تأمّلات شعريّة سريّاليّة: نَسَيْتُ أنْ أَنْسَى - د.الحبيب النّهدي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

تصدير "إنّنا نتمثل مسافرين وسط سيل همجي يحمل معه أحجارا" نتيشه

القسم الأول: نَسَيْتُ أَنْ أَنْسَى سنواتي الأولى
نَسَيتُ أن أنسى مسقط رأسي
نسيت أن أنسى الماء المسكوب. في واد غير ذي زرع
والظلّ الممدود
تحت أشجار "الكالتوس"
وسكّة القطار أراها بلا نهاية
ونسيت أن أنسى "سيدي بومدين".
ومقبرته وأشجار الزيتون
ونسيت أن أنسى جيراننا

فالأسماء تدلّل على ناسها.
والأشياء تدلّل على عبقريّة الأيادي.
أنّى لي أن أنسى جدتي وخالي شيخ الطريقة الصوفيّة
أنّى لي أن أنسى حكايات الليالي الموغلة في ظلمة كالحة
ولنا أحلامنا تبشرنا بالأضواء النّواريّة في روحنا الفلكيّة
،،،
نسيت ما الذي يجب تذكّره كي أتذكّر ما قد نسيته؟
أنّني لم أولد للفرح الدائم الحزين
وإنّما ولدت للحزن الذي يعطي معنى للفرح
نسيت أن أجيب كيف أن العبقريّة لا تولد مرتين؟
وأن الفصول لها وقع الجنون عليّ
نسيت أن أنسى طفولة تقتات من أمّنا الأرض
لنا في مواسم القمح ما تخلفه الآلة الحصاد تجمعه أمي في عناء
ونسيت أن أنسى التيه في مفترق المسالك الوعرة نحو جبل "للاّ الطويلة" (وليّة صالحة)
كان قرص الشمس يطلّ على "كِيمَنَا" –الكوخ- في ربوة النزول المستحيل
وحنو المدى عليّ في أفق المغيب
أرى دوما الأزهار في حياتي دون أن أجردّها من أشواكها
وأعدّها عدا لعلّي على وقعها أتفاءل بالجديد
ولنا في الصبّار جدار صدّ ريح ولنا فيها درس احتمال للجفاف
كان لنا في استقبال النسر طقس الحرب
ولنا في دفن القطة طقس الموت
كي نظلّ نحبّ الحياة
ولنا في صيحة الديك طقس الوقت
كي نظلّ نحبّ الموسيقى الروحانيّة
ولنا في خراب مساكن قرمديّة لمستعمر علامة انتصار
وإذا ما السحب مالت على أفق المنتهى كان لنا فيها عرس ذئب.
نسيت أن أنسى كيف من روعة الوجود ضعنا وتلقفنا المسخ وتحولنا إلى الفوضى؟
أنا لا أقول الحقيقة وأنا أعيشها إلاّ حين أسمع صوت المكذبين والمشككين.
وأن تهت في ثنايا البعض فقط لأدلّهم أنّهم ذاهبون لحتفهم ثم أنسحب
القسم الثاني: شتاؤنا كان وعيا بالرعب
نسيت أن أنسى الشتاء وعي بالرعب!
ما الذي كان يعصف بي ويقتلعني من جذع نوراني
وكان بأسه شديدا يقتل من غير أن يترك أثرا
الشتاء وعيّ بالرّعب
أولى سنواتي
كان لي في طفولتي وعي بالرّعب
وأكبر بلا انتظارات بلا حلم بلا ألم
نزعتي مفرطة في الاكتفاء بالعيش
وليس لي أنّ أستعيد ما لا يستعاد
وحيث كنت لا أعي لألعن الحاكمين
أو أعلن تمرّدي مع قدوم كلّ شتاء
فلي فيه وعي برعب مفزع ليس لي فيه احتماء
إذا ما عصفت الريح وولولت وناحت في شقوق الفراغ
تفنى روحي وتنام كزهرة في الطّين
وإذا كان وميض البرق نُذرت بالصاعقة
أخاف أن تهتزّ أبواب الخراب
وتمزّق لحظة الهدوء
وكنت أستفيق على وقع المطر فتنذرني بفيضان الهدير
هي لحظة خوف من انجراف ويقظة قلق طوال ليالي الكآبة
وتسقط الثلوج
ويلسعني البرد
إنّما أولى الوعي بالشتاء وعي بالرعب
أي شتاء لطفولة تذوب ذوبان الثلّج
ليس لي سلة مهملات في الذاكرة
لي ذاكرة للمهملات
للهوامش التي تُسائلني فارتبك!
مساكين أطفال بلادي في الصقيع
قد قتلوا فيهم الحلم وتركوهم لمخالب الواقع المريض
شتاء الفقراء وعي برعب الفناء
إذا ما فنّت روحي زهرة في الطين
لم تمت برغم الجراحات والمحن
فأدرب إرادة التمرّد والعصيان
على ايقاع تمرّد على كلّ شتاء في العقول وعلى ارتجاف القلوب في بلاد تئن على وقع كثافة الضباب والصقيع والخراب
القسم الثالث: استعيد ما لا يستعاد
طفولة لن تردّ
استعيد ما لا يستعاد
طفولة لن تردّ
ولي فيه ما يعاش ولا يقال
تشاغبني الذكريات
استرد سنواتي الخمس في حيّنا بالملاسين (حيّ قديم من أحياء قريّة بوعرادة من تونس)
النساء ونسائم المساء
لا نراهن لأنهنّ في كلّ مكان
إذا ما رششن بالماء البطحاء
صنعن لنا الحياة
أمامنا كانت جارتنا تفاحة
وخلفنا كانت جارتنا صُمعة
كنّا بين غريزة البقاء والطهارة
معنى لهذا الإنسان المغامر
فإذا كلّ القريّة جنّة مقام
وإذا أنا على اللوح المحفوظ أرتّل سورة إقرأ وانتهي حيث سورة الانسان
أرى الكون ممركزا في ذاتي
ولا يمكن أن أرى وجودي غير وجودي في هذا المكان الذي لا يحدّ كروحي في جسد يحدّ
ولي في المنعطف زيتونة باسقة تلقى ظلالها على لهيب انتظاراتي
وكانت حنفية الماء العمومية احتفالا وانتصارا على العطش الوجودي وقحط مسالك المصير
وإذا ما غابت الشمس رأيتني أحمل ما خزّنته من نور ابتدد به ظلام الليل المخيف
استعيد ما لا يستعاد طفولة لن تردّ
وذكريات كانت لنا فيه ما مضى مستقبلنا الآتي
إذا ما مرّ القطار لم أخفّ لأن ذاتي ترجّت بالأسئلة قبل رجاتّه
استعيد ما لا يستعاد طفولة لن تردّ

 

 

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟