كل علامة تتضمن أو تستلزم ثلاثة أنواع من العلاقات. النوع الأول علاقة داخلية، وهي التي تصل بين الدال والمدلول. ثم هناك علاقتان خارجيتان: أولاهما افتراضية هي التي تجمع العلامة بمخزون خاص من العلامات الأخرى، من بينها نختار العلامة المرغوبة لندرجها ضمن الخطاب؛ وثانيتهما فعلية متحققة داخل الملفوظ، وهي التي تربط العلامة بغيرها من العلامات التي تسبقها أو تتلوها.
النوع الأول من العلاقات (الداخلية) يتجلى بوضوح في ما يسمى عادة الرمز؛ فالصليب مثلا يرمز للمسيحية، جدار الفيدراليين يرمز للكومونة، واللون الأحمر يرمز لمنع السير؛ سنسمي هذه العلاقة الأولى علاقة رمزية، رغم أننا لا نجدها في الرموز فقط، ولكن نجدها أيضا في العلامات، ( ويمكن اعتبارها بمعنى عام جدا رموزا اصطلاحية خالصة).
المستوى الثاني من العلاقات يستلزم، بالنسبة لكل علامة، وجود مخزون أو "ذاكرة" منظمة من الأشكال التي قد تتميز العلامة بأحدها ، فتحقق بهذا الشكل، مهما كان ضئيلا ، معنى مختلفا. في كلمة lupum (كلمة الذئب بعلامة النصب)، نجد أن العنصر um ( وهو هنا علامة، وبصفة أدق مورفيم) لا يكشف عن معناه كعلامة إعرابية (دالة على المفعولية) إلا من خلال تعارضه مع عناصر اشتقاقية أخرى محتملة مثل – us (في lupus للدلالة على الفاعلية) أو –i (في lopi للدلالة على الجمع) أو –o (في lopo للدلالة على الإفراد)، الخ. واللون الأحمر لا يدل على المنع إلا من خلال تعارضه بشكل منظم مع اللونين الأخضر والبرتقالي (ومن البديهي أنه لو لم يكن هناك غير الأحمر، لتعارض الأحمر مع غياب أي لون). هذا المستوى من العلاقات هو مستوى النسق، والمسمى أحيانا مستوى استبداليا paradigme . سنسمي هذا النوع الثاني من العلاقات، علاقة استبدالية.
حسب المستوى الثالث من العلاقات، لا تتموضع العلامة إزاء "أخواتها" (المفترضات)، ولكن إزاء "جاراتها" الفعليات. ففي جملة "الإنسان ذئب للإنسان" (homo homini lupus )، تدخل كلمة "ذئب" في علاقات معينة مع كلمة "الإنسان" ومع عبارة "للإنسان"؛ وفي ما يتعلق باللباس، يتم الجمع بين عناصر الهندام حسب قواعد معينة: إن ارتداء معطف فوق سترة جلدية يعني أن نقيم بين هاتين القطعتين جمعا مؤقتا ولكنه دال، يشبه الجمع بين الكلمات داخل الجملة؛ هذا المستوى من الجمع (بين عناصر مختلفة) هو مستوى المركب syntagme. وعلى هذا الأساس سنسمي النوع الثالث من العلاقات علاقة مركبية.
ويبدو، ونحن نهتم بظاهرة الدال ( وهو اهتمام قد يأتي من آفاق جد مختلفة)، أننا نضطر إلى تركيز هذا الاهتمام على واحدة من هذه العلاقات أكثر من الأخريين؛ فتارة "ننظر" إلى العلامة من زاوية مظهرها الرمزي، وتارة من زاوية مظهرها النسقي (الاستبدالي)، وتارة ثالثة من زاوية مظهرها المركبي. ويرجع ذلك ببساطة إلى جهل حقيقي بالعلاقات الأخرى المجاورة: لقد عميت الرمزية خلال وقت طويل عن إدراك العلاقات الشكلية المتحكمة في العلامة؛ ولكن حتى حينما تم الانتباه لهذه العلاقات الثلاث ( في اللسانيات مثلا)، فإن كل دارس ( أو كل مدرسة) يميل إلى تأسيس تحليله على بعد واحد فقط من أبعاد العلامة، فتحدث هيمنة لرؤية واحدة على مجموع الظاهرة الدالة، بحيث نجد أنفسنا، كما يبدو، أمام حالات إدراك سيميولوجية مختلفة ( يتعلق الأمر طبعا بكيفية إدراك المحلل، وليس إدراك مستعمل العلامة). إلا أن اختيار علاقة واحدة مهيمنة يعني في كل حالة اختيارا لإيديولوجية محددة؛ هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن كل حالة من حالات إدراك العلامة ( الإدراك الرمزي، الاستبدالي أو المركبي)، أو على الأقل بالنسبة للحالة الأولى من جهة ، ثم الحالتين الأخريين من جهة ثانية، هي لحظة تفكير فردي أو جماعي: فالبنيوية ، بشكل خاص، يمكن أن تعتبر تاريخيا كانتقال من إدراك رمزي إلى إدراك استبدالي: هناك إذن تاريخ للعلامة هو تاريخ لحالات "إدراكها".
ينظر الإدراك الرمزي للعلامة في بعدها العميق، ونكاد نقول: بعدها الجيولوجي، لأن تراتبية المدلول والدال في نظر هذا الإدراك هي ما يخلق الرمز؛ هناك وعي بنوع من العلاقة العمودية بين الصليب والمسيحية: إن المسيحية توجد تحت الصليب، ككتلة عميقة من المعتقدات والقيم والممارسات المنظمة نسبيا على مستوى الشكل. وتؤدي العلاقة العمودية إلى نتيجتين: فمن جهة أولى تميل العلاقة العمودية إلى أن تبدو وحيدة: يبدو وكأن الرمز يقف بشكل مستقيم وسط العالم، وحتى إن أكدنا أنه يتكاثر، فإنه يفعل ذلك على شكل "غابة"، أي على شكل تجاور فوضوي لجملة من العلاقات العميقة التي لا تتواصل في ما بينها، إن صح التعبير، إلا بواسطة جذورها (وهي المدلولات). ومن جهة أخرى، فإن هذه العلاقة العمودية تبدو بالضرورة كعلاقة تماثل: إن الشكل يشبه المحتوى ( إلى حد ما، لكن بدرجة قليلة دائما)، كما لو كان هذا الشكل نتاجا للمحتوى، بحيث يتسم الإدراك الرمزي أحيانا بطابع حتمي لم يتم التخلص منه بشكل جيد: هناك إذن امتياز قوي يمنح لعلاقة التشابه (بين الدال والمدلول)، حتى حينما نلاحظ أن العلامة غير مناسبة. لقد هيمن الإدراك الرمزي على سوسيولوجيا الرموز، وبالطبع على جزء من التحليل النفسي في العهد الحديث العهد، مع أن فرويد نفسه قد اعترف بأن بعض الرموز غير مبررة (غير مماثلة)؛ إنها الفترة التي ساد فيها استعمال كلمة رمز؛ وهي الفترة التي حظي فيها الرمز بتقدير أسطوري باعتباره "غنيا". إن الرمز غني ، لهذا يقال إنه غير قابل لأن يختزل إلى "مجرد علامة" (ويمكننا اليوم أن نشك في كون العلامة شيئا "بسيطا"): فالشكل معرض باستمرار لطغيان قوة وحركة المضمون. ذلك أن الرمز بالنسبة للوعي الرمزي ليس شكلا (مشفرا) للتواصل بقدر ما هو أداة وجدانية للمشاركة. لقد تقادمت كلمة "رمز" الآن قليلا، وتم تعويضها بكلمة علامة أو دلالة. هذا التحول الاصطلاحي يدل على نوع من تآكل الإدراك الرمزي، خاصة في ما يتعلق بالتشابه بين الدال والمدلول. ومع ذلك يبقى هذا الإدراك سمة مميزة مادامت النظرة التحليلية غير مهتمة بالعلاقات الشكلية بين العلامات (إما بتجاهلها أو معارضتها)، وذلك لأن الإدراك الرمزي شديد الرفض للاهتمام بالشكل. إنه لا يهتم إلا بالمدلول داخل العلامة، وليس الدال بالنسبة لهذا الإدراك سوى عنصر تابع.
بمجرد المقارنة بين علامتين، أو بمجرد النظر إليهما من زاوية مقارنة، يظهر نوع من الإدراك الاستبدالي؛ وحتى في حالة الرمز الكلاسيكي، وهو الأكثر اتصالا بالعلامات، وإذا أتيحت فرصة إدراك الاختلاف بين شكلين رمزيين، فإن بقية أبعاد العلامة تنكشف على الفور؛ ذلك هو الشأن مثلا بالنسبة للتعارض بين عبارتي الصليب الأحمر والهلال الأحمر: فمن جهة أولى، تكف كلمتا الصليب و الهلال عن إقامة علاقة معزولة مع مدلوليهما ( وهما على التوالي: المسيحية والإسلام)، وإنما ينظر إليهما ضمن مركب نموذجي؛ ومن جهة أخرى يدخلان ضمن علاقة تجعلهما حدين مميزين، يناسب كل واحد منهما مدلولا مختلفا. وهنا يولد الاستبدال/الباراديغم.
يساهم الإدراك الاستبدالي في تحديد المعنى ليس كالتقاء بسيط بين دال و مدلول، ولكن "كتعديل (حقيقي) لأجل تعايش (جديد)"، حسب العبارة الجميلة لميرلو- بونتي. إنه يعوض العلاقة الثنائية الموجودة في الإدراك الرمزي ( حتى وإن كانت علاقة متعددة) بعلاقَةً رباعية الأطراف (على الأقل)، أو بعلاقة تناظر، بعبارة أدق. إن الإدراك الاستبدالي هو الذي أتاح لكلود ليفي- ستراوس أن يصل إلى عدة نتائج من بينها تجديد قضية الطوطم: إذا كان الإدراك الرمزي يبحث، دون جدوى، عن الخصائص "الممتلئة" المتناظرة بهذه الدرجة أو تلك، التي تجمع بين الدال (الطوطم) والمدلول (العشيرة)، فإن الإدراك الاستبدالي يقيم تناظرا (والكلمة لليفي- ستراوس) في العلاقة بين طوطمين والعلاقة بين عشيرتين (لا يهمنا هنا إن كان الاستبدال ثنائيا بالضرورة). إن الإدراك الاستبدالي ينزع طبعا إلى إفراغ المدلول حين لا يحتفظ إلا بدوره كإشارة (إشارة إلى الدال ووسيلة تسمح برصد طرفي التعارض )، ولكنه لا يفرغه من دلالته. إن الإدراك الاستبدالي هو الذي أتاح ( وعبَّر)، طبعا، عن التطور الهائل الذي حققته الفونولوجيا، وهي علم الاستبدالات النموذجية ( موسوم/غير موسوم): وهي التي تحدد، من خلال عمل كلود ليفي – ستراوس، عتبة البنيوية.
الإدراك المركبي هو إدراك للعلاقات التي تربط العلامات فيما بينها داخل الخطاب نفسه، إي إدراك الإكراهات، الممكنات والحريات المتحكمة في الجمع بين العلامات. لقد وسم هذا الإدراك الأعمال اللسانية لمدرسة يال Yale، كما وسم، خارج اللسانيات، أبحاث الشكلانيين الروس، وخاصة أبحاث بروب في مجال الحكاية الشعبية السلافية (لهذا السبب نتوقع أن يضيء يوما تحليلَ الحكايات المعاصرة "الكبرى"، من الأحدوثة إلى الرواية الشعبية). ولكن ليس هذا هو التوجه الوحيد للإدراك المركبي، بالتأكيد؛ فهذا الإدراك ينفرد، من بين حالات الإدراك الثلاثة، بكونه أكثرها استغناء عن المدلول: إنه إدراك بنيوي أكثر منه إدراك دلالي؛ لذلك فهو الأقرب إلى التطبيق بالتأكيد: فهو الذي يسمح بتصور أفضل لمجموعات إجرائية، لتصنيفات وتقسيمات معقدة: لقد أتاح الإدراك الاستبدالي عودة خصبة للتصور العشري نحو التصور الثنائي؛ ولكن الإدراك المركبي هو الذي يتيح حقا وضع "البرامج" السيبرنيطيقية" ، مثلما أتاح لبروب وليفي – ستراوس إعادة بناء "السلسلات" الأسطورية.
قد نتمكن يوما من الرجوع إلى حالات الوعي الدلالي هاته، ونضع لها تاريخا؛ وقد نتمكن من وضع سيميولوجيا للسيميولوجيين، وتحليل بنيوي للبنيويين. أما هنا فقد أردنا فقط أن نقول : من المرجح أن هناك تمثلا للعلامة؛ إن العلامة ليست فقط موضوعا لمعرفة خاصة، بل أيضا موضوع لرؤية شبيهة برؤية الأجرام السماوية في "حلم سيبيون" le Songe de Scipion، أو قريبة من تصورات الكيميائيين للجزيئات؛ إن السيميولوجي يرى أن العلامة تتحرك داخل حقل الدلالة ، يحصي شبكة علاقاتها، يرسم تشكلاتها: إن العلامة بالنسبة له فكرة ملموسة.
يمكن ، بالنسبة لهذه التمثلات الثلاثة التي تناولناها الآن ( والتي لا زالت تقنية إلى حد ما)، أن نفترض إذن توسيعا في اتجاه أنواع من التمثلات أكثر اتساعا، والتي يمكن أن نجدها فاعلة في موضوعات أخرى غير العلامة.
إن الإدراك الرمزي يعني تمثلا للعمق؛ إنه يدرك العالم كعلاقة بين شكل سطحي وعمق سحيق متعدد الأشكال، كثيف ، قوي، ثم تتوج هذه الصورة بدينامية قوية جدا: إن العلاقة بين الشكل والمحتوى تتجدد دون توقف بفعل الزمن (التاريخ)، وتقوم البنية العميقة بتجاوز البنية السطحية، دون أن نتمكن أبدا من القبض على البنية نفسها. أما الإدراك الاستبدالي فهو ، على العكس من ذلك، تمثل شكلي؛ إنه يرى الدال مرتبطا، بشكل جانبي، مع بعض الدوال الأخرى يقترب منها ويتميز عنها في نفس الوقت. إنه لا ينظر إلى العلامة (أو ينظر إليها بدرجة أقل) في عمقها، ولكن ينظر إليها من زوايا نظر مختلفة؛ ثم إن الدينامية المرتبطة بهذه الرؤية هي بمثابة نداء: يتم إدراج العلامة خارج مخزون منته، منظم، وهذا النداء هو الفعل المهيمن للدلالة: إنه خيال مساح المساحات، المهندس، مالك العالم الذي يشعر بالارتياح داخله، إذ يكفي الإنسانَ كي يعبر ، أن يختار ضمن ما هو متوفر لديه ومنظم مسبقا، سواء داخل الدماغ (حسب الفرضية الثنائية)، أو من خلال الحدود المادية للأشكال. إن الإدراك المركبي لم يعد ينظر (أو أصبح ينظر بدرجة أقل) إلى العلامة من زوايا النظر، وإنما يتنبأ بامتدادها: بعلاقاتها السابقة أو اللاحقة، وبالجسور التي تقيمها مع علامات أخرى؛ يتعلق الأمر بتمثل شجري، تمثل سلسلة أو شبكة؛ وكذلك فإن دينامية هذه الصورة هي دينامية تنسيق بين أجزاء متحركة، قابلة للتبادل مع بعضها، ويؤدي تركيبها إلى إنتاج المعنى، وبصفة عامة، إلى إنتاج موضوع جديد. يتعلق الأمر إذن بإدراك مبدع خالص، بل إدراك وظيفي (والكلمة غامضة لحسن الحظ، لأنها تحيل في نفس الوقت على فكرة العلاقة المتغيرة، وعلى فكرة الاستعمال).
تلك ربما هي التمثلات الثلاث للعلامة. من المؤكد أنه يمكننا أن نصل كل تمثل منها بعدد من الابتكارات المختلفة، وفق أشكال تنظيم شديدة الاختلاف، ذلك أن لا شيء مبني في العالم اليوم يفلت من المعنى. وسيرا على ترتيب الإبداعات الفكرية (الحديثة العهد)، نذكر، من بين الأعمال المتعلقة بالإدراك العميق (الرمزي) النقد السيري والتاريخي، سوسيولوجيا "الرؤيات"، الرواية الواقعية أو الاستبطانية، وبصفة عامة الفنون واللغات "التعبيرية" التي تضع في المقام الأول مدلولا مهيمنا، مستخلصا من وجدان أو من تاريخ. أما الإدراك الشكلي (أو الاستبدالي) فيعني الاهتمام الحاد بتنوع بعض العناصر المتكررة؛ سنربط بهذا النوع من الإدراك إذن كلا من الحلم و الحكي العجائبي، الأعمال ذات الحمولة الموضوعاتية القوية وتلك التي ترتكز جماليتها على لعبة التبادلات (روايات روب - غرييه مثلا). وبالنسبة للإدراك الوظيفي (المركبي)، فإنه يغذي كل الأعمال التي تمثل صناعتها، عن طريق التنسيق بين عناصر منفصلة ومتحركة ، موضوع المتعة نفسه: الشعر، المسرح الملحمي، الموسيقى المتسلسلة والتوليفات البنيوية من موندريان حتى بوتور.
(نشر المقال بمجلة Arguments سنة 1962)
(Roland Barthes, l’imagination du signe, in Essais critiques, ed. du Seuil, 1964)