelligence émotionnelle، وعرفه برفقة زملائه خاصة John Mayer ب‹‹القدرة على إدراك وتقدير والتعبير عن الانفعالات بشكل دقيق وتوافقي، فهو القدرة على فهم المشاعر وعلى الوصول أو إنتاج المشاعر التي تسهل الأنشطة المعرفية، وهو يتضمن كذلك القدرة على تنظيم هذه الانفعالات لدى الفرد والآخرين››
وقد درس سالوفي كيف يمكن جعل المشاعر والانفعالات واضحة ومفهومة وكيف يمكن جعلها في خدمة الذكاء. وعلى إثر ذلك خلص إلى أن الذكاء الانفعالي يقوم على خمسة ركائز أساسية وهي:
الوعي بالذات
يشمل قدرة الإنسان على فهم المشاعر والوعي بها والرعاية المستمرة لحالته الداخلية والانتباه إليها. ويمكن اعتبار أن أحسن ملاحظة للذات هي عندما تتم من طرف "أنا" آخر محايد متنبه ويقظ. وقد اعتبر John Mayer أحد رواد نظرية الذكاء الانفعالي، أن ‹‹الوعي بالذات يمكن أن يأخذ شكل انتباه موضوعي لحالاتنا الداخلية››، لذلك يسعى الطب النفساني إلى تقوية هذه القدرة لدى الزبناء.
إن الوعي بالذات ومعرفتها هو إذن ركيزة أساسية للذكاء الانفعالي، كونه يمارس تأثيرا على الأحاسيس العدوانية، حيث يستطيع التخلص بسرعة من هذه الأحاسيس، كما يشكل الأساس الذي تقوم عليه الاستقلالية والتحكم في الانفعالات والمنظور الإيجابي للحياة والصحة النفسية. وخلاصة القول تعتبر قدرة الإنسان على فهم ذاته وتحديد انفعالاته مفتاح الذكاء الانفعالي.
التحكم في الانفعالات وإدارة المشاعر
إن التحكم في الانفعالات وإدارة المشاعر تعني قدرة الإنسان على تكييف مشاعره مع كل وضعية، أي عرض مشاعره والتعبير عنها بطريقة مقبولة اجتماعيا. هذا التدبير لانفعالاتنا نمارسه في كل اللحظات، وقد اعتبرهاWinnicot أهم الأدوات النفسية لإقامة توازن نفسي، باعتبار أن التوازن بين الانفعالات الإيجابية والسلبية هو الذي يحقق السعادة والطمأنينة.
لا شك أن العواطف والمشاعر لها حضور دائم في اختياراتنا وقراراتنا، ولا يمكن اعتبار المنطق الصوري السند الوحيد لقراراتنا، كونه يكون أعمى في كثير من المجالات التي تحتاج إلى الأحاسيس. غير أن تدبير هذا الأمر يفرض التعامل بقدر، بلا إفراط ولا تفريط، ذلك أن الخضوع لضغط العواطف، مثل الاستخفاف بها، لهما عواقب وخيمة على قراراتنا المصيرية وعلى حياتنا.
عندما نعجز عن التحكم في الانفعالات نتيجة ضعف الوعي بها، يصبح لنا شعور بعدم مراقبة حياتنا العاطفية، ويصبح لنا مزاج متقلب، ونشعر أننا غير قادرين على القيام بجهد كافي للتخلص من هذا المزاج السيئ. ( سيطرة الغضب، الكآبة، القلق...) وعندما تدوم هذه الحالة فقد تصبح مرضية ( الاكتئاب، كرب، هيجان، هلوسة...) تحتاج إلى معالجة. وفي حالة ما لم تكن حادة فإنها تخلق مزاجا سيئا يحدث الإحساس بالملل وعدم التحفيز والانكماش، مما يؤثر سلبا على القدرة على التعلم والتفكير والتخطيط وحل المشكلات.
تعتبر إذن القدرة على مقاومة الدوافع السيكولوجية موقفا سيكولوجيا جوهريا، إذ أن مصدر مواقف إيجابية مثل حب الغير وفهمه يعود إلى القدرة على التحكم في الذات. هكذا يبدو أن أهم المواقف الأخلاقية التي يتطلبها عصرنا الحديث هو الاعتدال والتآزر والعطف التي لا تتأتى دون التحكم في الانفعالات وحكامة جيدة في تدبير المشاعر.
التحفيز الذاتي وحالة التفكير الإيجابي
قام عالم النفس C.R Synder بدراسة حول سلطة التفكير الإيجابي، على عينة من الطلبة لهم نفس الذكاء QI. وتبين أن الطلبة الواثقين في قدراتهم يحددون أهدافا عالية، ويعرفون كيف يشتغلون بعناد لتحقيقها، وتميزهم ثقتهم في المستقبل. لهم سمات الشخصية مشتركة: إنهم يعرفون كيف يتحفزون من تلقاء ذواتهم، ولهم اعتقاد في قدرتهم على تحقيق أهدافهم ويمتلكون مرونة في اكتشاف حلول بديلة للوصول إلى هذه الأهداف، ويعرفون كيف يجزؤون المهام إلى أجزاء قابلة التحقيق. إنهم غير مضطربين وأقل عرضة للارتباك والهموم اليومية.
كما تبين أن الحالات المزاجية السلبية تعطل التفكير، وتجعل الموارد الذهنية غير مستعدة لمعالجة المعلومات. وبالمقابل فإن الحالات المزاجية الإيجابية والانشراح ترفع من القدرة على التفكير بسلاسة، وتسهل حل المشكلات سواء كانت نظرية أو علائقية وترفع من الحس التدبيري..
وأشارت نفس الدراسة إلى موقفين لهما انعكاسات على السلوك: التفاؤل وهو طاقة كبيرة للتحفيز مثله مثل الثقة في المستقبل شريطة أن يظل هذا التفاؤل واقعيا. إذ يعتبر المتفائل أن الفشل نتيجة شيء قابل للتعديل والتجاوز، وهو بالتالي محطة نحو النجاح. وهناك التشاؤم الذي يعزى إلى قصور شخصي يتعذر إصلاحه. ويقوم الموقفان على موقف آخر هو الفعالية الشخصية، ذلك أن الاعتقاد في التحكم في الفعالية الشخصية طيلة حياتنا والاعتقاد في أننا قادرين، من خلال هذه الفعالية،على رفع كل التحديات يتوقف على مدى التوفيق بين الموهبة والإصرار.
ومن جانب آخر تشير "نورولوجية" التفوق neurologie de l’excellence التي تحدث عنها Mihaly Csikszentmihalyi ، إلى حالة رشاقة وسلاسة fluidité ذات حمولة نفسية تجعل الذكاء الانفعالي في ذروته، حيث تكون الانفعالات في خدمة التعلم والأداء بكل أشكاله الفكرية والرياضية والفنية. يتحدث الرياضي والمبدع عن هذه الحالة باعتبارها شعورا بالاستعداد ورضا كامل يكون عليها لحظة الإنجاز المتميز. ولا يعود هذا الإنجاز القياسي إلى الجهد فقط، بل إلى هذا الشعور الاستثنائي بالسعادة البالغة لتلك اللحظة، حيث ينهمك حينها الفرد كليا في الفعل، ويخص له كل انتباهه وتركيزه، ويمتزج وعيه بالكامل في هذا الفعل. في هذه الحالة لا يفكر الفرد في ذاته بل يصبح بلا "أنا" ولا ينشغل بمسألة النجاح والفشل، بل يركز كليا على الفعل ويتحكم فيه ويكيفه مع حاجاته، محفزا بالمتعة التي يجلبها من هذا الفعل.
إن أحد الطرق لخلق هذه اللحظات هو التركيز الهادئ والهادف، الذي يتطلب شيئا من الانضباط والتركيز للحصول على قوة ذاتية تمكن من التجرد من زوبعة الانفعالات، وإنجاز المهمة دون مجهود كبير ولكن بمزاج مريح وغبطة قصوى. هكذا قد يدفع الإحساس بالمتعة والرضا والفعالية القدرات الفردية إلى أقصاها.
معرفة الغير empathie
يشكل فهم الآخر العنصر الجوهري في الذكاء الانفعالي، وهو القدرة على فهم وإدراك مشاعر الآخرين والتعاطف معهم. وترتكز معرفة الغير بالأساس على الوعي بالذات، حيث بقدر ما نكون مدركين لانفعالاتنا بالقدر الذي نستطيع كشف وقراءة مشاعر وانفعالات الآخرين. إن العيش دون فهم الغير وعدم القدرة على الشعور بآلام الغير تقود إلى أفعال غير أخلاقية. ذلك أن الدوافع الداخلية هي إحساسات قابلة للتحويل إلى فعل، غير أن كل من لا يعرف كيف يتحكم في انفعالاته قد يعاني من قصور أخلاقي.
إن الرفق والعطف والأخذ بالحسنى في العلاقة الإنسانية منشؤها التناغم مع الآخر والقدرة على فهم الغير. وتقوم هذه القدرة على مهارة اكتشاف الأحاسيس انطلاقا من إشارات غير شفوية حاملة لمعاني عاطفية. فإذا كانت الكلمات هي وسيلة التعبير عن التفكير العقلاني فإن الإشارات غير الشفوية، في الغالب، هي وسيلة التعبير عن الانفعالات.
التدبير المتناغم للعلاقات الإنسانية
إن التدبير الجيد للعلاقات الإنسانية يتأسس على القدرة على التواصل والتناغم مع الآخرين في المواقف الاجتماعية المختلفة. ذلك أن الصعوبة التي نجد في إرسال أو استقبال المشاعر تخلق عادة مشاكل انفعالية، ويبدو أن فعالية العلاقات الشخصية تقوم بالأساس على البراعة التي نقيم بها عملية نقل الأحاسيس ونقل الفرح خصوصا، ولا يتأتى ذلك إلا بتحكم الشخص في مشاعره وأحاسيس الآخر.
لذلك يوجد التحكم الانفعالي في قلب التأثيرات العلائقية. أن تكون مؤثرا على مستوى الانفعالات معناها أن تكون قادرا على الحكم على الحالة العاطفية للآخر بشكل عميق وقادر على اكتشاف أحاسيس الآخر والاعتراف بها والتناغم معها ومجاراتها بمهارة ومرونة، كل ذلك يشكل أحد المهارات للذكاء الانفعالي.
هكذا يبدو أن التدبير المتناغم للمشاعر والانفعالات يشكل أساس العلاقة الاجتماعية، حيث أن من يعرف كيف يحافظ على علاقات جيدة مع الآخرين هو الذي يعرف كيف يدبر انفعالاته.
تتضمن كل واحدة من هذه الأبعاد والركائز الخمس للذكاء الانفعالي مجموعة من التصرفات وأفعال قابلة للتغيير والتحسن إذا ما اخترنا ذلك. إن عوامل عصبية هي مصدر الاختلافات بين الكائنات البشرية وقدراتهم المتميزة، غير أن الدماغ يتميز بمرونة فائقة ويتعلم ويعتاد على مهارات متجددة باستمرار، مما يعني أنه من الممكن تعويض قصورنا وتحسين قدراتنا. أي أن هناك مكانة للرفع من ذكاءاتنا وتجويد حياتنا عبر التربية والتكوين، إذا ما أدخلت هذه الأخيرة في اهتمامها الحياة العاطفية، وعملت على تنمية الذكاء الانفعالي عبر تنمية قدرات الفرد على الوعي بالذات وفهم الآخر والقدرة على إقامة حياة علائقية إنسانية متناغمة وراقية، باعتبار أن الرفع من الذكاء الانفعالي يحسن جودة الفعل والأداء والمردودية في الحياة الدراسية والعملية ويرفع من جودة حياة الناس بشكل عام.
المراجع :
Goleman. D.(1997) ;Lintelligence émotionnelle :comment transformer ses émotions en intelligence ; Trad.T.Piélat ; Paris ; Editions Robert Laffont ;S.A.
- د. محمد طه (2006) الذكاء الانفعالي ، سلسلة عالم المعرفة العدد 330. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب . الكويت. (ص: 181-180).