"رضاعة التسلية" هو مصطلح بالغ الدلالة أبدعه أحد كبار منظري النظام العالمي الجديد زبغنيو بريجنسكي[1]، و قد أورده مصطفى حجازي في مؤلفه ذائع الصيت "الإنسان المهدور" في سياق حديثه عن هدر الوعي الذي أمسى يتعرض له شباب العالم في عصرنا الراهن، و الشباب العربي بشكل خاص، بفعل برامج التسلية، أو برامج صناعة النجوم، التي تبثها شاشات القنوات التلفزية المتعددة.
لقد شهد العالم المعاصر طفرة إعلامية و تكنولوجية هائلة ألقت بظلالها على نمط حياة الناس إيجابا كما سلبا؛ أما المنحى الايجابي فهو مما لا نجد وسيلة لنكرانه إذ باتت ملامحه بادية على جميع المستويات؛ إغناء الجانب التواصلي، رفاهية الحياة..الخ و ما يهمنا هنا هو المنحى السلبي ما دامت قراءتنا هذه قراءة نريد لها أن تكون متأزمة لنمط العلاقة السائدة بين التقدم التقني الإعلامي من جهة و بين المتلقي الشاب على وجه التحديد من جهة ثانية.
هكذا بمُكنتنا الإقرار بأن برامج التسلية، التي استحوذت على المشهد الإعلامي الراهن، إلى درجة صارت معها الشاشة "البديل الفعلي عن الواقع مسدود الآفاق و الخالي من الانجازات"[2] بما تلفظه من مواد في وجوه مستهلكين مهدوري الوعي، تهدف أو بالأحرى يهدف القيمون عليها، بما أنها ليست أدوات تشتغل بمفردها، بل يوجد وراءها أناس يخططون و ينظمون و ينفذون، قلت إنها تهدف إلى المحافظة على توازناتها الداخلية و خدمة أهداف تفوق الإنسان بل و تناقض أحلامه في بعض الأحيان، لذلك أصبحت أدوات لتكييف المجتمع و تسطيح الفكر و قتل كل بوادر التفكير النقدي. و هي أمور لن يفطن بها المرء إلا إذا وضع معها مسافة نقدية و أخضعها للفحص و التمحيص و بين جيدها من قبيحها و طيبها من خبيثها. أما دون ذلك، فيبقى يرزح تحت ثقلها، تذيقه من الصنوف ما تريد و تشكله على النمط الذي ترتئيه.
فإذا نحن وقفنا على سبيل المثال، لا الحصر، عند بعض برامج التسلية الأكثر إقبالا و شهرة من قبيل ستار أكاديمي أو سوبر ستار أو الأخ الأكبر أو تلفزيون الواقع، فسنلفي أنفسنا أمام نوعين من الحلم يصبوان نحو التحقق؛ حلم أول يمكن أن نسميه ب"حلم المشارك" الباحث عن النجومية السريعة، تلك النجومية التي هي صنيعة التلفزيون و نسب المشاهدة و التي استبدلت المعايير "الكلاسيكية" للنجاح المتمثلة في التعلم و التدرب و التجريب و التعرض لأخطار الفشل و التحدي و صقل المواهب، بمعايير جديدة هي أبعد ما تكون عن الكفاءة في المجال، من قبيل استعراض غوايات الجسد و جرأته، و الوسامة، و أحيانا أخرى تدخل عملية التصويت المبنية غالبا على نزعة ابن البلد في صناعة نجم. هذا عن الحلم الأول "حلم المشارك" أما النوع الثاني من الحلم فهو يرتبط بالمشاهد، و هو حلم يتحقق استيهاميا حينما تجعل هذه البرامج منه مشاهدا مشاركا، ليس رغبة في إخراجه من السلبية التي تطبعه عادة و لكن طمعا في حجم الأموال التي يدرها عليها إن هو أقحم في اللعبة. و يورد هنا مصطفى حجازي رقما يكاد يكون خياليا عن نسبة مشاركة جمهور ما في برنامج معين، إذ وصلت هذه النسبة إلى مئة مليون رسالة تصويت sms لهذا النجم أو ذاك بهدف إبقائه في المباراة، و هو ما در على القناة الحاضنة ذهبا خالصا.[3] فالمشاهد لبرامج التسلية هذه ليس مشاهدا عاديا يقبع خلف شاشة و يتسلى ببرنامج انتقاه عن روية و قرر الاستمتاع بمشاهدته ساعة أو يزيد، لا، إنه مشاهد نجم كذلك، فهو يعيش وهم النجومية من خلال عملية التماهي مع المرشح الذي يتحمس له بالتصويت، تماما كما يعيش من خلال الاندماج في المشاهدة حالة خيالية من متعة التعبير عن الذات، دون أن ننسى ذلك الإحساس الذي ينتابه حينما يضع نفسه في وضعية صانع النجم من خلال التصويت، فيكون له ذلك تعويضا عن الهامشية و الكيان المهدور.[4]
لقد أدرك القيمون على برامج التسلية هذه فحوى ما ذهب إليه المرحوم الجابري بقوله: "لم يعد إخضاع الأبدان شرطا في إخضاع النفوس، بل العكس، لقد غدا إخضاع النفوس طريقا لإخضاع الأبدان"[5]، كما أدركوا ما هي عليه سيكولوجية المشاهد من الهشاشة، بفعل ما فعلته به صروف الدهر، صروف واقع لا يطيق تحمله، كونه لا يرقى إلى طموحاته و أحلامه، فعملت على تعويض هذا الواقع المرير بواقع افتراضي يحقق له بعضا من طموحاته، و لو استيهاميا، و يجعل منه ذاتا يعتد بها بعدما كانت ذاتا مهدورة. لكن ما يغفله هذا المشاهد هو أن الخيال الذي تقترحه برامج التسلية هذه، هو في نفس الوقت مفروض و نمطي، فالمتفرج لا يملك حرية خلق صوره الخاصة، بل يجد نفسه و قد اجتاحته الصور التي تقدم له و التي ستبقى مترسخة في ذهنه، صانعة بذلك خيالا جديدا، لا دخل له فيه، سيشكل منذئذ مرجعا جديدا لعلاقاته مع الغير و مع العالم، بل و صانعة له دولة من نوع جديد، هي دولة الزر، الذي يستطيع أن يتحكم و يتسلل إليه على صورة جسد أو روح، ليضغط على نفسيته، و يجعله منهزما و مصدقا لما يراه، ذلك أن الصورة و ليست الكلمة هي التي تصنع أسطورة العصر الحديث[6].
هذا هو العالم الذي شكل الحدث في فترة ما بعد الحداثة، إنه الحدث الذي يشتغل به و فيه النسق الإعلامي، و الذي كثف الواقع بالرموز، ما ساهم في طلاق الرمز و المعنى و إحلال الصور و النسخ في كل مكان. و الصورة كما لا يخفى تعتبر من أكثر التقنيات نجاعة و تأثيرا، إذ منذ اختراعها كوسيلة للتعبير، أصبحنا أمام "لغة من نوع جديد و خطاب حديث له صفة المفاجئة و المباغتة و التلقائية مع السرعة الشديدة و مع قوة المؤثرات المصاحبة و حدية الإرسال و قربه الشديد حتى لكأنك في الحدث المصور من دون حواجز."[7]
و بالفعل يحس الشباب الذين أدمنوا مشاهدة هذه البرامج بنوع من الألفة و الحميمية تربطهم بأبطالهم و نجومهم، تصل حد التماهي معهم، ما يعطيهم الانطباع بتكسر الحواجز التي تفصلهم عن المشاهَد، و لذلك لا يحس الشاب من هؤلاء عند وصول موعد البرنامج بأنه مشاهد عادي سيأخذ لنفسه موضعا أمام جهاز التلفاز من أجل مشاهدة البرنامج، شأنه في ذلك شأن بقية المشاهدين، بل ينتابه انطباع من وُضع البرنامج خصيصا له، حتى أنه يلغي كل المواعيد المتزامنة مع موعد البرنامج مهما كانت أهميتها، بل الأدهى من ذلك أنه لا يبارح مكانه حتى لو امتد عمر البرنامج إلى وقت متأخر من الليل. و ما يضيره ما ينتظره غدا، و هو الآن في كامل نشوته و استمتاعه و بصدد صناعة نجوميته الخاصة؟
لا ينبغي أن يفهم من هذا الخطاب، أننا ضد استمتاع الشباب و اقتناصه للحظات الانتشاء و المتعة، و ما الشباب بالتعريف سوى الحيوية و الحماس و الاندفاع و المغامرة و طلب الحياة، غير أن مرادنا كان التحذير من مغبة الانجراف وراء البرامج التي تريد للاستمتاع أن يكون هوية للشباب العربي، فينأى بنفسه، أو بالأحرى يراد له أن ينأى عن الواقع الحقيقي و الاستعاضة عنه بالحلم و تعطيل الجهد و العمل و المثابرة، و التفرغ بالمقابل للهو الذي لا يفتر و لا ينتهي في نوع من الاستبلاد، إذ مهما زعمت هذه البرامج و ادعت تنوير عقول الأفراد و شحذ أذهانهم فهي تهدف، ربما إضافة إلى ذلك، استبلادهم من خلال عدم منحهم فرصة التفكير النقدي فيما تنفثه في وجوههم من برامج و صور.
[1] مفكر استراتيجي ومستشار للأمن القومي عمل لدى الرئيس الأميركي جيمي كارتر بين عامي 1977و1981 وهو يعمل حاليًا مستشارًا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وأستاذًا بمادة السياسة الخارجية الأميركية في كلية بول نيتز للدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز في واشنطن. من مؤلفاته "خارج السيطرة"،"الفشل الكبير"،"خطة اللعبة"،"القوة والمبدأ".
[2] مصطفى حجازي، الإنسان المهدور، المركز الثقافي العربي،ط 2 ، ص 237.
[3] مصطفى حجازي، الإنسان المهدور، المركز الثقافي العربي،ط 2 ، ص 236.
[4] نفسه، ص 237.
[5] محمد عابد الجابري، المسألة الثقافية في الوطن العربي، سلسلة الثقافة القومية (25)، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 3، 2006، ص. 190.
[6] سعاد عالمي، مفهوم الصورة عند ريجيس دوبري، أفريقيا الشرق، 2004، ص 77.
[7] عبد الله الغدامي، الثقافة التلفزيونية، سقوط النخبة و بروز الشعبي، المركز الثقافي العربي، البيضاء، 2004. ص 24.