تتأمل فلسفة التربية في الاشكاليات العامة للتربية وفي توجهاتها الكبرى التي قد تختلف باختلاف المجتمعات و الغايات التي ترومها لأنظمتها التربوية، تطرح الفلسفة أسئلتها المتجددة حول غايات التربية في مجتمع ما، وحول الممكن منها وغير الممكن، وفلسفة التربية في علاقتها بباقي علوم التربية لا تختلف عن علاقة الفلسفة عموما بباقي العلوم الانسانية حيث على الرغم مما حققته تلك العلوم من استقلالية عن الفلسفة على مستوى الموضوع و المنهج والمفاهيم، فإنها ترتبط بالفلسفة التي تنظر في اشكالياتها الابيستمولوجية.
هكذا قد تنظر فلسفة التربية في النماذج البيداغوجية وتتساءل حول جدواها وتدعو إلى تجديدها كلما فرضت ذلك السياقات التاريخية والاجتماعية.. لقد شكلت الفلسفة البراغماتية لحظة انبثاق مقاربة التدريس بالأهداف كنموذج بيداغوجي، في سياق تاريخي عرف هيمنة البراديغم النفعي الذي اختزل المعرفة كموضوع و اختزل الانسان كذات عارفة تتلقى المعرفة بشكل تقني في اطار ثنائية: مثير-استجابة.
لأجل ذلك ستتساءل الفلسفة لاحقا عن جدوى اختزال المركب إلى بسيط: اختزال الانسان في البعد العقلي-المعرفي واختزال المعرفة في تخصصات معزولة ، في هذا السياق يرصد ادغار موران أحد أهم الاشكالات التي سقطت فيها التربية المعاصرة حين وقعت فيما سماه "العمى المعرفي" الذي تحولت معه المعرفة في التقسيمات المدرسية للمناهج التربوية إلى مواد وتخصصات مدرسية معزولة تنعدم فيها الروابط الضرورية والتقاطعات الطبيعية، فأصبحت المعارف بذلك ترصيصات معارفية Des savoirs qui existent, de manière juxtaposéeفي ذهن المتعلم يصعب عليه معها إيجاد التوليفات الضرورية بينها وبالتالي توظيفها في سياقات جديدة عن تلك التي اكتسبت فيها.
ومن خلال هذه التساؤلات سيتم التمهيد لبراديغم جديد ينظر إلى الانسان ككائن مركب يتداخل فيه المعرفي بالوجداني إنه براديغم: التصرف، المركب، التوظيف، التوليف، الادماج، إزالة الحواجز بين المواد، المجزوءات، السياق... وغيرها من المفاهيم التي ستشكل نموذجا بيداغوجيا جديدا ارتبط بالكفايات، تتجه معه التربية وفق براديغم فلسفي يرى فيه إدغار موران بعدا كوكبيا سماته الأساسية: وحدة النوع البشري، ووحدة المعرفة البشرية ومع هذه السمات تسقط كل الحواجز : جغرافية كانت " سقوط الدولة القطرية " أو ابستمولوجية " سقوط التخصصات المعرفية" بمعنى آخر: لا وجود في البراديغم الجديد لنماذج تنموية دون تكامل وتكتل بين الدول، ولا معرفة دون إزالة الحواجز بين مكوناتها ودون توليفات بين مختلف التخصصات المعرفية التي انفصلت وتجزأت لأغراض مدرسية فقط.
مع النموذج الجديد سيسترجع الانسان مركزية الكون التي أطلقها مبدأ الذاتية "الأساس الفلسفي للحداثة"، سيصير المتعلم مركز الفعل التربوي وبذلك تكون النماذج البيداغوجية انعكاسا ونتاجا لإدراك المجتمع لتلك الذات ولهامش الحرية التي يريده لها، و هنا أيضا تكمن مهمة أخرى من المهام التي تتولاها الفلسفة في علاقتها بالتربية، وباختصار، نستطيع أن نجمل أن تجديد النماذج البيداغوجية هو في الأصل تجديد للبراديغمات الفلسفية.
إن تجديد النماذج البيداغوجية إذن هو انخراط ومواكبة للتحولات التي تعرفها البراديغمات الفلسفية المتجددة بتجدد السياقات التاريخية، الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وإذا كان المغرب قد تبنى نموذج الكفايات فإن الأمر لم يتم من باب الموضة أو الترف الفكري أو ما شابه ذلك، بل جاء هذا التبني في إطار رؤية من المفروض أن يرسمها من أوكلت لهم مهمة التفكير في استراتيجيات هذا البلد، من يبنون الفلسفة التربوية معتمدين في ذلك على التوجهات الكبرى التي اختارها المغرب في علاقة بالمنظومة الكونية وسياقاتها.. التي تحكمها بالضرورة براديغمات توجهها في إطار عولمة حقيقة ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، لذلك يفهم جيدا لماذا تبنت العديد من الدول نموذج الكفايات، ولذلك نفهم لماذا أصبح للمجتمع الدولي منظروه في التربية، من أمثال إدغار موران، الذين يشرفون على تجديد البراديغمات الفلسفية ، ولذلك نفهم أيضا لماذا شرعت العديد من الدول في الاشتغال ببيداغوجيا الادماج في الآن ذاته؟ على أنه ينبغي أثناء تفاعلنا مع كل هذه الأسئلة ألا نختار أسهل الطرق وننزلق وراء القراءات الاختزالية "التبعية، المؤامرة، البنك الدولي...."، في هذا السياق نفهم كذلك لماذا جاء إلغاء العمل ببيداغوجيا الادماج مفاجئا؟ لأنه ببساطة لا يخرج بدوره من دائرة القراءات الاختزالية.
إن اعتماد هذا البيداغوجيا لم يأت معزولا عن رؤية متكاملة يلتقي فيها السياسي بالاجتماعي والاقتصادي وبالاستراتيجية العامة التي انطلق فيها المغرب منذ سنوات، وهي مبنية على مؤشرات تنموية وعلى معطيات واحصائيات دقيقة في الاقتصاد والديموغرافيا و و و..، كما أنها مبنية على امكانات المغرب في تمويل قطاع التربية والتكوين. لذلك فإيقاف هذا النموذج خارج سياقاته تصرف يمكن أن يعتبر من باب بتر الأشياء من سياقاتها أو بعبارة أخرى بتر النماذج البيداغوجية من البراديغمات الفلسفية التي تحكمها.