تقديم
يوفر المقال تسلسلا تاريخيا مقتضبا لمفهوم العدميّة وتحوّلاته بدءا من الثورة الفرنسية وصولا إلى عصر الحقائق البديلة. الموقف الذي يُعد سلبيا، وغير مكترث، يبدو ضربا من ضروب المقاومة وإعلان الرفض عند التعمق فيه قليلا.
نص المقال:
يرى معظم المؤرخين أن الثورة الفرنسية كانت مصدر الأيديولوجيات التي شكّلت عصرَيْ الحداثة وما بعد الحداثة. ولا يصعب عليهم، في أي عقيدة كانت، من الليبرالية إلى المحافظيّة، ومن الشيوعية إلى القومية، ومن الشموليّة إلى الفوضوية، إثبات نسبها للأحداث التي اندلعت في عام 1789. عادة ما تفشل عقيدة واحدة في الانضمام للقائمة، لكنها الآن، فيما يبدو، تسيل من أقلام المحللين، ألا وهي؛ العدمية.
في واحدة من أغرب وصايا الثورة، قام البارون دو كلوتز، جان بابتيست دي فال دي غراس، أو كما نعرفه باسمه القلميّ، أناخارسيس كلوتز، باعتناق مصطلح "العدمية". كان مصمما على أن تكون الجمهورية الفرنسية الناشئة علمانية حقا، فشدد على أهمية أن يتجنب مواطنوها أي إشارة للإله. حتى الملحدون، بحسب قوله، يُبقون ذكر الإله حيا في إنكارهم لوجوده. لهذا، صدح قائلا: "إن جمهورية حقوق الإنسان أقول بصرامة لا هي ملحدة ولا هي مؤمنة، وإنما عدمية".
ومع أن العدمي الطموح لم يعش بما يكفي لكي يحقق أمله في تأسيس جمهورية على سطح القمر، حيث فقد كلوتز رأسه حرفيا في فترة "عهد الإرهاب"، إلا أن المصطلح الذي أتى به حظي بحياة طويلة متغيرة. ومما لا شك فيه أنه يمر بنوع من إعادة البعث هذه الأيام، فحتّى أقل الناس استهلاكا للأنباء يتعثرون بالمصطلح، لا سيما عندما يطلّ على مسرح السياسات الأميركية. فالبحث في غوغل عن "ترامب" و"عدمية" يسفر عما يزيد على نصف مليون نتيجة، تملأ الشاشة من كلا طرفي الطيف السياسي.
لكن علينا ألا نقفز للاستنتاج بأن العدمية مسألة ذاتية. فلطالما عوملت مفردة "الفاشية"، مثلا، كعصا نضرب بها على رؤوس الآخرين، متناسين أنها تُحيل على تصوّر صارم وواضح للحياة السياسية والاجتماعية. والأمر سيان مع العدمية، وإن كان على مقياس أوسع. وبما أن الذكرى المئوية الثانية لوفاة دوستويفسكي على الأبواب، والحكومة الروسية، والمؤسسات الأكاديمية، والمنظمات العالمية مثل اليونسكو تنوي تنظيم الاحتفالات لعام 2021، فمن سواه يمكن أن يعيننا على اكتساب فهم أفضل لمفهوم هلامي جدا إنما أساسي جدا في الوقت نفسه؟
بالطبع لم يكن دوستويفسكي هو من صاغ المصطلح ونشره. لكن المصطلح انطبق عموما على مجموعة شبه سرية من الطلاب في منتصف القرن التاسع عشر في روسيا، تفرقهم الإستراتيجية ويجمعهم العزم على الإطاحة بالدولة القيصرية القمعية. رواية "الآباء والبنون" التي نشرها تورجينيف في عام 1863 عززت بشكل واضح من حضور المصطلح في المخيال الشعبي، حيث يجسد بطل الرواية الكاريزماتي، يفني فاسيليفيتش بازاروف، مفهوما بطوليا للعدمية. فعند سؤاله عما هو أو مَن هو العدمي، يجيب بازاروف بفخر: "إننا نتصرف وفقا لما يفيدنا… هذه الأيام أكثر الأشياء إفادة على الإطلاق هو الرفض - نحن نعلن رفضنا". وعندما يصر محاوره على أن بناء عالم أفضل أمر مهم أيضا، يقاطعه بازاروف قائلا: "هذه ليست مهمتنا نحن.. أولا؛ علينا أن نشق الطريق".
فزِعا من الأنشطة الإرهابية التي أقدم عليها العدميّون الشباب الذين بنى عليهم تورجينيف شخصية بازاروف، قام دوستويفسكي بتحويل هذا المذهب السياسي إلى شيء أكثر ضخامة وإثارة للفزع. في رواياته الأخيرة، التي تمتد من "الجريمة والعقاب" حتى "الشياطين" وصولا إلى "الإخوة كارامازوف"، يفيد دوستويفسكي بأن الشبح الذي يطارد أوروبا ليس الشيوعية وإنّما العدمية. هذه العقيدة، بعكس نظيراتها، عنت أن جيفة الماضي لا تستحق عناء الصون، وأنَّ تعاسة الحاضر تطلّبت من البشر التصدي، وأن وعد المستقبل سمح للبشرالقيام بكل ما يلزم لتحقيقه.
في حين اكتفى بازاروف تورغينيف بإطلاق التصريحات، كان راسكولينكوف دوستويفسكي يرسم الخطط ويتحرك بناء عليها. لقد أخذ دوستويفسكي العدمية من حقلَيْ السياسة والأخلاقيات وألقى بها في الميتافيزيقا؛ إن كان كل ما نفكر فيه محض حكاية جوفاء، إن كان كل ما نفعله هباء منثورا، فإننا سنجد أنفسنا في حل لا من الفضيلة فحسب وإنّما من إمكانية المعنى ذاته. كل شيء يصير مباحا، كما يقول إيفان كارامازوف نفسه، عندما لا تعود تؤمن بشيء وعندما تنزع الأهمية عن الأشياء. وفي حين أن العدمية السياسية التي تحوم حول الشخصيات في الآباء والبنون تتنصل من المؤسسات السياسية والاجتماعية، فإن العدمية الميتافيزيقية التي تطارد الشخصيات في الإخوة كارامازوف تتنصل من الوجود ذاته.
ولكي نفهم مدى اقتران هذا القول بعصرنا الحالي، فلا بد أن نُلقي نظرة على عمل الرجل الذي أفضت قراءته لأعمال دوستويفسكي إلى تعريف مصطلح العدمية المتعارف عليه اليوم. في عام 1887، كتب فريدريك نيتشه متحمسا إلى صديق بشأن اكتشاف كان قد قام به للتو: "لم أكن أعرف أي شيء بشأن دوستويفسكي حتى أسابيع قليلة… وإحساس التماثل (أو ماذا أسميه؟) ساورني على الفور، وكانت فرحتي تتجاوز كل حد". فكما لاحظ نيتشه، فإن الأديب الروسي لم يكن قد نسف العدمية السياسية فحسب، إلا أنه نسف أسس التنوير، التي بُنيت بطينة العقل ووسائل التكنولوجيا، وأحالها إلى فُتات.
في ذلك العام نفسه، وبينما هو لا يزال يقرأ دوستويفسكي، طرح نيتشه سؤالا بقيمة 64000 ألف دولار أميركي هو: "ما الذي تعنيه العدمية؟". وبما أن نيتشه سيظل نيتشه، كان لديه الجواب سلفا، وكتبه بالأحرف المائلة: "أن تحطّ أسمى القيم من قيمة نفسها". عبر كلمة "القيم"، لم يكن نيتشه يقصد إلا العقل والحقيقة. لقد كان أسيد[1] العقل، بينما هو يفتت كل إيمان حملناه يوما، يفتت نفسه أيضا. ليتركنا في طريق كونيّ مسدود، بجائزة ترضية بائسة، هي تأكيد ينطوي على مفارقة بـ "عدم وجود عالم حقيقي". وما يفعله هذا الأمر بكل مَن يتحرّقون للمعنى هو عينه ما يفعله كأس فارغ بشخص يتحرق لشربة ماء.
لكن دوستويفسكي ونيتشه قاما بتقديم وصفات طبية إلى جانب وصفهم لمأزقنا المشترك. بالنسبة إلى الأول، كان الجواب يتمثّل في الإيمان الديني، لا سيما المسيحية الأرثذوكسية الشرقية، في حين كان الجواب لدى الأخير في الإيمان الجمالي، في الاعتقاد بأن الفن وحده يمكن أن يسبغ المعنى على العالم. لكن بالنسبة للكثيرين منا اليوم، فإن هذه الإجابات لا تفي بالغرض. فنحن نعيش في عالم ينطوي على تماثل ناقص مع ذلك الذي استشرفه كلٌّ من دوستويفسكي ونيتشه. إنه عالم غارق بالادعاءات والادعاءات المناقضة الخاصة بالأخبار الكاذبة بقيادة رئيس قدّم أكثر من 12000 ادعاء كاذب منذ دخوله البيت الأبيض. في عالمنا، فإن المستشارين الرئاسيين انتقلوا من السخرية من "مجتمعات مناصرة الحقيقة" إلى الإقرار بأنَّ "الحقائق البديلة" هي كل ما نحتاج إليه. في عالمنا بالكاد تلقى الحقيقة الموضوعية آذانا مُصغية وسط صخب الحقائق المنحازة.
ومع ذلك، لا يجوز الخلط بين العدمي والنرجسي أو الكاذب، أو المخرب أو الانتهازي. بعكس هؤلاء، فالعدميّ يوفر نوعا من الصدق والأمل. يقول نيتشه: "إن العدمي شخص يريد عالما على غير هذه الشاكلة، والعالم على غير هذه الشاكلة ليس موجودا". ومع أن هذا التفسير يأتي على عكس الخلاصة التفسيرية لمعظم النيتشويين، فإنه يعني بأن العدمي، وقد وصف نيتشه نفسه، في نهاية المطاف، بأنه "أول عدمي أوروبي مثالي"، يحيط بكل أبعاد الوضع، ويبرز أهميته، ومن ثم يبحث عن إجابة. أضف إلى ذلك، ومرة أخرى على عكس النرجسي، إن عدمي نيتشه يسعى لاجتياز ذلك الوضع عبر قهر ذاته، لا رعايتها.
لا يدّعي دوستويفسكي ولا نيتشه بأنهما منظران سياسيان. لكنّ المرء يظن، مع ذلك، أنهما لو كانا كذلك بالفعل لفكّرا مرتين قبل التخلي عن مثل الديمقراطيات الحديثة. فنحن نشهد عالما سياسيا منزوعا من القيم التي أعلن دوستويفسكي أنها لم تعد صالحة بدون الإله والتي أعلن نيتشه موتها مع الإله. وعلينا أن نستعيد العالم الذي كان والعالم الذي سيكون.
________________________________________________
هامش:
1- الأسيد هو مادة حارقة.