تقديم.
تعد ظاهرة العنف ضد الأطفال إحدى أبرز سمات الحياة المدرسية المغربية. وإذا كانت هذه الظاهرة قد شغلت في الآونة الأخيرة حيزا كبيرا من اهتمام وسائل الإعلام التي توقفت عند عدد من الحوادث المشينة في هذا الإطار فإنها رغم ذلك لم تنل، في نظرنا، ما يكفي من البحث والدراسة سيكولوجيا وسوسيولوجيا.
إن هذه الحقيقة تجعل من تسليط الضوء على هذه الظاهرة ودراستها ميدانيا مسألة في غاية الأهمية؛ وذلك من أجل التنبيه لخطورتها ومساهمة في الحد منها لما لها من آثار وخيمة نفسيا واجتماعيا، ولما تشكله من مساس بإنسانية الإنسان وكرامته الواردة في قوله عز من قائل: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا." (سورة الإسراء، الآية 70)
ولا يفوتنا أن ننوه إلى أن هدف هذه الدراسة يتحدد أساسا في رصد واقع العنف ضد الأطفال في المدرسة المغربية وأسبابه، وكذا الوقوف على درجة التقدم الحاصل في جهود احتواء الظاهرة خاصة في مجال الدراسة.
أولا: الإطار النظري للدراسة:
يجد الباحث في واقع الحياة المدرسية نفسه أمام ظاهرة مثيرة هي سيادة وطغيان العنف والسلطوية على العلاقة بين مكوناتها. وإذا كان من المسلم به أن هذه الظاهرة تشكل سياقا شاملا ومعقدا وتندرج ضمن نسق أعم من الأمراض التي تعاني منها المنظومة التربوية فإن التعامل مع الإشكالية التي تطرحها يستلزم تفريعها إلى مجموعة إشكاليات تتناول كل واحدة منها جانبا من جوانبها.
وتشدد الفرضية التي انطلقت منها الدراسة على أن المدرسة المغربية قد فشلت، رغم الجهود المبذولة، في التحول إلى مدرسة تقوم على مبادئ التربية الحديثة وتحترم حقوق الطفل؛ فعلاقة مختلف الفاعلين في الحياة المدرسية بالأطفال لا تزال تقوم على العنف والقهر والسلطوية، والقواعد التي تحكم هذه الحياة لا تساعد في جعل الفضاء المدرسي فضاء يعبر فيه الأطفال عن ذواتهم ويشجعهم على المشاركة الفاعلة؛ كما أن الاستراتيجية الوطنية لمحاربة العنف في الأوساط المدرسية، التي أعدتها وتبنتها الوزارة الوصية سنة 2007، لم تستطع أن تتحول إلى برنامج عمل حقيقي يساهم فعليا في الحد من الظاهرة من خلال خلق الوعي والفعل المطلوبين في صفوف المستهدفين بها.
وقبل أن نعرض للمنهج الذي اعتمدناه في البحث والتحليل، نرى أنه من الواجب أن نتوقف عند ثلاثة مفاهيم أساسية أطرت اشتغالنا في هذه الدراسة لنبرز الدلالة التي بها وظفناها:
1- العنف ضد الأطفال: دلالته، أنماطه ومظاهره في الحياة المدرسية:
العنف في اللغة من عَنُفَ الرجل عُنْفا وعَنَافة بالرجل وعليه: لم يرفق به وعامله بشدة، فهو عنيف. وجمعه عُنُف. وعَنَّفَه: عامله بشدة. والعٌنف والعَنف والعِنف: ضد الرفق وهو الشدة والقسوة. (المنجد في اللغة والأعلام ص: 533) ولا يختلف هذا المعنى اللغوي للعنف عن معناه الاصطلاحي؛ فرغم تعدد التعريفات التي أعطيت له، إلا أنها كلها تجمع على كونه سلوكا اجتماعيا عدوانيا ولا عقلانيا يصدر عن الذات، يُحدث في ذات الآخر أضرارا نفسية أو مادية، الغاية منه استتباعه، أو إرغامه على الاستجابة لمطالب غير مشروعة للذات، أو حرمانه من حقوقه وبالتالي الحط من كرامته وإنسانيته. (شداتي، 2009: 6)
وبما أن الطفولة تتميز عن غيرها من الفئات العمرية باتسامها بالعجز والاعتمادية فإن تعريفنا للعنف ضد الطفل يمكن صياغته على النحو التالي: "هو كل فعل أو امتناع عن فعل يعرض سلامة وصحة الطفل البدنية والعقلية والنفسية والاجتماعية والروحية وعمليات نموه المختلفة للخطر أو يحول دون مشاركته الحرة في الحياة المدرسية أو يجبره على إتيان أو ترك أفعال دون إرادته وبما يمس من كرامته، ويحد من حقوقه."
ويتخذ العنف ضد الأطفال في الحياة المدرسية مظاهر عدة. وقد عملت الدراسة على رصد عدد منها على النحو التالي:
أ- اعتماد السلطوية في العلاقات الصفية؛ وذلك من خلال رصد مدى شعور التلاميذ بكونهم مرغمين على الخضوع التام لآراء الفاعلين التربويين ولقواعد معينة في العمل والسلوك وضعت دون مشاركة منهم من جهة، ومدى تعمد الفاعلين تبني هكذا سلوكات من جهة ثانية.
ب- الإيذاء البدني؛ وهو مظهر اعتمدنا في رصد درجة انتشاره على مؤشر نسبة تعرض التلاميذ للضرب المتكرر، واعتماد المدرسين على هذا السلوك كقاعدة ثابتة في ممارستهم التربوية.
ت- الإيذاء النفسي والحرمان العاطفي؛ عبر التركيز على مؤشرين اثنين هما: نسبة تعرض الأطفال للإبعاد والتخويف، ودرجة انتشار سلوك الشتم والسب في الممارسة التربوية للأساتذة.
ث- تعزيز الشعور بالإقصاء والاغتراب في الحياة المدرسية؛ وهو وإن كان يندرج ضمن الإيذاء النفسي للطفل إلا أن خطورته الاجتماعية جعلتنا نولي له اهتماما خاصا في دراستنا هاته. وقد ركزنا في رصده على قياس مدى نجاح المنهاج الدراسي في ملامسة واقع المتعلمين، ودرجة تعارض وضعياته من حيث مضمونها القيمي مع قيم التلميذ الروحية والوجدانية.
ج- الرعب الناتج عن نظام التقويم والامتحان؛ وتنبع السمة "العنفية" لنظام التقويم من اقترانه بالتسلط وخلق مزيد من التوتر النفسي في صفوف المتعلمين بحكم اعتماده الأساسي على نظام الامتحان. ففي ظل هكذا نظام يوجه المتعلم كافة جهوده نحو الاستجابة لمعايير الامتحان ومتطلباته بدل اللجوء إلى التكوين المتكامل والمتراكم في ظل ظروف نفسية وعلائقية مريحة ومشجعة. (السورطي، 2009: 28) وهو بذلك يشكل هاجسا يضغط بكامل ثقله على التلاميذ وعلى أسرهم في نفس الوقت. بل إن جو بعض الاسر تنتابه مظاهر الاهتزاز والاضطراب نتيجة عدم نجاح الابناء في امتحاناتهم بالشكل الذي كان يتمناه الآباء حتى إن مصالح الأمن تسجل في فترات الامتحانات شكاوى تتعلق بحالات غياب للأبناء عن أسرهم تفوق بكثير الحالات التي تسجل في الأوقات العادية. (نور الدين، 2005: 131) ولرصد هذا النوع من العنف ومدى انتشاره عملنا على استقراء مشاعر التلاميذ تجاه الامتحانات وكذا درجة اعتماد الأساتذة على نظام أسلوب الامتحان في تقييم الأداء الدراسي للتلاميذ.
ح- الإيذاء الجنسي؛ وهو أخطر أنواع الإيذاء التي يمكن أن يتعرض لها الطفل على الإطلاق، وأكثرها إثارة للصعوبات في الرصد والبحث على المستوى الميداني بسبب التكتم الذي يلازم مثل هذه الظواهر في مجتمعات تتهيب من العار والفضيحة وتتحاشاهما. وعموما، ورغم كل الصعوبات، فقد اعتمدنا في اثبات درجة انتشار هذا النمط من العنف على تعريف له يجعله يشمل كل سلوك تلفظي ذي مضمون جنسي يشكل تهديدا للتلميذ في أمنه وسلامته البدنية والنفسية ويجعله تحت الضغط.
2- مفهوم الحياة المدرسية:
يعرف معجم علوم التربية الحياة المدرسية بأنها "مجموع الأنشطة التي يقوم بها التلميذ داخل المدرسة." (غريب،2001: 362) وهذا التعريف رغم وضوحه إلا أنه- في نظرنا- يتسم بالقصور؛ فالمدرسة مجتمع قائم الذات، والتلميذ عندما يقوم بهذه الأنشطة داخل المدرسة، فإنه بذلك يدخل في علاقة تفاعل ضمن نسق تعتمل فيه مجموعة من العناصر والمكونات المترابطة والمتفاعلة فيما بينها، والتي تخضع لسيرورات وقواعد تشكل النظام الضابط لهذا النسق.
بناء على هذا، فنحن عندما نستعمل مفهوم الحياة المدرسية فإننا ننطلق من كونها نظاما نسقيا يضم مجموعة من العناصر والمكونات والأبعاد المتسقة ضمن شبكة من العلاقات ذات الطبيعة التفاعلية. إنها "مجموع العوامل الزمانية والمكانية والتنظيمية والعلائقية، والتواصلية، والثقافية، والتنشيطية المكونة للخدمات التكوينية والتعليمية التي تقدمها المؤسسة للتلاميذ." ( وزارة التربية الوطنية، 2008 : 4)
3- الفاعل التربوي:
الفاعل في اللغة هو الاسم الدال على الذات القائمة بالفعل أو المطلوب منها القيام بالفعل. إنه هو الشخص الذي يقوم بالفعل أو يتلقى الفعل، لذا يمكن تحديد أنماط الفاعل في فئتين متقابلتين: مرسل/متلقي أو ذات/موضوع أو مساعد/ معارض." (غريب، 2001: 8)
وينطلق تحديدنا لمفهوم الفاعل التربوي من كون العلاقات في الحياة المدرسية، كما سبق تعريفها، تتم بين متدخلين لهم أدوار محددة. وعليه، فإننا -ونحن بصدد دراسة ظاهرة العنف ضد الأطفال في الحياة المدرسية- نؤكد أننا عندما نتحدث عن الفاعلين التربويين فإننا نعني بذلك أساسا: التلاميذ، والمدرسين، وأطر الإدارة التربوية، وبشكل غير أساسي يدخل ضمنهم آباء وأولياء التلاميذ وجمعياتهم وذلك بحكم محدودية الأدوار التي يضطلعون بها في واقع الحياة المدرسية.
ثانيا: الإطار المنهجي للدراسة:
1. مناهج البحث وتقنياته:
إن الغاية من البحث العلمي في علم الاجتماع، بما هو علم، هي الابتعاد عن الأسلوب التخميني البسيط الذي ينظر من خلاله الناس العاديون إلى الظواهر الاجتماعية. فالبحث العلمي إنما "يقوم من أجل أن يقول شيئا ما ذا قيمة إضافية عن الواقع ومجرياته، وفي سعيه هذا يتبع قواعد وقوانين محددة تنبني مقولته من إتقان تطبيقها وإتباع إرشاداتها بدرجة عالية من الدقة." (ناشف، 2010: 118) وعليه فإن العمل السوسيولوجي الحقيقي، كما يؤكد أنتوني غيدينز، يحاول أن يطرح السؤال بأقصى ما يمكن من الدقة والتحديد، ثم يجمع البيانات والوقائع اللازمة، ويحللها قبل الخلوص إلى نتائج.( غيدينز، 2005: 670)
ومن هذا المنطلق، فإن دراستنا بنت استنتاجاتها استنادا لثلاثة مناهج بحثية كما يلي:
أ- المنهج التجريبي:
يعتبر هذا المنهج ذي المرجعية الوضعية عمود العمل البحثي للدراسة. فمن خصائصه أنه يتضمن كل خطوات المنهج العلمي الاستقرائي ولا يقتصر على وصف الظاهرة وجوانبها بل يتجاوز ذلك إلى البحث في تفسيرها وإبراز العلاقات السببية التي تعتمل داخلها. (أوزي،2008: 39)
وإذا كان من نافلة القول التذكير بأهمية تحديد موضوع الدراسة ورسم حدوده من خلال ضبط مفاهيمه كخطوة أساسية ضمن هذا المنهج، فإن استخدامنا لهذا المنهج يجد تجليه علاوة على ذلك في:
- تحديد إشكالية للدراسة ترسم حدود موضوعها، وتقديم فرضيات بشأنها مؤسسة على استكشاف وتوثيق.
- الاختبار الميداني للفرضيات عبر جمع البيانات الدالة، وتأويلها وتفسيرها.
ب- منهج المسح الاجتماعي:
يعد منهج المسح الاجتماعي من المناهج التي لا يمكن للباحث السوسيولوجي الاستغناء عنها. وهو منهج يقوم على جمع بيانات يمكن تصنيفها وتفسيرها وتعميمها بشأن الظاهرة موضوع البحث؛ فهو يستخدم من أجل التزود بصورة دقيقة عن الظاهرة المدروسة من خلال جمع المعطيات والبيانات المتعلقة بجوانبها المختلفة في راهنيتها زمانيا ومكانيا، وغايته عملية تستهدف إصلاح الأوضاع المرضية أو -على الأقل- تقديم توصيات بشأن كيفية التعامل معها. (عبد الجواد، بدون تاريخ:38)
ويتجلى استخدامنا لهذا المنهج من خلال:
ü اعتماد تقنيتي الاستمارة والمقابلة شبه الموجهة في جمع البيانات.
ü استخدام تقنية الملاحظة المنظمة في رصد سلوك الفاعل التربوي.
ت- منهج دراسة الحالة:
انطلقت الدراسة في تبنيها لهذا المنهج من افتراض أن الحالات المدروسة تشكل نموذجا لحالات مشابهة أو من نفس النمط وهو ما من شأنه أن يمكننا من التوصل عن طريق التحليل المعمق إلى تفسيرات قابلة للتعميم. وقد كان استخدامنا لهذا المنهج أسلوبا للتحليل أكثر منه مجموعة إجراءات وذلك من خلال إجراء مقابلات خاصة ومعمقة مع حالتين: أولاهما لطفل كان ضحية عنف في حياته الدراسية، والثانية لفاعل تربوي يعتمد العقاب أسلوبا في التعامل مع الأطفال؛ واستثمار نتائج هاتين المقابلتين أثناء تحليلنا للمعطيات التي استقيناها من العينة المدروسة وذلك لما تتيحانه من تفاصيل حول جوانب من الظاهرة ما كنا لنحصل عليها لو اقتصرنا على المناهج والتقنيات المشار اليها آنفا.
2. عينة الدراسة:
تعتبر العينة محطة من محطات البحث الاجتماعي وتقنية من تقنياته. ويلجأ في المنهج التجريبي إلى العينة لدراسة الظواهر من منطلق أن الباحث لا يستطيع أن يعمل على المجتمع كله، ولهذا يعمل على جزء منه. ومن هذا المنطلق ينبغي أن يكون هذا الجزء ممثلا للكل حتى يمكن تعميم النتائج التي يتوصل إليها على المجتمع ككل. وعليه، فإن العينة الممثلة في علم الاجتماع تستمد مبرر وجودها من النظر إلى الجزء المجتمعي على أنه تمثيل مختصر للكل المجتمعي.
ويميز الباحثون في علم الاجتماع عادة بين نوعين رئيسيين من العينات هما: العينات ذات التمثيل الاحتمالي العشوائي والعينات ذات التمثيل العمدي. وهنا نؤكد أن عينة بحثنا، كما سنعرض خصائصها لاحقا، لم يتم اختيارها على أساس التمثيل الاحتمالي العشوائي مع كونها المفضلة من أجل قابلية أفضل لتعميم الاستنتاجات. والسبب في ذلك يتمثل، فضلا عن الصعوبات المادية والبشرية، في غياب معطيات إحصائية دقيقة تسمح بتكوين اللائحة الكاملة بالأجزاء.
إن السبيل الذي تبنيناه - إذن- في اختيار عينة الدراسة هو أقرب إلى التمثيل العمدي منه إلى العشوائي. وهذا النوع من التمثيل يهدف إلى الانتقال من الكل الكبير إلى الكل الصغير باعتبار كليهما مجموعا من الأجزاء. ولا نخفي أننا ركزنا في ذلك على الخصائص التي ترتبط بموضوع الدراسة، وعلى أساسها ركبنا عينتنا. وهذه هي المتغيرات الأساسية التي ركزنا عليها:
- المتغير الجغرافي، حيث شملت العينة المجالين القروي والحضري.
- متغير السلك الدراسي؛ حيث شملت العينة سلكي الابتدائي والإعدادي، في حين استبعدت السلك الثانوي التأهيلي لأنه يضم تلاميذ راشدين.[1]
- متغير النوع، حيث روعي ضمان تمثيلية متكافئة للجنسين في العينة؛
- متغير السن؛
- وهكذا، فإن عينة الدراسة تضم 318 مبحوثا موزعين على النحو التالي:
- عدد التلاميذ: 200 تلميذا %57 منهم ينتمون إلى المجال الحضري، و%43 ينتمون إلى المجال القروي. أما نسبة الإناث فهي: 43,5%؛ ويشكلن %52 من مجموع تلاميذ المؤسسات الحضرية، و%35 من مجموع تلاميذ العالم القروي. وقد كان عدد تلاميذ الابتدائي مساويا لنظرائهم في الاعدادي(%50).
- عدد الأساتذة: 100 أستاذ؛ %68 منهم يعملون في المجال الحضري، و%32 منهم يعملون في المجال القروي. وتشكل الإناث منهم %33 من مجموع أساتذة الوسط الحضري، و%13 من مجموع نظرائهم في الوسط القروي. وكانت تمثيلية سلك الابتدائي هي ذات تمثيلية السلك الإعدادي(%50).
- عدد الإداريين: 18 إطارا؛ منهم %61,11 في المجال الحضري، و%38,88 في المجال القروي. أما نسبة الإناث في صفوف هذه الفئة فهي: 5 ,88%، كلهن يعملن في الوسط الحضري. أما حسب السلك، فقد عرفت نسبة العاملين منهم في الابتدائي ارتفاعا طفيفا حيث بلغت %55,55.
ثالثا: نتائج الدراسة:
1. واقع العنف في الحياة المدرسية المغربية:
تتحدد مهمة هذه الفقرة في عرض واقع العنف في الحياة المدرسية كما أظهرته الدراسة الميدانية. ومن أجل تقديم فكرة شاملة ودقيقة عن هذا الواقع، عملت الدراسة على كشف:
أ- درجة تعرض التلاميذ لمختلف أنماط العنف المشار إليها أعلاه.
ب- نسبة سيادة تلك الأنماط في ممارسة الفاعلين التربويين في الحياة المدرسية.
أ- الأطفال والتعرض للعنف:
تظهر نتائج الدراسة أن الأطفال هم عرضة لمختلف أنماط العنف في الحياة المدرسية. فقد أكد كل التلاميذ الذين تم استجوابهم أنهم تعرضوا لنوع واحد، على الأقل، من أنواع العنف التي عرضناها أعلاه؛ فباستثناء الإيذاء الجنسي، وبشكل أقل استغلال النفوذ الذي يؤشر على السلطوية كنمط من أنماط العنف المسلط على التلاميذ، فإن نسبة تعرض الأطفال لأنواع العنف الأخرى لا تقل في العموم عن نسبة %50 . كما تظهر نتائج الدراسة أن كل العناصر المكونة للحياة المدرسية، هي مصدر عنف ضد التلميذ؛ وتستوي في ذلك المناهج ونظام التقويم وممارسات الفاعلين.
حقيقة أخرى أظهرتها نتائج الدراسة تتمثل في أن أكثر أنماط العنف انتشارا هي تلك التي ترتبط بالمناهج ( أكثر من %70)، وأن أقلها انتشارا هي تلك التي مصدرها الفاعل التربوي بما هو إنسان. وهذه نتائج الدراسة التي تؤكد ما أشرنا إليه:
يؤكد حوالي %61,5 من التلاميذ المستجوبين شعورهم بكون سلوكات مربيهم تتسم بالاستبداد. وهذه النسبة تعرف ارتفاعا في الوسط الحضري حيث بلغت %66,92 مقارنة بالعالم القروي حيث هي في حدود %51,42 بينما لا يتأثر هذا الشعور بمتغير السلك الدراسي حيث تبقى متقاربة في سلكي الابتدائي والإعدادي(%61 في الابتدائي و%62 في الإعدادي). ويمكن تفسير انخفاض درجة الشعور بالسلوك الاستبدادي في أوساط التلاميذ القرويين بتأثير الواقع الاجتماعي حيث إن التقاليد والأعراف السائدة في هذا الوسط تمجد إلى حد كبير سلطة الكبير وذي الفضل. أما ارتفاع النسبة فيؤشر على أن السلوك الاستبدادي عقيدة راسخة وسلوك مستحكم في صفوف الفاعلين التربويين.
وفيما يتعلق بالعقاب البدني، فقد كشفت الدراسة أن % 67,5 من التلاميذ المبحوثين أكدوا تعرضهم للضرب بشكل متكرر. هذه النسبة تعرف ارتفاعا في السلك الابتدائي (%74 مقابل %61 في الإعدادي)، وفي صفوف الذكور (%94 مقابل %38 من الإناث).
وعندما توجهنا إليهم بالسؤال عما إذا كانوا يشعرون أنهم يقومون بأعمال لا يستسيغونها تحت تأثير النفوذ، أجاب ما نسبته % 38,5 من التلاميذ المستجوبين بالايجاب. وهذه النسبة تعرف تأثرا بينا بمتغيرات: السلك الدراسي، الجنس والوسط. ففيما يتعلق بمتغير السلك الدراسي، سجلنا ارتفاعا واضحا في الابتدائي (% 59 مقابل %18 في الإعدادي)؛ أما فيما يخص متغير الوسط فقد سجلنا نسبة %77,5 في صفوف تلاميذ الابتدائي في العالم القروي في مقابل %46,66 من نظراءهم في الوسط الحضري مما يعني أن هذه الظاهرة قروية أكثر منها حضرية خصوصا إذا علمنا أنه حتى في صفوف الإناث كانت النسبة مرتفعة في الوسط القروي أكثر مما هو متوقع حيث بلغت - في السلك الابتدائي- %73,33 في مقابل %28,57 في صفوف التلميذات الحضريات. وفي محاولة لتفسير هذه الأرقام نعتقد أن غياب الأعوان المساعدين، الذين عادة ما يقومون بأعمال النظافة والبستنة والسخرة، في مؤسسات العالم القروي عامل حاسم في انتشار هذا السلوك أكثر في الوسط القروي. أما الارتفاع الذي تعرفه النسبة في الابتدائي في مقابل الإعدادي فنقترح أن ذلك راجع إلى "الحميمية" التي تسود علاقة أساتذة التعليم الابتدائي بمتعلميهم صغار السن؛ وهو ما يجعل الأستاذ لا يتردد في تكليف التلاميذ بهذه الأعمال كونه لا يتوقع منهم إلا الاستجابة عند مطالبتهم بأي منها.
ومن خلال اعتماد مؤشري الابعاد أو التخفيف من جهة والإهانة والتنكيد اللفظي من جهة ثانية، تؤكد النتائج المتوصل إليها أن ما لا يقل عن %54,5 من التلاميذ هم ضحايا للحرمان النفسي خلال هذه السنة بشكل متكرر. وهذه النسبة ترتفع أكثر في سلك الإعدادي وفي الوسط الحضري. فقد سجل تعرض %52 من المستجوبين من سلك الابتدائي لهذا النمط من العنف في مقابل %57 من نظرائهم في السلك الإعدادي. ويرجع ذلك - في نظرنا- إلى أن الفاعل التربوي في الإعدادي عادة ما يفضل أسلوب الإبعاد والتنكيد اللفظي في الوقت الذي قد يفضل فيه الفاعل التربوي في الابتدائي معاقبة التلميذ عن طريق الضرب. وهذا التفسير أكدته النتائج التي حصلنا عليها في إطار دراسة الحالة. أما فيما يخص متغير الوسط فقد سجل تعرض %61,90 من تلاميذ الوسط الحضري للحرمان العاطفي في مقابل %51,16 من تلاميذ الوسط القروي. وهذا قد يجد تفسيره في الثقافة السائدة في الأوساط القروية التي لا تعير اهتماما كافيا للجانب العاطفي.
وإذا كانت الإساءة الجنسية، أخطر أنواع العنف ضد الأطفال، فإن اعتماد الدراسة على مؤشر التحرش الجنسي أظهر أن %9 من التلاميذ فقط أكدوا تعرضهم للتحرش الجنسي في الحياة المدرسية، مع تقارب في النسبة بين الذكور والإناث (%8,84 و%9,19 على التوالي). كما أظهرت ذات النتائج أن %12 من تلاميذ الابتدائي ضحايا هذا النوع من العنف مقابل %6 فقط من تلاميذ السلك الإعدادي. ويمكن تفسير هذه النتائج، التي كانت متماشية مع التحفظ الذي يلازم مثل هذه المواضيع، من خلال التأكيد على معطيين اثنين: أولهما، كون المجتمع المبحوث مجتمعا محافظا بامتياز وبالتالي تغدو فيه ظاهرة التحرش أقل انتشارا بحكم طبيعة العلاقة بين الجنسين، والخوف من العار والفضيحة مكرسا للتكتم؛ والثاني كون عامل السن يجعل تلاميذ الإعدادي أكثر استشعارا لخطورة الموقف وبالتالي أكثر ضبطا لتصريحاتهم وفق ما يقتضيه ويرتضيه المجتمع.
إن العنف الذي يتعرض له الأطفال في الحياة المدرسية لا يقتصر على الأنماط السالفة الذكر. بل إن المناهج تشكل بدورها مصدرا لنوع آخر من العنف ضد الأطفال من خلال تعزيز شعورهم بالإقصاء الاجتماعي والاغتراب. وفي هذا الصدد تشير النتائج الميدانية إلى أن %70,5 من مجموع التلاميذ نفوا ارتياحهم عادة لما يقدم لهم من دروس خاصة في اللغات. وتأتي اللغة الفرنسية في مقدمة المواد التي تعزز اغتراب التلاميذ بنسبة %85,1. وفيما يتعلق بتأثر هذه النسبة بالمتغيرات المعتمدة، فقد سجل تأثير لا بأس به لمتغير الجنس حيث إن %66,66 من الإناث عبرن عن عدم ارتياحن لما يقدم لهن من دروس في مقابل %73,45 من الذكور عبروا عن نفس الموقف مما يعني أن الذكور أكثر شعورا بالاغتراب تجاه الدروس من الإناث.
وإلى جانب تعزيز المناهج لغربة التلاميذ في الحياة المدرسية، يشكل نظام التقويم مصدرا حقيقيا للعنف النفسي ضد هؤلاء. وقد توقفت الدراسة على أن حوالي %66,5 يشعرون بتوتر وضغط نفسي كبير في فترات الامتحانات. وهذا النسبة لا تتأثر كثيرا بمتغير السلك الدراسي عكس ما هو حاصل فيما يخص متغير الجنس حيث سجل زيادة نسبة %7 في صفوف الذكور.
ب- الفاعل التربوي وممارسة العنف:
تؤكد النتائج التي سنعرضها في هذه الفقرات أن العنف ضد الأطفال في الحياة المدرسية ليست ظاهرة مقتصرة على الممارسة فقط بل هي أكثر من ذلك قناعة متأصلة في وجدان الفاعل التربوي لدرجة أنها ترقى لأن تكون عقدية راسخة. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن المدرسة المغربية، ضدا على كل الخطابات ورغما عن كل الجهود التي قيل إنها بذلت في سبيل احتواء الظاهرة، لم تستطع بعد أن تحد من العنف الموجه ضد الأطفال في الحياة المدرسية؛ وهي بذلك مدرسة لا نبالغ في وصفها بأنها فضاء للتربية العنيفة. وفيما يلي، نعرض لما توصلنا إليه من نتائج تؤكد هذه الخلاصات:
تشير نتائج استطلاع سلوكات الفاعلين التربويين في الحياة المدرسية أن حولي %100 من الإداريين و%67 من المدرسين يؤكدون إلزامهم للتلاميذ بقواعد في العمل والتعبير والسلوك من وضعهم هم دون مشاركة من التلاميذ. كما تشير ذات النتائج إلى أن %55,55 من الإداريين، %80 من مدرسي الابتدائي و%36 من مدرسي الإعدادي يمارسون العقاب البدني. وهذا يدل على أن ظاهرة العقاب البدني لا تزال واقعا مستشريا في الممارسة التربوية خاصة في السلك الابتدائي. وإذا كان السلك الإعدادي يعرف تقلصا نسبيا في الظاهرة إلا أن الحقيقة هي أن أكثر من ثلث مدرسي هذا السلك لا يزالون يمارسون هذا النوع من العنف، وأن أكثر من %60 من هؤلاء تقل أعمارهم عن الخمسين.
وفيما يرتبط بالعنف النفسي، يؤكد %80 من أساتذة الابتدائي المستجوبين و%70 من نظرائهم في الإعدادي أنهم يمارسون إما الإبعاد أو التهديد، وإما الإهانة أو التنكيد اللفظي في حق المتعلمين؛ وهذا يعني أن %75 من مجموع الأساتذة المستجوبين يتبنون هذا النوع من العقاب. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ بل إنه إزاء العنف النفسي الذي تمارسه المناهج ونظام التقويم، نسجل أن المدرسين يتحملون قسطا من المسؤولية في ذلك. فحوالي %59 من المستجوبين منهم (%56 في الابتدائي و%62 في الإعدادي) لا يلاءمون دائما الوضعيات التعليمية مع واقع المتعلمين النفسي والاجتماعي؛ كما أن %58 منهم يتمسكون بالامتحان أسلوبا وحيدا للتقويم رغم إقرارهم بالضغط والتوتر النفسي الذي يسببه هذا الأسلوب للتلاميذ (%75 من مجموع المستجوبين بمن فيهم من لا يعتمدون الامتحان يقرون بشدة الضغط النفسي الذي تسببه الامتحانات للتلاميذ). وهنا نؤكد أن الأساتذة يبررون مواقفهم بعدة مبررات ذات وهاجة من قبيل: عدم القدرة على تنفيذ أساليب أخرى للتقويم بسبب الاكتظاظ وضعف التكوين، الحرص على مصداقية النقط الممنوحة، التوجيهات الرسمية...
ويجدر بنا، في هذا السياق، أن نشير إلى أن هذه السلوكات هي ذات رسوخ في القناعات. فقد أكد لنا استطلاع مواقف الفاعلين التربويين أنه، باستثناء التحرش الجنسي الذي لقي إدانة واسعة وصلت نسبة %98، فإن بقية مظاهر العنف ضد الأطفال لا تلقى ما يكفي من الإدانة من طرف شريحة عريضة منهم لاسيما الأساتذة. وهكذا نجد أن %42 فقط من أساتذة التعليم الابتدائي يدينون إلزام التلاميذ بقواعد لم يشاركوا في وضعها في مقابل %67 من أساتذة التعليم الإعدادي، وأن %38 فقط من الأولين يتخذون نفس الموقف من العقاب البدني في مقابل %42 من الآخرين في حين يدين %48 فقط من مجموع المستجوبين ممارسة الإهانة أو التنكيد اللفظي في حق المتعلمين، ويستنكر %30 من مدرسي الابتدائي إلزام التلاميذ بالنظافة أو البستنة أو السخرة في مقابل حوالي %68 من مدرسي الإعدادي.
2. قواعد الحياة المدرسية والحد من قدرة التلميذ على التعبير والمشاركة:
تتحدد منابع العنف الممارس من طرف المتعلمين، كما يؤكد (Bernard Defrance)، في ثلاثة هي: التاريخ، والحياة الاجتماعية والحياة المدرسية.(2011:37 Fabrice Hervieu-Wane ;) وإذا كنا قد أوضحنا، في سياق حديثنا عن العنف الذي يمارس على الأطفال في المدرسة، كيف أن التقويم قد غدا نوعا من العقاب يستهدف تعلمات التلاميذ ومعارفهم، ويجعل من الجهل جريمة، ومن الخطأ خطيئة ومن المهمة امتحانا؛ فإننا سنعمل في هذه الفقرات، من خلال الميدان ومعطياته، على إبراز حقيقة أن العنف المسلط على التلميذ في الحياة المدرسية يمتد لشمل معظم جوانب هذه الحياة التي تحول قواعدها وإجراءاتها دون التلميذ ودون التعبير عن ذاته من خلال المشاركة الحرة والفاعلة في أنشطتها.
وقد تمثل السبيل الذي اتبعناه، في هذا الاثبات، في استطلاع مواقف مختلف مكونات الحياة المدرسية (التلاميذ، الأساتذة والإداريون) وتصوراتهم بشأن القواعد والإجراءات الحاكمة لهذه الحياة ومدى مساهمتها في تمكين التلاميذ من التعبير عن ذواتهم وتيسير مشاركة فعالة لهم فيها. وهذه هي النتائج التي توصلنا إليها:
أ- موقف التلاميذ من قواعد الحياة المدرسية:
يعد التلميذ وضمان تربية وتعليم جيدين له يؤهلانه للمشاركة الفاعلة في الحياة الاجتماعية موضوع وغاية الحياة المدرسية وما يوضع لتنظيمها من قواعد. لكن الحقائق المستقاة من الميدان تؤكد عكس هذه الحقيقة تماما. فقد أكد قرابة نصف التلاميذ المستجوبين في إطار هذه الدراسة ( %45) أنهم لم يستفيدوا قط من أية أنشطة موازية في مدارسهم كما أكد %30 منهم أنه نادرا ما يستفيدون من هذه الأنشطة. وهذه النسب وإن كانت تتأثر بالسلك الدراسي حيث عرفت بعض الارتفاع في الإعدادي بفارق %5 تقريبا إلا أن متغير الوسط ذو تأثير كبير يتجاوز أثره نسبة %30 لصالح الوسط الحضري.
وإذا كان هناك من دلالة لهذه الأرقام فهي أن غالبية التلاميذ في السلكين يشعرون أنهم لم تتح لهم الفرصة الكافية للتعبير عن ذواتهم والكشف عن مواهبهم؛ بل إن نسبة الـ %25 الذين أكدوا استفادتهم بانتظام من هذه الأنشطة تشكل في نظرنا مظهرا للتمييز الذي تمارسه الحياة المدرسية. فقد أكدت الاستجوابات التي أجريناها في إطار دراسة الحالة أن ترشيح التلاميذ للاستفادة من الأنشطة الموازية يخضع لمواصفات معينة أهمها النتائج الدراسية وانفتاح التلميذ وقدرته على التجاوب مع المنشطين. وهي معايير لا خلاف في كونها ذات طابع تمييزي.
ولا يقف الأمر عن هذا الحد؛ فعندما سألنا التلاميذ مباشرة عن مواقفهم من قواعد الحياة المدرسية لم تتعدى نسبة من صرحوا بكونها تسمح لهم بالتعبير عن ذواتهم والمشاركة الفاعلة %22,5، بينما صرح %60 منهم أنها تحد من قدرتهم على المشاركة والتعبير في حين أجاب %7,5 بكون تلك القواعد غير ذات تأثير على انخراطهم في الحياة المدرسية. وهذه الأرقام المتوافقة إلى حد كبير مع سابقتها، تثبت استياء غالبية التلاميذ من طريقة تنظيم الحياة في المجتمع المدرسي التي يعتقدون أنها تعيق رغبتهم في التعبير عن ذواتهم والانخراط الفعال والنشط في هذه الحياة. وهذه الحقيقة تأكدت لدينا أكثر من خلال النتائج المحصل عليها في إطار دراسة الحالة، والتي أشارت - بشكل فاجأنا- إلى معطيات كنا نعتقد أن التلاميذ يجهلون بعضها من قبيل: إلزامية انجاز الأنشطة الموازية خارج أوقات العمل، غياب الفضاءات الملائمة، كون الأستاذ يشتكي من كونه لا يجد الوقت الكافي لتصحيح الدفاتر...
ب- موقف المدرس تجاه الحياة المدرسية وقواعدها:
تؤكد المعطيات التي توصلت إليها الدراسة فيما يتعلق بمواقف الأساتذة من قواعد الحياة المدرسية، وفي توافق مع تلاميذهم، أن غالبية هؤلاء يرون أن هذه القواعد معيقة لمشاركة التلاميذ، وأنها تضيف إلى مختلف أنماط العنف السالفة الذكر عنفا من نوع آخر يتمثل في منعهم من التعبير عن أنفسهم والمشاركة الفاعلة. وفي هذا الصدد، فإن أكثر من نصف الأساتذة المبحوثين (%59) ينفون كلية انخراطهم في الأنشطة غير الصفية في مقابل نسبة ضئيلة تشارك فيها بانتظام (%27). وهذه النسبة تعرف ارتفاعا ملحوظا في السلك الإعدادي(%64) رغم تقلص عدد ساعات العمل ما يعني أن المسألة ليست مرتبطة فقط بهذا العامل. وهذا الاحجام يعود حسب هؤلاء الأساتذة إلى أسباب عديدة منها: عدم إشراك الإدارة لهم،غياب الفضاءات، وتوجه الإدارة إلى فرض أنماط محددة من الأنشطة بمضامين ومواعيد متحكم فيها.
وفيما يتعلق بمواقفهم النظرية من القواعد موضوع الاستجواب، سجلت الدراسة أن %12 من أساتذة التعليم الابتدائي و%8 من نظرائهم في الإعدادي قالوا إنها جاذبة للتلاميذ ومُمَكِّنة لهم؛ بينما %78 من الأولين و%80 من الأخيرين أكدوا أن هذه القواعد تعيق مشاركة التلاميذ الفاعلة في الأنشطة الموازية، وتحول دونهم ودون التعبير عن ذواتهم من خلالها في حين أتخذ %11 من مجموع المستجوبين موقفا محايدا منها.
ت- قواعد الحياة المدرسية في تصور الإدارة التربوية:
انطلاقا من كون المدير قطب رحى العمل التربوي في المؤسسات، عملت الدراسة على استطلاع آراء هذه الفئة من الفاعلين في المجتمع المدرسي. وقد كانت مواقفهم متناغمة مع "شركائهم" في هذه الحياة. وفي هذا السياق يقول حوالي %77,77 منهم إن قواعد الحياة المدرسية لا تسمح بمشاركة فاعلة للتلاميذ والأساتذة في الأنشطة الموازية، وذلك في مقابل %22,22 منهم فقط قالوا إنها لا تشكل أي عائق.
وتعود أسباب عزوف كل من الأساتذة والتلاميذ عن تنشيط الحياة المدرسية في نظر مديري المؤسسات المستجوبين إلى عدة اعتبارات أهمها: ضغط المقررات الدراسية، ضعف الحافزية، غياب البنية التحتية، وتقييد انجاز الأنشطة التربوية بأوقات خارج ساعات العمل.
3. فشل الإستراتيجية الوطنية في احتواء ظاهرة العنف:
خلاصة ما تؤكده النتائج التي عرضناها حتى الآن هي أن المدرسة المغربية لا تزال تشكل فضاء لممارسة مختلف أنماط العنف ضد الأطفال، وأن التربية التي تمارسها فيها هي تربية عنيفة. وإذا كان هذا وحده كفيلا بالحكم على فشل الإستراتيجية الوطنية لمحاربة العنف في الأوساط المدرسية في احتواء العنف المدرسي، فإن معطيات ميدانية أخرى تؤكد أن هذا الفشل مرده إلى عجز هذه الإستراتيجية عن التحول إلى برنامج عمل حقيقي تنتظم حوله مختلف الجهود من أجل احتواء الظاهرة.
إن أول ما استوقفنا بشأن هذه الاستراتيجية هي كون غالبية الفاعلين التربويين في غفلة عنها. فباستثناء هيئة الإدارة التربوية الذين أثبت %77,77 منهم فعلا اطلاعهم عن هذه الوثيقة ومعرفتهم بمضمونها، نجد أن %4 من التلاميذ، و%45 من الأساتذة فقط هم على إطلاع عليها. والغريب أن حوالي %71,11 ممن أطلعوا عليها من الأساتذة فعلوا ذلك بشكل سطحي، إذ لم يتمكنوا من ذكر ثلاثة أهداف صحيحة للإستراتيجية.
أما بشأن انخراط المبحوثين في أنشطة هذه الإستراتيجية، فقد سجلنا ارتفاع نسب عدم المشاركة والتي بلغت في صفوف التلاميذ والأساتذة والإداريين على التوالي %97، %60 و%77,77. ونشير هنا إلى أن جميع التلاميذ الذين سبق لهم أن شاركوا في أنشطة هذه الاستراتيجية، و%80 من الأساتذة، و%71,42 من الإداريين صرحوا بما يفيد عدم رضاهم عن نتائج هذه المشاركة.
وثالثة أثافي هذا الفشل هي اهتزاز ثقة مكونات الحياة المدرسية في هذه الخطة. فقد سجلت الدراسة أن %76 من التلاميذ المستجوبين و%67 من الأساتذة و%55,55 من أطر الإدارة التربوية لا يثقون في قدرتها (الاستراتيجية) على تحقيق غرضها. وتتوزع أسباب ذلك –كما تصوروها- بين: فوقيتها، وغياب إرادة حقيقية لتفعيلها، وعدم واقعيتها.
رابعا: خلاصات واستنتاجات:
المدرسة المغربية فضاء للعنف المتعدد ضد الأطفال، والتربية المدرسية تربية عنيفة، والمبادرات الرسمية في مجال محاربة العنف المدرسي لم تستطع حتى الآن احتواء الظاهرة. هذه هي الخلاصة التي توصلنا إليها من خلال هذه الدراسة، وهو ما يؤكد فرضيتنا التي تشدد على أن المدرسة المغربية قد أخفقت فعلا في التحول - في ظل الإصلاحات المتتالية- إلى مدرسة تقوم على الحرية وتشجع الإبداع وتراعي واقع المتعلمين وتعظم في وجدانهم قيمة الحرية وكرامة الإنسان؛ فرغم كل الجهود التي قيل إنها بذلت لا تزال الحياة المدرسية تقوم على العنف والتعسف والقهر، وتخنق حرية المتعلمين وتحطم شخصياتهم ولا تعظم في وجدانهم قيمة الحرية والكرامة الإنسانية.
إن هذه الحكم الذي توصلنا إليه بشأن المدرسة والتربية المدرسية يستند لمجموعة من الاستنتاجات التي خلصنا إليها في سياق هذه الدراسة، والتي نقدمها على النحو التالي:
ـ لقد تبين من خلال نتائج المسح الذي أجريناه على عينة من تلاميذ السلكين الابتدائي والإعدادي في المجال المدروس أن هؤلاء التلاميذ هم ضحايا أنماط مختلفة ومتعددة من العنف المسلط عليهم من عدة جوانب وعناصر من الحياة المدرسية. وهو ما يعني أن ظاهرة العنف ضد الأطفال هي ظاهرة مستحكمة في الحياة المدرسية.
وهذا العنف لا يسود فقط جوانب العلاقة بين الفاعلين التربويين والتلاميذ، بل يمتد لعناصر وجوانب أخرى في الحياة المدرسية كالمناهج ونظام التقويم كما أنه ليس مقتصرا على الممارسة بل هو عقيدة راسخة ومتأصلة في قناعات ممارسيه، ويجري تبريره بمبررات شتى.
ـ تظل القواعد المتبعة في تدبير وتنشيط الحياة المدرسية العائق الأكبر أمام انخراط كل التلاميذ في أنشطة موازية كفيلة بتمكينهم من التعبير عن ذواتهم والمشاركة الفاعلة في العمليات التي تجري ضمن هذا المجتمع. وهذه الحقيقة يؤكدها كل الفاعلين الذين استجوبناهم على اختلاف فئاتهم ومواقعهم وأدوارهم في الحياة المدرسية ما جعلنا نجزم أن هذه القواعد تسلط على التلاميذ عنفا من نوع متميز هو عنف المنع والحرمان والإقصاء.
ـ إن هذا الانتشار الواسع للعنف ضد الأطفال، وهذا الاستحكام الذي تعرفه الظاهرة التي تمتد لتشمل مختلف جوانب الحياة المدرسية يعود لأسباب ومصادر متعددة منها ما هو متصل بالفاعلين، ومنها ما هو ذو علاقة بالمناهج الدراسية وطريقة إعدادها، ومنها ما هو مرتبط بالفلسفة المعتمدة في تدبير المنظومة التربوية عموما والمؤسسات التعليمة بشكل خاص، وهي فلسفة لا تعظم بما يكفي قيم المشاركة والتمكين.
ـ لم تستطع الإستراتيجية الوطنية لمحاربة العنف في الأوساط المدرسية، وهي الجهد الرسمي الوحيد للوزارة الوصية على القطاع، أن تتحول عمليا إلى برنامج عمل جاذب تنتظم حوله جهود العاملين من أجل احتواء الظاهرة والحد منها. فالأساتذة والتلاميذ يظلون في غالبيتهم غير منخرطين فيها، وثقتهم في قدرة هذا البرنامج على تحقيق المراد منه مهزوزة إلى حد كبير. وهو ما لا يسمح لها - أي الإستراتيجية - بالاستمرار ويحرمها من الجدوى.
ـ يعود فشل الإستراتيجية المعنية في تحقيق غايتها لأسباب عدة منها ما يتصل بمضمونها الذي يتسم بعدم الواقعية النابع من كونها برنامجا أعد من فوق ودون إشراك حقيقي للمعنيين المباشرين؛ ومنها ما هو متعلق بغياب الإرادة لتفعيلها، والذي يجد تجليه الأوضح في عدم تخصيص أية موارد للمؤسسات من أجل تنفيذها. وهذا ما جعل الأساتذة والتلاميذ وحتى الإداريين ينظرون إليها باعتبارها مشروعا غايته تحصيل دعم المؤسسات الدولية المعنية، وديكورا للتجميل مثل غيره من المشاريع التي لم يروا لها أثرا على أرض الواقع.
وإذا كان البحث قد مكننا من الوقوف على واقع الظاهرة على النحو الذي قدمناه، فإنه بالمقابل قد جعلنا نبلور صورة على درجة من الوضوح يسمح لنا بتقديم توصيات بمثابة مقترحات حلول من أجل التجاوز والإصلاح. وهذه التوصيات نصوغها كما يلي:
ـ بخصوص علاقة الفاعلين التربويين بالتلاميذ، سجلنا من خلال تجربة البحث وما وفرته من معطيات ميدانية أن العنف الذي يسم هذه العلاقة يرجع في جذوره إلى الرغبة في تكريس سلطة الفاعل، وفرض احترامها على التلميذ باعتباره موضوع الفعل التربوي. ومن حيث المبدأ نعتقد جازمين أن هذه الغاية مشروعة؛ فالعمل التربوي يتطلب نجاحه ضرورة وجود نوع من السلطة الشرعية يمارسها المربي على المتعلم بحكم تجربته وخبرته في الحياة وبحكم الرسالة المنوطة به اجتماعيا وقانونيا. لكن الذي لا ينبغي التغافل عنه في هذا الإطار هو خطورة التحول من إرادة الحفاظ على السلطة إلى السقوط في فخ التسلط بما هو إلغاء لكينونة المتعلم وامتهان لإنسانيته ودوس على كرامته الآدمية. وشتان ما بين الأمرين.
من هنا، يبدو لنا - والله أعلم- أن حل هذا الإشكال مرتبط بقدرة الفاعل التربوي على إبداع حل جذري لقضية السلطة هذه. وفي هذا الصدد، نعتقد أنه إذا كانت سلطة الأستاذ تستند في جانب مهم منها على قوة شخصيته لا جبروته فإنها تبقى - في جانب على قدر من الأهمية أيضا- مرتبطة بأمرين اثنين: أولهما قدرة الفاعل على فهم أواليات هذه السلطة وأسسها السليمة وتقنيات تدعيمها،2011:13) Fabrice Hervieu-Wane;) والثاني هو: قدرته على حسن التعرف إلى التلاميذ اجتماعيا ونفسيا وحسن التواجد إزاء الوضعيات الصفية والمدرسية.
ويتمثل السبيل الذي نوصي به في سبيل نيل هذه الغاية النبيلة فيما يلي:
- تنشيط التكوين المستمر للفاعلين التربويين في كل ما يتعلق ب: بناء وتدبير السلطة، وضع وتفعيل قواعد التدبير الديمقراطي للحياة المدرسية، وتقنيات التصرف الجيد إزاء وضعيات العنف والمناكفات الصفية...
- إنشاء مصالح للتتبع الاجتماعي والنفسي للتلاميذ في المؤسسات التعليمية، توكل لها مهمة المتابعة النفسية والاجتماعية للتلاميذ وتقديم الاستشارة للفاعلين التربويين في المجال.
- فيما يتعلق بالمناهج التربوية ونظام التقويم، نعتقد أن العنف الذي يسلط على التلاميذ انطلاقا من هذا المنبع لا يكفي من أجل وضع حد له مجرد إجراء مراجعة شكلية لمضامين المقررات؛ بل المسألة - في نظرنا- تستدعي ضرورة إعادة النظر في الفلسفة المؤطرة لنظامنا التربوي ككل وذلك عبر نقاش مجتمعي معمق يشارك فيه جميع المتدخلين، ويتناول القضايا الجوهرية مثل: القيم والغايات التربوية وسياسات التقويم ومبادئ تدبير المنظومة التربوية في مختلف مستوياتها.
- وينطلق اقتراحنا هذا من حقيقة كون العنف النابع من المنهاج الدراسي ونظام التقويم ليس متعلقا فقط بقناعات الفاعل التربوي أو بالإجراءات التدبيرية العملية للمنظومة بل هو من صلب الفلسفة التربوية المتبعة ومنهجية تبنيها.
- أما فيما يتعلق بالحياة المدرسية، فإنه وإن كنا متيقنين أنها ينبغي أن تشكل جزء من النقاش المعمق حول المنظومة التربوية، فإننا نؤكد أن تجاوز الوضعية الحالية تستدعي على المدى القصير والمتوسط القيام بمجموعة من الإجراءات الكفيلة بتخفيف حدة العنف الذي تمارسه على المتعلمين. وهذه الإجراءات تتمثل أساسا في:
- تخويل الأطقم التربوية في المؤسسات التربوية صلاحية وضع القواعد المنظمة للحياة المدرسية مع ضرورة تقديم الخبرة والمساندة الضرورية لضمان أن تكون هذه القواعد تشاركية وممكنة للجميع لاسيما التلاميذ من حيث المضمون ومن حيث منهجية إعدادها.
- ضرورة تخفيض ساعات عمل الأساتذة داخل الأقسام من أجل إتاحتهم الفرصة لتنشيط الحياة المدرسية عبر أنشطة موازية قمينة بضمان اندماج حقيقي للتلاميذ في هذه الأنشطة يمكنهم من التعبير عن ذواتهم والكشف عن مواهبهم. وهذا الأمر لا شك يتطلب توفير العدة البشرية الكافية والتكوين اللازم.
- توفير التمويل اللازم لتجهيز الفضاءات التي يتطلبها انجاز مختلف الأنشطة التربوية الموازية من مسرح ورياضة وفنون تشكيلية وسينما...
- وختاما، وإزاء الفشل الذي منيت به الإستراتيجية الوطنية لمحاربة العنف في الأوساط المدرسية، نعتقد أن الحل الذي من شأنه أن يساعد على المدى القصير على احتواء ظاهرة العنف ضد الأطفال يكمن في تمكين المؤسسات التربوية من القدرات المؤسساتية والكفاءات البشرية والإمكانيات المادية من أجل بلورة وتنفيذ مشاريع وخطط محلية لمحاربة كافة أنواع العنف الموجه ضد الأطفال في الحياة المدرسية.
- أملنا أن تكون هذه المقترحات واضحة بما يكفي لأصحاب القرار في الشأن التربوي وأن تجد أذانا صاغية وأعينا تنظر إليها باعتبارها صرخة ممارس مهموم، أحزنه واقع الوضع التعليمي واستحكام العنف وتغلغله في مختلف مفاصل الحياة المدرسية وآلمه مصير أبناء وطنه.
قائمة المراجع:
1. القرآن الكريم.
2. المنجد في اللغة والأعلام، الطبعة السابعة و الثلاثون، دار المشرق، بيروت، 1998.
3. المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، دليل الحياة المدرسية، 2008، نسخة إلكترونية منشورة بموقع الوزارة: www.men.gov.ma
أوزي أحمد، منهجية البحث وتحليل المضمون، منشورات علوم التربية عدد 15، الطبعة الثانية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2008.
5. السورطي يزيد عيسى، السلطوية في التربية العربية، سلسلة عالم المعرفة عدد: 362، منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، الطبعة الأولى، مطابع دار السياسة، الكويت، أبريل 2009.
6. شداتي إبراهيم، (إعداد) الاستراتيجية الوطنية لمحاربة العنف في الأوساط المدرسية: دليل عملي، لفائدة وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي (المغرب)، نسخة إلكترونية، 2009.
عبد الجواد أحمد رأفت، مبادئ علم الاجتماع، مكتبة نهضة الشرق، جامعة القاهرة، بدون تاريخ.
8. غريب عبد الكريم وآخرون، معجم علوم التربية: مصطلحات البيداغوجيا والديداكتيك، سلسلة علوم التربية عدد 9-10، منشورات عالم التربية، الطبعة الثالثة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 2001، ص: 362.
9. غيدينز أنتوني ، علم الاجتماع، ترجمة فايز الصياغ، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 2005.
10. ناشف إسماعيل، صمت الظواهر: مقاربات في سؤال المنهج، مجلة إضافات عدد 10، مجلة تصدر عن الجمعية العربية لعلم الاجتماع بالتعاون مع مركز دراسات الوحدة العربية، ربيع 2010.
11. نور الدين محمد عباس، التنشئة الأسرية، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 2005.
12. Hervieu-Wane Fabrice ; Guide de jeune enseignant; éd: sciences humaines; 2011.
[1] - يتجاوز الانسان مرحلة الطفولة بإتمام السنة السادسة عشر من عمره حسب كثير من المختصين وهذا ما تبنيناه.