الدين والتدين ، نظرات في التنافي والتكامل – مخلص السبتي

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

في علاقة الدين بالتدين تسود في بيئاتنا العربية  مقاربتان اثنتان ، الأولى مكتفية  بظاهر النص من غير اهتمام كبير بتأثير العقل وسياقات التاريخ والاجتماع والمذهب في فهمه  وتنزيله ، ففهم فـئـة  للنص هو ذات النص[1]، وبذلك فإن فهم السلف حجة على من دونهم دونما اعتبار للسياقات الموضوعية الداعية لترجيح فهم على فهم ، وحكم على حكم[2]، وتقف المقاربة الثانية على النقيض من الأولى  ، فتنفي أصلا أن يكون للنص وجودا في ذاته، إنما هي أفهام وتمثلات في أذهان أصحابها وفق إكراهات التاريخ وإغراءاته ، فالنص يذوب في ذهن صاحبه بمجرد تلقيه ، وتغيب حقيقته وراء حجاب كثيف من الأفهام والتمثلات المحكومة بالواقع ، المنضبطة به والمسيجة بسياجه[3]، وبهذا تتم إزاحة النص وأحكامه إزاحة كلية  أو شبه كلية ، فلا يبق إلا الواقع، ولا يتم الاعتراف إلا به.

نتيجة المقاربة الأولى أن يتم الاستغناء بظاهر النص عن ضوابط فهمه وتنزيله من حافات السياق والقرائن[4]، ونتيجة الثانية أن يتم  الاستغناء بالتدين عن الدين  ، وبالعقل عن النقل ، وبالعلم عن الشرع[5] .

وهكذا يجد المتابع نفسه بين خيارين متضادين  ، وموقفين متنافيين ، إما اعتبار النص وإزاحة تأثير الواقع في ذهن المتلقي ، وإما اعتبار الواقع وإزاحة تأثير النص .

فكيف نخرج من منطق الثالث المرفوع هذا ، والذي كثيرا ما يتم حشر الناس فيه دونما إرادة منهم ولا وعي ؟ خاصة وأننا ندرك أن النص قد جاء للتأثير في الواقع هداية وإرشادا من جهة ، وأن هذا النص لا يدرك إلا من خلال سياقي الورود والتنزيل[6] من جهة أخرى .

الدين وضع إلهي علوي ثابت[7] ، والتدين كسب إنساني أرضي متغير[8]  ، وليس العلوي المطلق كالأرضي المتغير ، من حمل هذا على ذاك فرط في الثوابت فأضاع البوصلة ، أو جمد المتغيرات فكبح تقدم الحياة ، وكل ذلك واقع معاش ، وتاريخ منقول .

  • في مدارسة المقاربة الأولى:

ينطلق أصحاب المقاربة الأولى من مقدمتين اثنتين يخلصان بهما إلى نتيجة يرونها يقينية ومطلقة :

  • مقدمة أولى : بما إن الله عز وجل هو أعلم بما يصلح للعباد .
  • مقدمة ثانية : وبما أن الكتاب والسنة يتضمنان ما يصلح للعباد من أحكام وتشريعات .
  • استنتاج : فإن ما نستمده منهما هو الهدى الرباني ، وكل مخالفة للهدى ضلال .

هنا نجد مقدمتين سليمتين تماما بالنسبة لكل مؤمن ، لكن ما تم استنتاجه منهما لا يصح  دوما ، فليس كل ما تم استمداده من نص موافقا لنص آخر ، ولا كل ما تم استمداده صح فهمه ، ولا كل ما صح فهمه صح تنزيله .

ولنا هنا تدقيقان اثنان  :

التدقيق  الأول : في كون النص شيء وفهم المؤمن للنص شيء ثان ، وطريقة تنزيله ضمن سياقه الاجتماعي شيء ثالث .

ليس كل استمداد  من النص  مساويا للنص ، والغفلة عن ضبط هذا الأمر هو الذي أدى إلى الخلط بين الدين وفهم الدين ، أي بين الدين والتدين . وهذا الخلط بالذات هو الذي كان سببا في أزمات كثيرة متكررة تربك الخطوات وتكبح القدرات .

ويحدثنا التاريخ أن هذا الخلط بالذات هو ما دفع الخوارج إلى تكفير الناس  وسفك دمائهم وإعلان الحرب عليهم عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها، ورغم أنهم كانوا أصحاب صلاة وصيام وورع ، إلا أنهم تخطوا باجتهاداتهم تخطئة الغير إلى تكفيره ومحاربته  فالتبست عليهم حدود منطقة الثوابت التي يضلل منتهكها أو يكفر، ومنطقة التغيرات التي يؤاخى المخطئ فيها ويعذر[9]، واعتبروا آرائهم في الدين هي عين الدين ، واجتهاداتهم في الشريعة هي ذات الشريعة[10]  حتى أوصلهم ذلك إلى قطع الطريق وقتل المسالمين محتسبين الأجر عند الله.

يروي ابن الأثير ضمن أحداث سنة 38 هـ أنهم رأوا عبد الله بن خباب يسوق زوجه على حمار فأوقفوه وسألوه: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم... فسألوه عن رأيه في أبي بكر وعمر وعثمان، فأثنى على الجميع خيرا، فقالوا: إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا...فذبحوه، فسال دمه في النهر، وأقبلوا إلى امرأته فصاحت : أنا امرأة ألا تتقون الله؟ فبقروا بطنها وقتلوها  ، فلما بلغ عليا ذلك وبلغه اعتراض الناس من طرفهم واستجوابهم ، بعث إليهم الحارث بن مرة[11] ليحاورهم وينظر ما بلغه عنهم، ويكتب به إليه ، فلما دنا ابن مرة منهم يسائلهم  قتلوه.[12]

والذي يجب أن ينال حظه من التفكير والتأمل، هو أنهم في طريقهم وهم يقودون عبد الله بن خباب وزوجه سقطت من نخلة تمرة، فأخذها أحدهم وجعلها في فيه ، فاستنكر آخر قائلا : أخذتها بغير حلها وبغير ثمن؟ فألقاها.[13]

إنهم تورعوا عن أكل تمرة بغير إذن صاحبها ولم يتورعوا عن اعتراض الطريق وسفك الدماء، ولم يكن في منطقهم ما يدعو للاستغراب ، إذ الحالة الأولى بالنسبة لهم حالة سرقة وخيانة، والحالة الثانية حالة دفاع عن الحق وجهاد يؤجرون عليه عند الله.[14]

لم يكن ينقص الخوارج عموما الإخلاص للدين ولا محبته والغيرة عليه، ولكن نقصهم الفهم السليم والإدراك القويم للفروق بين الدين في ذاته والدين في أفهامهم فأفسدوا في الأرض وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعا ، وهكذا حاربوا عليا وابنه الحسن وقاتلوهما بتبريرات دينية، واستشهادات قرآنية[15].

كان قاتـل علي[16]ومن معه على قناعة تامة بكفر علي لمجرد أنهم  قد اختلفوا معه في بعض قضايا التدبير السياسي، فرتبوا اغتياله[17]  ، وهذا عمران بن حطان السدوسي[18] يمدح القاتل بأبيات تكشف عن أصل الخلل في التصور وتأثيره في تدبير الخلاف .

يا ضربة من تقي ما أراد بهــا        إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنـــي لأذكره يوما فأحســــــبه        أوفى البريـة عند الله ميزانــــــــا 

أكرم بقوم بطون الطير أقبرهم         لم يخلطوا ديـنهم بغيا وعدوانــا .

إن عدم إدراك الفوارق الدقيقة بين قطعيات الدين وظنياته، وبين الدين والتدين[19]تسبب ولا يزال في مآس تاريخية خطيرة – تكرر نفسها- تارة بين السنة والشيعة[20]، وتارة بين الشافعية والحنفية، وأخرى في أعمال عدوانية إرهابية في العديد من دول العالم .

كيف يحدث ذلك ؟

في مقولة لعلي بن أبي طالب نجد تشخيصا دقيقا لسبب الخلل  : ( ...هذا القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين  لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان ، وإنما ينطق عنه الرجال ....) [21]

إن كل قارئ مفسر بالضرورة ، فهو يترجم ما يطالعه من خلال خلفياته الفكرية وأفكاره المسبقة  وتجاربه مع اللفظ والمعنى ومساعيه اللاشعورية – أحيانا - لإثبات مسبقات ونفي أخرى ، فتتسلل الذاتية  وإن احتاط ، لأن الأمر يتطلب إجراءات علمية احترازية صارمة غير متاحة لكل شخص في كل ظرف [22] .

والقصد أن نقول  إن الذي يتلقى الخطاب يسهم في منحه معناه ،  فإذا كان الأمر كذلك ،  فإن أي تشوه في الخلفيات والمسبقات  والتصورات ينعكس حتما على الفهم فيفسده ، وبفساد الفهم يفسد التنزيل ، ويحدث الصدام الذي لا بد من حدوثه .

التدقيق الثاني : الاجتهاد أمر واقع في كل تعامل مع النص:

هل يجوز الاجتهاد مع ورود النص ؟ والنص هنا بمعناه الأصولي أي اللفظ الذي يفيد معناه بنفسه من غير احتمال ، وهو الظاهر عند  للشافعي .

تقول القاعدة "لا اجتهاد مع ورود النص" ، لكن الذي لا ينتبه إليه الكثير من الطلبة والباحثين هو أن هذه القاعدة عامة تحتمل تخصيصا بقاعدة أخرى وهي " ما من عام إلا وقد خص ".

والواقع أن العلماء والفقهاء عبر العصور قد اجتهدوا في النصوص[23] ،تخصيصا وتقييدا ونسخا  وتنزيلا بحسب متغيرات السلم والحرب ، والأمن والخوف ، والقوة والضعف ...، وكتبوا في ذلك ، وأصلوا الأصول ، واستخرجوا المقاصد ، وخلفوا تراثا غنيا لا زلنا في حاجة للرجوع إليه والاستمداد منه والاهتداء بتدقيقاته وتحقيقاته .

واختصارا فإن من مظاهر الاجتهاد مع ورود النص ما نجده في المباحث الخمس الآتية :

  • الاجتهاد في الجمع بين النصوص [24].
  • الاجتهاد في الاستنباط منها وفق المستجدات غير المتناهية .
  • الاجتهاد في تحقيق احتمال النسخ والتخصيص .
  • الاجتهاد في تحقيق مناطاتها .
  • الاجتهاد في تنزيلها على الواقع (المتغير) بحسب الجهد والطاقة .

وهذا كله اجتهاد مع وجود النص ، فإذا دخل الاجتهاد دخل معه الفهم الإنساني والظن الغالب ، وكان حقا علينا أن نتحدث عن الفقه لا عن الشريعة ، وعن التدين لا عن الدين ، وكان حقا علينا أن نعذر المخالف لا أن نكفره ، وأن نحاوره لا أن نضلله ، غير كافين أنفسنا عن التزام ما اطمأن إليه القلب وغلب على الظن صوابه .

  • في مدارسة المقاربة الثانية :

ينطلق أصحاب هذه المقاربة أيضا من مقدمتين اثنتين يخلصان بهما إلى نتيجة يرونها منطقية وعلمية :

  • مقدمة أولى : بما إن النص غير ناطق بذاته " ولا بد له من ترجمان ".
  • مقدمة ثانية : وبما أن العقل والاجتماع البشري ناطقان به .
  • استنتاج : فكل قراءة للنص هي إعادة إنتاج له ، وما نستمده منه إنما يعبر عن التاريخ ومستوى العقل الإنساني ، لا عن ذات النص ، ولذلك ينبغي تعويضهما به والانطلاق منهما دونما حاجة إليه ، إذ أنه (لا يوجد شيء اسمه النص في ذاته ) [25]، وبهذا ، فكلما تم التشبث بالنص باعتباره كاشفا عن الهدي الرباني قاد ذلك إلى انتشار النزعات الوثوقية ، وبالتالي  احتكار الحقيقة مع ما ينتج عنها من تطرف وإقصاء وإرهاب .

وهنا أيضا نجد أنفسنا أمام مقدمتين سليمتين واستنتاج سيئ ، استنتاج أدى إلىأدى إلى أدى أ إزاحة النص واستبعاده نهائيا ،والحال أنه لا يلزم من إنسانية الفهم أن يخلو مطلقا من كل صواب ومن كل فهم دقيق ، وإلا لما وضع دستور ولا حكم قضاء ، ولا ثبت في الذهن يقين ، ولا توصلت البشرية إلى شيء يذكر من تطور رياضي ولا كشف علمي ، ولا كانت مؤهلة للتوصل بشيء من رسالات السماء ، إن ما يلزم عن المقدمتين هو وجوب التدقيق في الفهم والاحتياط في القرار، والتثبت في التنزيل ، لا إنكار إمكانية الوصول إلى صواب .

ولنا هنا  أيضا تدقيقان .

التدقيق  الأول : في أنه لولا الصفة لما وجد اتصاف  .

أي لولا السبب لما كانت نتيجة ، لولا الشيء في ذاته  لما وجد تشيء ، لولا النور لما وجدت إنارة ، ولولا الدين لما وجد تدين ، وحيث أنه لا يمكن تجاهل التدين وحمله على الدين ، وهو منزلق الفريق الأول ،  فإنه أيضا لا يمكن تجاهل الدين بحمله على التدين ، وهو منزلق الفريق الثاني ،  إذ الدين أصل التدين ، ولولا هذا لم يكن ذاك ،  ومن ثمة وجب التمييز بين المجالين لئلا يحدث  الخلط فيحمل التدين على مطلق الدين ، بالشكل الذي رأيناه عند الفريق الأول ، أو يحمل الدين على مطلق التدين  كما نراه عند هذا الفريق (الثاني ) ، فكلا الفريقين بهذا وجهان متعاكسان  لخطأ واحد ، هو قصر النظر المؤدي لاحتكار الحقيقة ،  أو قل هما وجهان  لخطأ جر لخطيئة ، والخطأ هو عدم القدرة على   التمييز ، والخطيئة ما نتج عن عدم التمييز من إقصاء وعنف وإكراه  .

التدقيق  الثاني  : في ضرورة التمييز  وإمكاناته .

وبهذا ، فإن السؤال الكبير هو كيف نميز بين هذا وذاك ؟ أي كيف نتمكن من التمييز بين الدين والتدين وما هي الوسيلة وبأي منهج  ؟

يتطلب الجواب التمكن من خلفية منهجية دقيقة ، وهذا ما وجه إليه علماء الأصول والمقاصد  عنايتهم عهدا بعد آخر[26] ، إلا أن تراجع المعرفة وقصور النظر  كثيرا ما يسقطان في أخطاء فظيعة تضعف المجتمعات وتضيع تماسكها ، وتفقد إمكانية  تحديد رؤية  مستقبلية واضحة وجامعة للجهود[27] .

وإنما يتم التمييز بالتماس المحكمات ، والانطلاق منها ، وحمل ما تشابه على الأفهام عليها ، وهي على نوعين ، كبرى وصغرى :

1. المحكمات الكبرى : وهي الكليات والمقاصد الكبرى، التي إليها ترجع كل الجزئيات ، ومن خلالها ينضبط الفكر ويسلم النظر ،  وهذا  يقتضي استئناف الجهود الاستقرائية للتمكن من  رصد الكليات واعتمادها في دراسة مستجدات الواقع مع الحذر من تناول الجزئيات بمعرض عن كلياتها ، وهو الأمر الذي لا يزال يثقل كاهل الفكر الإسلامي المعاصر على الرغم مما بين أيدينا من  تراث علمي منهجي من الممكن توظيفه لتوجيه الفكر وتحفيز الاجتهاد ، من ذلك مثلا ما يقرره القرافي :(ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت ،وتزلزلت خواطره فيها واضطربت ، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها ، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات  واتحد عنده ما تناقض عند غيره ..فبين المقامين شأو بعيد وبين المنزلتين تفاوت شديد )[28].

وليس من المتعسر بعد هذا إعادة النظر في الكليات الخمس - تفصيلا وتحليلا  وتحيينا - بما يستجيب لمستجدات الواقع ومتطلبات المستقبل ، وبما يزيدها إيضاحا ويرفع من إمكانات تطبيق مقتضياتها ، ومن الممكن الحديث عن مقاصد كلية  مفصلة  كالتوحيد والتكريم والتخليق والتنوير والتطوير والتيسير ..

  • المحكمات الصغرى :وهي ما تم القطع بثبوته من الجزئيات بتوثيق وتدقيق ينقلان الفقه والفكر من الظن إلى القطع ، ومن الشك إلى اليقين ، وينقلان الناس من الافتراق إلى الاتفاق ، ومن الجدل إلى العمل ، انطلاقا من معايير علمية خمس :
  • قطعية الثبوت : أي أن يكون الدليل المستمد منه التصور أو الحكم قطعيا في ثبوته ، أي مستمدا من القرآن الكريم أو مما تواتر من الحديث النبوي.
  • قطعية الدلالة : أن يكون الدليل المستمد منه التصور أو الحكم قطعيا في دلالته ، أي محتملا لمفهوم واحد واضح لا اختلاف حوله .
  • الصفة : بأن يكون الحديث واردا بصفة التبليغ عن الله لا بصفة الإمامة أو الفتيا أو القضاء ..
  • السياق الزماني : بأن يكون النص مؤبدا لا مجرد أمر بحكم إجرائي اقتضته سياقات اجتماعية أو حربية مخصوصة في أزمنة مخصوصة[29].
  • الوسع : أي انتفاء الضرورة الملجئة ، سواء كانت فردية خاصة ، أو جماعية عامة [30] .

استنتاج :

بعد أن وقفنا على قصور المقاربة الأولى (المزيحة للتدين في مقابل ما تعتبره دينا) المكتفية بظاهر النص من غير اعتناء  بالنظر في مدى تأثير العقل في فهمه وتمثله ، ولا في مدى تأثير السياق في وروده وتنزيله ، وبعد أن وقفنا على  قصور المقاربة المقابلة (المزيحة للدين في مقابل ما تعتبره تدينا ) النافية  لوجود سبيل لمعرفة النص في ذاته (مادام  يستحيل بمجرد تلقيه  إلى تمثلات في أذهان أصحابها غير محكومة بشيء من منطقه ولا من تعاليمه ، بل بإكراهات التاريخ وإغراءاته ) ، وبعد أن ألمحنا إلى أن هذا القصور المزدوج هو  أحد الأسباب الكبرى الكابحة للتقدم ، بما يتسبب فيه من احتكار للحقيقة ، هذا باسم الدين وتعاليم السماء ، وهذا باسم العلم وموجبات التحضر ، فقد بات من الضروري استئناف البحث للوصول إلى منهج جامع ممكن من التمييز بين النص في ذاته والنص  في ذواتنا (أي في ذات المتلقي ) دون حرمان أنفسنا من الاستفادة من معطيات أي منهما .

إن هذا الوضع  المعتل  الناتج عن هذا  القصور المزدوج قد جعل كل  تيار يرى النهضة من خلال ما يحققه على جبهة الحرب ضد خصومه في التيارات الأخرى، لا من خلال ما يبنيه معهم  ، بل كثيرا ما يبرهن كل تيار عن نزاهة مواقفه  ومشروعية أطروحاته  من خلال " المفاصلة " مع الآخر أو تخوينه ..مما يؤدي  إلى انحراف المشاريع الفكرية والثقافية في الأوطان العربية بجعلها تدور في دوائر مغلقة في غفلة تامة أو شبه تامة عن تحديات الواقع المتغير،  ومتطلبات المستقبل المأمول ، ولا يخفى أن بعض الجهات في داخل الأوطان العربية وخارجها يهمها توظيف هذا السجال وتزكيته والنفخ فيه بما يخدم دواعي الانقسام والتفتيت .

إن إدراك التوازن المنهجي بين منطق الدين ومنطق التدين ، والتوعية به والتربية عليه قد أصبح اليوم ضرورة ملحة ، ليس فقط على مستوى الفكر الاسلامي وإشكالاته ، ولا على مستوى التماسك الاجتماعي وموجباته ، بل أيضا على المستوى الوجودي ، وكل تأخر في ذلك ستؤدي المجتمعات الإسلامية ثمنه من قوتها وسلامتها وأمنها ، دعك من الحديث عن مقومات التنمية وموجبات النهوض .

 مخلص السبتي أستاذ التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني – المملكة المغربية

[1] خاصة إذا كان هذا الفهم صادرا ممن كان مشهودا له بالفضل من السلف (ولكل فئة سلفها ، ولكل فريق فضلاؤه ) ومن هنا شاع استعمال عبارة " الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة " باعتبار أن السلف - وهم الأقرب عهدا بالنبوة -  هم المؤهلون لمعرفة  حكم النص ، وكلما ابتعدنا عن عهودهم قل الفهم وكثر الخطأ وانتشر الضلال ، وبهذا فالبحث عن الحقيقة لن يكون إلا في الماضي المشرق .

[2] أقصد سياقات السلم أو الحرب ، الأمن أو الخوف ، القوة أو الضعف ، العلم أو الجهل ...وهذا شأن العديد من الجماعات المغالية والفئات المتطرفة ، فإن فقه السياق عندها ضعيف أو منعدم .

[3] يتأمل مثلا أسلوب عبد الإله بلقزيز في " سلطة النص وسلطة التأويل من أجل اسلاميات نقدية " .

 https://www.youtube.com/watch?v=C-89dFNoHoo

[4] أي الاستغناء بما يتم اعتباره دينا عما يتم اعتباره تدينا ، وفي هذا تتأمل النظرة الثاقبة للطاهر بن عاشور في قوله : ( ومن هنا يقصر بعض العلماء ويتوحل في خضخاض من الأغلاط حين يقتصر في استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ ويوجه رأيه إلى اللفظ مقتنعا به ، فلا يزال يقلبه ويحلله ويأمل أن يستخرج لبه ، ويهمل ما عداه من الاستعانة بما يحف بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق) مقاصد الشريعة ص 24

[5] حقيقة النص - بالنسبة لهذا الفريق - لا يمكن استمدادها من ذات النص ، بل من تاريخه ، ينظر في هذا ما كتبه نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون...

[6] نقصد بسياق الورود أسباب نزول الآية وورود الحديث ، ونقصد بسياق التنزيل الواقع الذي يراد تنزيل النص فيه .

[7] عرف بكونه وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول  ، وأيضا وضع إلهي لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال  والفلاح في المآل محمد علي التهانوي ، كشف اصطلاحات الفنون والعلوم :1/814 مكتبة لبنان بيروت 1996 .

[8]  كسب إنساني في الاستجابة لتعاليم الدين وتكييف الحياة بحسبها في التصور والسلوك ، انظر : عبد المجيد النجار ، في فقه التدين فهما وتنزيلا كتاب الأمة 1/ 27 .

[9]- انظر بتفصيل: أبو محمد بن حزم الظاهري، الفصل في الملل والأهواء والنحل، دار الفكر 1980، 4/156، وانظر أبو الفتح أحمد الشهرستاني الملل والنحل تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة بيروت لبنان 1402هـ /1982م ، 1/116.

[10] مخلص السبتي الدين والتاريخ ومتطلبات المستقبل منشورات جامعة الحسن الثاني – الدار العالمية للكتاب 2019  ص:  132

[11] - الحارث بن مرة العبدي (ت 38 ) قائد عسكري شارك في عدد من الفتوحات في عهد علي . 

[12]- أبو الحسن علي بن عبد الكريم بن الأثير الشيباني، الكامل، دار الكتاب العربي بيروت، الطبعة الخامسة 1985، 13/173.

[13]- المصدر السابق 13/172

[14] مخلص السبتي الدين والتاريخ ومتطلبات المستقبل منشورات جامعة الحسن الثاني – الدار العالمية للكتاب 2019  ص:  132

[15]- كفروا عليا لأنه قبل التحكيم فقالوا "لا حكم إلا لله" وكفروا ابنه الحسن لأنه تنازل عن الحكم لمعاوية حقنا للدماء فأباحوا دمه، وأقبل عليه الجراح بن سنان وأخذ بلجام دابته ثم قال: (الله أكبر، أشركت كما أشرك أبوك من قبل) وطعنه، بمغول في أصل فخذه فقطع الفخذ إلى العظم، يراجع كتاب الحسن بن موسى النوبختي فرق الشيعة الطبعة الثانية 1984، ص:24 والمؤلف من أعلام القرن الثالث الهجري.

[16]عبد الرحمن بن ملجم الخارجي ( ت 40 هـ )كان معروفا بالتقوى ، أرسله عمر إلى مصر لكي يعلم قومها القرآن .

[17]كان ذلك في 21 رمضان 40هـ .

[18] (ت 84 هـ )

[19]- لعل أول من استخدم ثنائية الدين والتدين في بيان الفروق بين الإلهي والإنساني الدكتور عبد المجيد النجار في كتاب في فقه التدين فهما وتنزيلا، سلسلة كتاب الأمة، 1989.

[20]- استمرت الحروب بين السنة والشيعة أكثر من قرنين من الزمن من 1514 م إلى 1735 م أدت إلى إنهاك قوى المعسكرين معا (معسكر السنة ممثلا في الدولة العثمانية، ومعسكر الشيعة ممثلا في الدولة الصفوية ) مما مكن الاستعمار من احتلال أكثر ديار المسلمين ، حتى يمكن القول بأن الخلافات المذهبية بين الشيعة والسنة ساهمت في إيجاد الكثير من المشاكل التي تعرف اليوم بمشاكل الشرق الأوسط، يراجع د.عبد المنعم حسنين، إيران في ظل الإسلام في العصور السنية والشيعية دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة ط 1، 1988.

[21]نهج البلاغة – خطب علي بن أبي طالب تحقيق الشيخ محمد عبده  ج 2 ص 5

[22] سنعرض معالمها الكبرى عند تدقيق المقاربة  الثانية .

[23]قد يكون الدليل نصا "بمعناه الأصولي " عند فقيه ، ولا يكون كذلك عند آخر ، فيكون مقيدا أو مخصصا أو منسوخا ..

[24]  من نماذج ما ألف في ذلك تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (ت 276)

[25] ( كثيرا ما يقال عن الثقافة العربية الإسلامية إنها ثقافة نصية ، هذا كلام فوضوي ، لا يوجد شيء اسمه النص في ذاته ) عبد الاله بلقزيز محاضرة سلطة النص وسلطة التأويل من أجل اسلاميات نقدية

 https://www.youtube.com/watch?v=C-89dFNoHoo

[26] نذكر هنا أعمال الحكيم الترمذي والغزالي والعز بن عبد السلام والقرافي والشاطبي وابن القيم ، ثم في العصر الحديث ما كتبه الطاهر بن عاشور وطه جابر العلواني وسعد الدين العثماني غيرهم .

[27] ينبه عبد المجيد النجار إلى " افتقار الصحوة الإسلامية إلى فقه منهجي ناضج "، ويرى أن هذا الافتقار  هو  السبب في تأخرها ، وينادي بضرورة قيام فقه منهجي يمكنها من تجاوز أزماتها ، يراجع: عبد المجيد النجار ، في فقه التدين فهما وتنزيلا كتاب الأمة 1/ 25 .

[28] شهاب الدين القرافي ( ت 684 هـ ) الفروق  أنوار البروق في أنواء الفروق، عالم الكتاب ج 1: ص :3 ضمن خطبة الكتاب ، ومن ذلك أيضا القاعدة التي قررها أبو إسحاق الشاطبي بقوله : ( إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي فالكلي مقدم ، لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية والكلي يقتضي مصلحة كلية ،  ولا ينخرم نظام العالم بانخرام المصلحة الجزئية ) أبو إسحاق الشاطبي ، الموافقات في أصول الشريعة ، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده 1/142

[29] كقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ) التوبة :123  ، وقوله :( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) المجادلة : 12  .

[30] يتأمل قوله تعالى (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) الأنعام :119 ، وقوله : (ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ، ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما) الأحزاب : 5  وقوله عليه السلام : (لا ضرر ولا ضرار ) حديث حسن رواه ابن ماجة والدارقطني وغيرهما عن أبي سعيد الخدري مسندا ، ورواه مالك في موطئه مرسلا  وقوله : (إن الله تجاوز عن  أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) رواه ابن ماجة والبيهقي عن ابن عباس .

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟