في أواخر القرن المنصرم برزت حركة طوعية داعمة لفكرة انقراض الجنس البشري لمنع الانحلال البيئي وانقراض السلالات غير البشرية، تسمي نفسها Voluntary Human Extinction Movement) )
وقد أثير حولها الكثير من الجدل لحداثة الفكرة وطرافتها، فيما يرى مؤسس الحركة أن جذورها تمتد الى عصور ما قبل التاريخ، ويشير الى سفر التكوين| الاصحاح السادس| 1-22. ندرج منه النصوص 5-7:5- وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ.
6- فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ.
7- فَقَالَ الرَّبُّ: أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ.
كما يشير الى ما سطرته الألواح البابلية، حيث تآمرت الآلهة للقضاء على مخلوقات مزعجة من الطين، إلا أنّ أحدهم أفشى سر المؤامرة، وأمر أحد الصالحين بصناعة سفينة للنجاة. وما تبقى من الأسطورة، حسب ما تحكيه الحركة، هو تاريخنا.
من هذه المقدمة نخرج بسؤال له علاقة بما سنحكيه، ولا نمتلك إجابة ناجعة عنه:
إذا كان الصراع من أجل البقاء سنة الحياة؛ فأي السبيلين أقل مأساوية؛ أن يفتك الإنسان ببني جنسه من أجل استلاب الطبيعة وتخريب نظامها البيئي، أم من أجل تحقيق توازنها وانعاش نظامها البيئي؟
تقع الحرية بأوسع معانيها ضمن حلبة الصراع من أجل البقاء، فثمة فقد لها تراكم عبر مراحل التاريخ على صدورنا، حتى صارت عصية حد الانتزاع. و أول فَقد يعود بتصورنا، الى بواكير الصيد حيث تم خصخصة العمل تبعا للجنس كما ذكرنا في الجزء الأول. أي تقعيد "الأناث" عن مزاولته. فصار لمن يحمل طريدة بين فكيه من الذكور؛ سلطة. وربما من هنا بدأت الحكاية، فالسلطة قد عادت بفوائد جمة على الصيّادة، بفرض شروطهم وتمرير رغباتهم على الآخر الذي صار تابعا.
حياة الحاضر لربما امتداد معقد لمبدأ "التقعيد" بشكله البدائي، فتقعيد الأناث مثلاً، له صور مؤدلجة في المعتقدات الدينية. ولأن بذور هذا المبدأ قد تحسنت مع الزمن فطرحت الكثير من الثمر الأيديولوجي، شمل جماعات كبيرة من الذكور أيضا، بعد أن بدأ "تأميم الطرائد" بالمقلوب، بانتزاع ملكيتها من أمنا الطبيعة التي تمثل القطاع العام، ونقلها الى القطاع الخاص الذي صار رأساً للهرم الغذائي. لا سيما أن رقعة "التأميم" اتسعت بدورها بتطور العلوم الطبيعية والعلوم التطبيقية وتسخيرها نفعيا، فشملت كل موارد الطبيعة وثرواتها وما يُنتج عنها من بضائع وسلع. بهذا تناسلت مقومات البقاء غير الأساسية وصارت سلالة عريقة صاعدة إلى حيث لا ندري، واحتدم الصراع بين الصيّادة الممسكين برأس الهرم من جهة، وبين رأس الهرم وقاعدته وبقية سطوحه، من جهة أخرى.
مع هذا قالوا لنا، بدخولنا عالم الزراعة والوقوف على آلياته وتقنياته؛ هجرنا الصيد. مع أننا لم نهجر أنفسنا كـ مفترسات لاحمة. لكننا لم نعد نلهث وراء الطرائد بالرماح والسهام، ولا حتى بـبنادق الصيد؛ لأنها وقعت في فخاخ الصيّادة، وتم حجرها في مستعمرات الحضائر والحواضن والمزارع والحقول وما إليه من ممتلكات خاصة، المحمية بشكل متقن لا يسمح بفرار الطرائد القوية كما يحصل في الطبيعة. ويتم رعايتها "حضاريا" بالأعلاف الكيميائية، وتسميهنا بالهرمونات وتسريع نموها بالأمصال، حتى ساعة الانقضاض عليها في المذابح والمسالخ والمثارم، وترحيلها الى مستودعات التبريد أو التجميد، معامل التعليب والتجفيف، محال التسويق و وسائط التصدير وخلافه، وهذا ما نطلق عليه بلغة التلقين الحضاري "استئناس وتدجين".
اليوم نركض وراء الطرائد بأداة خفيفة، ندسها في جيوبنا أو نودعها في البنوك. وحتى نصطاد عملة ورقية، نلهث كل يوم لتأدية خدمة ما أو عمل، بعد اكتساب مهارة معينة، وقد يمر اكتسابها بمراحل طويلة الأمد من التدريب والفحص تستهلك الكثير من أعمارنا وأموالنا. هذه الطريق الوعرة المدججة بالحواجيز الاصطناعية، باتت من مستلزمات الحضارة، نطالب بها، ننتفض من أجلها أو نثور. مع أنها قد لا توصلنا في نهاية المطاف الى طريدة كاملة كل شهر، بل فخذ منها أو شريحة قد تكون قادمة من الهند أو البرازيل، وإلاّ سنكتفي مرغمين بالاقتيات على الطرائد النباتية.
يتمثل الصراع من أجل البقاء بثنوية "الافتراس والاحتتات"، الواضحة تماما في عالم الكائنات غير العاقلة. لكنها في ذات الوقت، تبدو أكثر وضوحا في عالم الكائنات العاقلة، هذا لو تخطينا الفهم الحرفي لها، وتخلينا عن تلك المنمقات اللغوية والاصطلاحات التي نطلقها على الأحداث والأفعال بالكثير من الرزانة والتحضر؛ مقتربين من لغة الطبيعة. فالافتراس قد يكون من أجل بقاء فكري أو عقائدي، أو من أجل بقاء نظرية أقتصادية أو تسويق منتجات استهلاكية وما إليه. الثورة الصناعية بلغة الطبيعة، والثورة النانوية أو ثورة الصغائر المتضائلة التي نرفل بـمقدماتها اليوم؛ افتراس للنظام البيئي وتخريب كارثي وشيك. التقانة الزراعية حيث فلاحة الأرض أكثر من مرة في العام ومعالجتها بالأسمدة الكيميائية؛ افتراس لخصوبة التربة وفتك بمحيطها الحيوي. استخراج مصادر الاحتراق، افتراس نهم لخزين الأرض الذي لا يمكن للطبيعة تعويضه إلآ بعد عصور جيولوجية طويلة قد لا نحظى بفرصة طيبة للتعدي عليه كرّة أخرى. الزحف العمراني، افتراس للغابات وتبشير لكائناتها بالهجرة أو الانقراض. بناء سد، افتراس لجبروت النهر أو قمع لثورات المياه، مع أنها تختلف تماماً عن ثورات البشر، لأنها تحقق توازنا طبيعيا. وهلم جرا.. يبدو أن صراعنا من أجل البقاء بات صراعاً مستديماً مع أمنا الطبيعة، لـ إخضاعها، أو تركيعها لسلطة الصيّادة وقد أنجبتهم أبناء لها عقلاء، لا من أجل الفتك بها، بل للتحالف معها في صراعها مع محيطها الكوني، من أجل بقائها كوكباً حياً على هامش درب التبانة.
أما الاحتتات، فهو اسلوب التغذية الآخر، أي الاقتيات على ما يتركة الصائد المفترس خلفه من أشلاء فريسته أو حتاتها المتفسخ عضويا. فشريحة لحم، أو عبوة نقانق، أو مكعبات مرقة دجاج، تلك التي ندفع ثمنها، محض حتات لطرائد لا نعلم مَن اصطادها، أو ربما من أنتجها في المختبرات من أنسجة الطرائد. وقد لعب العلم دوراً عظيماً في هذا المجال لأنه عالج ظاهرة التفسخ العضوي وقدم لنا "حتات" يبدو طازجاً بالعين المجردة. أما اقتناء البائر من السلع والبضائع والمعدات العسكرية وخلافه، فلا يخرج عن كونه احتتات صناعي. وثمة احتتات تكنولوجي، واحتتات اقتصادي ..الخ.. ولثنوية الافتراس والاحتتات صور أكثر شمولية، فالطريدة قد تكون رقعة جغرافية سمينة، يلهث وراءها الصيادة حتى افتراسها، وترك اشلائها للاحتتات الداخلي والأقليمي أو العالمي. ونشهد اليوم الكثير من الطرائد الجغرافية المرموقة وهي تعيش ربيعاً مفعماً بالافتراس والاحتتات.
يبدو الصراع في بعض أحواله كأنه ديانة سماوية، فقد أنتج الكثير من المحرمات العلمية، التي لو تسربت الى نور الحلال بفتوى غير رأسمالية، ستعصف بالاقتصاد القائم على مصادر الطاقة التقليدية الملوثة للبيئة، وتغير نظرتنا الى رأس المال، بتوفير طاقة حرة نظيفة وبكلفة رمزية. ونشير هنا الى كتاب الفيزياء المحرمة على الشعوب لمؤلفه بيتر لينديمان، وهو كتاب مثير للغاية يجعلك تحلم بفردوس الطاقة البديلة وتستيقظ بـ جحيم الفحم والبترول. وثمة محرمات خاصة بالمعسكر الطبي والمجمع الصناعي للأدوية وغيرها من الحقول، وضع دساتيرها المصممة من أجل الترهيب والمطاردة والاغتيال؛ صيادة مهرة أحكموا قبضتهم على سيولة الصيد، وسيطروا على ما يُطرح من علوم في المؤسسات التعليمية، وحجبوا علوم مذهلة لا تحقق لهم فائدة تجارية.. وقد نحكي عن هذه المحرمات في فصل آخر..
لسنا هنا ضد الحضارة، ولكن من مهمات أي حضارة بتصورنا، أن تشقّ طريقا سالكة الى لقمة العيش قبل أي شيء، وتحرر العلوم من قبضة المعسكرات النفعية الى أهدافه النبيلة، وأن تخلق توازنا بيئيا في كل ما تقدمه من إنجازات وما تتركه من آثار فلا تخذل أمنا الطبيعة.
ونختم بسؤال أدركنا بمرارته: هل ثمة تعارض بين الحضارة والانسجام الحميمي مع الطبيعة؟ أو بتعبير آخر، إذا كانت الكائنات غير العاقلة تحقق التوازن مع الطبيعة في صراعها من أجل البقاء ولا تخل بنظامها البيئي؛ فهل العقل، هو العقبة في طريقنا؟